الجيل الشاب يبنى تجاربه بنفسه... وأمام أفول ما أُطلقت عليه تسمية «ربيع عربى» ها هو يعيش اليوم شكوكا فى كل شىء... شكوكًا فى هويته... وشكوكًا فى بلده الذى يجنح إلى الهروب منه بأى ثمن...
رغم ذلك، أيقظ شعور الجيل القديم بالهرم ضرورة أن ينقُلَ إلى الجيل الشاب أن تجارب الشعوب تراكمية، سلسلة من التفاعلات الاجتماعية المتعاقبة، يُعرِفُ كل جيلٍ فيها الأجيال التالية بنجاحاته وإخفاقاته بغية تعلمِ دروسها وتُراكِم معرفة اجتماعية تصنع مستقبلها... هذا كى لا يدفع الشك فى الهوية البلاد إلى هوة العدم...
***
تركيبةُ الهوية فى البلدان العربية خاصةٌ بها. هوية «وطنية» ضمن حدودٍ تشكلت أغلبها فى القرن العشرين وليست «مصطَنَعة» وموقع شكٍ بها أكثر من تلك التى تعرفها أنحاءٌ أخرى من العالم، حتى فى أوروبا أو أقاصى آسيا. هذا فى حين لا يزيد تبنى إسقاطات تاريخية من شرعيتها، مثل الفينيقية على لبنان وحده، أو حتى الفرعونية على مصر وحدها. هذه الهوية الوطنية صنعَت مؤسسات دولة تضاهى مثيلاتها فى العالم.
بالتأكيد تحوى هوية كل بلد مستويات متعددة. مستويات «إثنية/لغوية»، مثل حال الكرد والأمازيغ، ومستويات دينية/مذهبية، وكذلك مناطقية وحضرية، تنعكس حتى فى اللهجات المحكية، مثل ما بين دمشق وحلب، بين تونس العاصمة وصفاقس، بين طرابلس الغرب وبنغازى...
وبالتأكيد لا مُشكلة فى هذه المستويات المختلفة من هويات «ما قبل الدولة»، إذا ما كانت الدولة هى دولة «مساواة فى المواطنة»، فى الوقت الذى يتم فيه احترام حريات هذه الهويات الجزئية. لكن المشكلة هى فى التلاعب بهذه الهويات داخليا وخارجيا.
وهوية البلدان العربية تحوى أيضا أبعادا عربية وإسلامية نتيجة التاريخ واللغة. فهى وريثة الحضارة «العربية ــ الإسلامية» التى كثيرا ما تُختزَل فى بعدها الدينى وحده، دون رؤية أنها كانت باتساعها وتعاملها مع شعوبٍ مختلفة هى ذاتها وريثة للحضارة الرومانية أكثر من أوروبا. البُعد الدينى واضح، إلا أنه يتَصِف بالتعددية التى استمرت مع التاريخ، ليس فقط فى المذاهب الإسلامية والعلاقة مع المسيحية واليهودية، بل أيضا فى استمرارية ديانات ومذاهب مثل اليزيدية والشبك والزردشتية وغيرها التى بقيت حية دون أن تزول، رغم حقبات التزمت المذهبى المتعاقبة.
يبقى البعد العربى من الهوية أكثر حداثة. وأتى بروزه مع «عصر النهضة» ونهاية الإمبراطورية العثمانية، للقفز فوق الهويات المذهبية. وهو قوى لأنه يستنِد إلى اللغة وإلى التواصل الثقافى. وأخذ قوة أكبر مع «العدوان الثلاثى» على مصر والطموح إلى «وحدة عربية»، قبل أن يتلقى صدمة «نكسة» 1967. والمفارقة أن العدوان الثلاثى ذاته كان قد دفع دولا أوروبية لتوقيع معاهدة روما التى أسست لاحقا للاتحاد الأوروبى.
