نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


الهوية الوطنية ضحية العنف وعبادة الشخصية(2)







2 – في العنف بوصفه هندسةً سياسية
بدل دين الوطنية، أسّس النظام الجديد دين عبادة الشخصية، فصار التقرّب من الأسد وأعوانه، والتسبيح بحمده والإعلاء من شأنه الدين الوحيد الساري والمقبول في بلدٍ تضاعف سكانه أكثر من مرّتين في ظل حكمه. ولا نبالغ إذا قلنا إنه لم يعد للدولة ومؤسساتها وظيفة سوى نشر هذه العبادة الجديدة وبناء مؤسّساتها وبلورة شعاراتها وطقوسها، وإعدام الكفرة بها وتعقّب المنافقين والمارقين فيها ومعاقبتهم. وهي الوظيفة ذاتها التي أوكلت لمؤسسات المجتمع المدني، من معابد وهيئات دينية وأحزاب سياسية شرعية ونواد ثقافية واجتماعية، لقاء الاعتراف بوجودها.


هكذا حلّت أجهزة الأمن وفروعها التي لا تُحصى في المحافظات والمدن والأحياء والقرى والدوائر الرسمية والنوادي والجمعيات الأهلية ترتيباتها محلّ الدولة الرسمية. وصارت دولة موازية فعليا تدير شؤون المجتمع في جميع الميادين، وليس السياسية والقمعية منها فحسب، فهي تتحكّم برخص تأسيس الشركات والجمعيات والمؤسسات، صغيرها وكبيرها، والإشراف على إدارتها، وعلى إدارة أمكنة العبادة وتعيين الأئمة ورؤساء الدوائر وموظفيهم، بما في ذلك ترتيب أوضاع أحزاب “المعارضة” وفرض المسؤولين فيها، وتغييرهم أو تسريحهم. وعندما أراد بشار الأسد أن يعطي عربونا على إرادته الإصلاحية ألغى شرط موافقة أجهزة الأمن على ما يقرب من ثلاثمائة مهنة، من دكان الحلاقة إلى بائع الحمص أو منظف الأحذية.
ثلاثة أطراف مثّلت سورية الأسد وشكّلت شخصيتها أو هويتها السياسية: الأسد نفسه، وأجهزة المخابرات، وطبقة الفاسدين الذين التفّوا حول النظام من كل الأحزاب والطوائف والتيارات. وهذا هو الثالوث الذي تحوّل إلى غولٍ ابتلع السوريين البشر، وأعاد إنتاجهم ضحايا وجلادين ومشرّدين يبحثون عن وطنٍ بديل يؤويهم.
في مثل هذا الوضع، من الطبيعي أن لا تتشكّل وطنية ولا ينشأ، أقل من ذلك بكثير، مفهوم المواطنة، بما تعنيه من حقوق، وأولها السيادة الشخصية، بل أن تبزغ فكرة الحقوق ذاتها، فما دمنا نعيش بفضله وفي ظله وتحت وصايته ورعايته، ونؤمن بأنه الملهم والعبقري وخالق سورية الجديدة ومخرجها من العدم ومنقذها من الموت والفناء، فنحن لا نملك حقوقا غير ما يتكرّم لنا به، ولا يكون لوجودنا بأكمله معنى إلا بمقدار ما نسبّح بحمده، ونظهر الاستعداد للموت في سبيل رفعة اسمه وسمعته.
والحال لا تولد الوطنية، بمعنى الولاء للوطن، أي الشعب والدولة والقانون، والاستعداد للتضحية من أجله، ولا تنمو إلا لقاء ما يضمنه الوطن والشعب والدولة للفرد من حقوق المواطنة التي لا يمكن أن توفرها له أي دولة أخرى، فمادّتها ومحرّكها المشاركة في منظومة الحقوق التي يعتمد عليها الأفراد في تنظيم حياتهم، أي علاقاتهم، والتي يراهنون عليها من أجل ضمان الانسجام في مصالحهم المتباينة، وفي بناء قاعدة التضامن والتكافل فيما بينهم، فقراء وأغنياء وريفيين ومدينيين، ومؤمنين وغير مؤمنين. وأهم من ذلك، في تأمين الحماية للفرد والجماعات أمام الاعتداءات الداخلية والخارجية. وعندما تفتقر الشعوب إلى هذه الحقوق التي تعبر عن التعاقد على قواعد مشتركة للعيش وحل الخلافات وتحقيق الوحدة والتفاهم، أو عندما تحرم منها، لا يبقى هناك ما يربط بين أفرادها من مبادئ ولا ما يربطهم بالدولة. وتنحطّ العلاقات الاجتماعية إلى مستوياتٍ دنيا تحكمها الغرائز والانفعالات، وتفتقر لأي مبادئ سياسية أو أخلاقية، ويسودها الخوف المتبادل وانعدام الثقة والأنانية.
هكذا بقيت “السورية” صفةً للجنسية مرتبطة ببطاقة الهوية، وهي تكاد تُختصر اليوم بالفعل في جواز السفر الذي لا يصلح من دونه حتى اللجوء في بلدان العالم الأخرى، فهي هوية جوفاء سياسيا لم