لكن الهوية العربية لا تعنى الشىء ذاته فى كل البلدان. فهى ترمز أحيانا إلى العشائر أو أيضا إلى سُكان بلدان الجزيرة العربية من العرب. ولكنها فى الأساس تميز البلدان العربية عن تركيا وإيران المجاورتين ودول أخرى فى إفريقيا. هذا رغم الشراكة التاريخية مع كل تلك فى الحضارة «العربية ــ الإسلامية». كما تميزها عن أوروبا التى تتشارك معها... فى البحر المتوسط.
قضية فلسطين أساسية بالنسبة للبعد العربى، ربما أكثر مما هو بالنسبة للبعد الإسلامى. ليس فقط لأن الفلسطينيين متعددو الهويات الدينية، وفلسطين فيها القدس وبيت لحم. بل لأن اغتصابها كدولة ذات هوية وحيدة «يهودية» نقيض العروبة والمساواة فى المواطنة على السواء.
هنا أيضا لا مشكلة مع البعدين الإسلامى والعربى فى هوية شعوب البلدان العربية، خاصة مع استمرار الطموح فى تحقيق تجمعات إقليمية «عربية» بين الدول، هى أكثر تقبلا من شعوبها.
***
هذه المستويات والأبعاد كلها تمثل إرث هذه البلدان وهويتها، بما فيها الهوية «الوطنية»... الحديثة. ويجب ألا تؤدى صعوبات الزمن الحالى إلى الانغلاق على جزءٍ منها. بل تدعو على العكس، إلى زيادة المعرفة بالذات. إن الكثير من أبناء وبنات الشعوب العربية تغيب عن وعيهم معرفة حقيقة بلادهم وإرثها. فالشعب المصرى يتجاهل تاريخه الفاطمى والمملوكى، والبحرينى تاريخه القرمطى، والسورى أمراءه الزنكيين، وأهل المغرب العربى سيادة أساطيلهم على البحر المتوسط... ويتجاهل أبناء كل مذهب تواجد المذاهب الأخرى وتاريخها... كما تتجاهل كل مدينةٍ إرث المدن الأخرى...
إن نقل المعرفة لا يكون فقط عن التاريخ القديم والإرث، بل أيضا عن التاريخ الحديث ونضالاته... نجاحاته وإخفاقاته... وهذه مهمة ليست سهلة. ليس فقط لأن منظرى الدولة الوطنية الحديثة أخذوا ما شاءوا من التاريخ والهوية وأسقطوا ما عدا ذلك. وليس فقط لأن طبيعة البشر إلقاء اللوم حيال الفشل دوما على الآخرين. بل خاصة لأن الإنتاج الفكرى والإعلامى يخضع اليوم لهيمنة قوى تدفع للترويج لسرديات تستهدف أجزاء من الإرث وتُلغى التعددية وتمحو النضالات وتوهِم بانتصارات (خلبية) لا وجود لها.
نقل المعرفة من جيلٍ إلى جيل، ومن ذاكرة جمعية إلى ذاكرة جمعية، أساسٌ للحفاظ على الثقة بالهوية... وبالمستقبل. فشعوب البلدان العربية راسخة فى التاريخ ولا يُمكن محوها... وهى فى كل مرحلة تتعلم من إرثها ومن العالم حولها... ولا تخلو من نساءٍ ورجالٍ أوفياء، بعضهم «هَرِمَ» ولكنه يوثق ويُعلِم ويوقِظ على الإرث والواقع، وبعضهم شبابٌ يتعلمون وينبشون فكرا ويبحثون عن توحيد الصوت لتحدى الأقدار. ليس وفاء للأقدمين، بل وفاء لبلادهم وأهلها.
فى المحصلة، لا تكمُن المشكلة فى الهوية بقدر ما هى فى بناء الدولة كمؤسسة لجميع مواطنيها ومواطناتها. فالمساواة فى المواطنة تواجهها استحقاقات عملية أمام الموروثات، والحرية والديموقراطية التى نادى بهما شباب «الربيع العربى» لا يُمكن أن تجد أساسهما دون... مؤسسة دولة قادرة وفاعلة.
----------
الشروق
رغم ذلك، أيقظ شعور الجيل القديم بالهرم ضرورة أن ينقُلَ إلى الجيل الشاب أن تجارب الشعوب تراكمية، سلسلة من التفاعلات الاجتماعية المتعاقبة، يُعرِفُ كل جيلٍ فيها الأجيال التالية بنجاحاته وإخفاقاته بغية تعلمِ دروسها وتُراكِم معرفة اجتماعية تصنع مستقبلها... هذا كى لا يدفع الشك فى الهوية البلاد إلى هوة العدم...
***
تركيبةُ الهوية فى البلدان العربية خاصةٌ بها. هوية «وطنية» ضمن حدودٍ تشكلت أغلبها فى القرن العشرين وليست «مصطَنَعة» وموقع شكٍ بها أكثر من تلك التى تعرفها أنحاءٌ أخرى من العالم، حتى فى أوروبا أو أقاصى آسيا. هذا فى حين لا يزيد تبنى إسقاطات تاريخية من شرعيتها، مثل الفينيقية على لبنان وحده، أو حتى الفرعونية على مصر وحدها. هذه الهوية الوطنية صنعَت مؤسسات دولة تضاهى مثيلاتها فى العالم.
بالتأكيد تحوى هوية كل بلد مستويات متعددة. مستويات «إثنية/لغوية»، مثل حال الكرد والأمازيغ، ومستويات دينية/مذهبية، وكذلك مناطقية وحضرية، تنعكس حتى فى اللهجات المحكية، مثل ما بين دمشق وحلب، بين تونس العاصمة وصفاقس، بين طرابلس الغرب وبنغازى...
وبالتأكيد لا مُشكلة فى هذه المستويات المختلفة من هويات «ما قبل الدولة»، إذا ما كانت الدولة هى دولة «مساواة فى المواطنة»، فى الوقت الذى يتم فيه احترام حريات هذه الهويات الجزئية. لكن المشكلة هى فى التلاعب بهذه الهويات داخليا وخارجيا.
وهوية البلدان العربية تحوى أيضا أبعادا عربية وإسلامية نتيجة التاريخ واللغة. فهى وريثة الحضارة «العربية ــ الإسلامية» التى كثيرا ما تُختزَل فى بعدها الدينى وحده، دون رؤية أنها كانت باتساعها وتعاملها مع شعوبٍ مختلفة هى ذاتها وريثة للحضارة الرومانية أكثر من أوروبا. البُعد الدينى واضح، إلا أنه يتَصِف بالتعددية التى استمرت مع التاريخ، ليس فقط فى المذاهب الإسلامية والعلاقة مع المسيحية واليهودية، بل أيضا فى استمرارية ديانات ومذاهب مثل اليزيدية والشبك والزردشتية وغيرها التى بقيت حية دون أن تزول، رغم حقبات التزمت المذهبى المتعاقبة.
يبقى البعد العربى من الهوية أكثر حداثة. وأتى بروزه مع «عصر النهضة» ونهاية الإمبراطورية العثمانية، للقفز فوق الهويات المذهبية. وهو قوى لأنه يستنِد إلى اللغة وإلى التواصل الثقافى. وأخذ قوة أكبر مع «العدوان الثلاثى» على مصر والطموح إلى «وحدة عربية»، قبل أن يتلقى صدمة «نكسة» 1967. والمفارقة أن العدوان الثلاثى ذاته كان قد دفع دولا أوروبية لتوقيع معاهدة روما التى أسست لاحقا للاتحاد الأوروبى.
لكن الهوية العربية لا تعنى الشىء ذاته فى كل البلدان. فهى ترمز أحيانا إلى العشائر أو أيضا إلى سُكان بلدان الجزيرة العربية من العرب. ولكنها فى الأساس تميز البلدان العربية عن تركيا وإيران المجاورتين ودول أخرى فى إفريقيا. هذا رغم الشراكة التاريخية مع كل تلك فى الحضارة «العربية ــ الإسلامية». كما تميزها عن أوروبا التى تتشارك معها... فى البحر المتوسط.
قضية فلسطين أساسية بالنسبة للبعد العربى، ربما أكثر مما هو بالنسبة للبعد الإسلامى. ليس فقط لأن الفلسطينيين متعددو الهويات الدينية، وفلسطين فيها القدس وبيت لحم. بل لأن اغتصابها كدولة ذات هوية وحيدة «يهودية» نقيض العروبة والمساواة فى المواطنة على السواء.
هنا أيضا لا مشكلة مع البعدين الإسلامى والعربى فى هوية شعوب البلدان العربية، خاصة مع استمرار الطموح فى تحقيق تجمعات إقليمية «عربية» بين الدول، هى أكثر تقبلا من شعوبها.
***
هذه المستويات والأبعاد كلها تمثل إرث هذه البلدان وهويتها، بما فيها الهوية «الوطنية»... الحديثة. ويجب ألا تؤدى صعوبات الزمن الحالى إلى الانغلاق على جزءٍ منها. بل تدعو على العكس، إلى زيادة المعرفة بالذات. إن الكثير من أبناء وبنات الشعوب العربية تغيب عن وعيهم معرفة حقيقة بلادهم وإرثها. فالشعب المصرى يتجاهل تاريخه الفاطمى والمملوكى، والبحرينى تاريخه القرمطى، والسورى أمراءه الزنكيين، وأهل المغرب العربى سيادة أساطيلهم على البحر المتوسط... ويتجاهل أبناء كل مذهب تواجد المذاهب الأخرى وتاريخها... كما تتجاهل كل مدينةٍ إرث المدن الأخرى...
إن نقل المعرفة لا يكون فقط عن التاريخ القديم والإرث، بل أيضا عن التاريخ الحديث ونضالاته... نجاحاته وإخفاقاته... وهذه مهمة ليست سهلة. ليس فقط لأن منظرى الدولة الوطنية الحديثة أخذوا ما شاءوا من التاريخ والهوية وأسقطوا ما عدا ذلك. وليس فقط لأن طبيعة البشر إلقاء اللوم حيال الفشل دوما على الآخرين. بل خاصة لأن الإنتاج الفكرى والإعلامى يخضع اليوم لهيمنة قوى تدفع للترويج لسرديات تستهدف أجزاء من الإرث وتُلغى التعددية وتمحو النضالات وتوهِم بانتصارات (خلبية) لا وجود لها.
نقل المعرفة من جيلٍ إلى جيل، ومن ذاكرة جمعية إلى ذاكرة جمعية، أساسٌ للحفاظ على الثقة بالهوية... وبالمستقبل. فشعوب البلدان العربية راسخة فى التاريخ ولا يُمكن محوها... وهى فى كل مرحلة تتعلم من إرثها ومن العالم حولها... ولا تخلو من نساءٍ ورجالٍ أوفياء، بعضهم «هَرِمَ» ولكنه يوثق ويُعلِم ويوقِظ على الإرث والواقع، وبعضهم شبابٌ يتعلمون وينبشون فكرا ويبحثون عن توحيد الصوت لتحدى الأقدار. ليس وفاء للأقدمين، بل وفاء لبلادهم وأهلها.
فى المحصلة، لا تكمُن المشكلة فى الهوية بقدر ما هى فى بناء الدولة كمؤسسة لجميع مواطنيها ومواطناتها. فالمساواة فى المواطنة تواجهها استحقاقات عملية أمام الموروثات، والحرية والديموقراطية التى نادى بهما شباب «الربيع العربى» لا يُمكن أن تجد أساسهما دون... مؤسسة دولة قادرة وفاعلة.
----------
الشروق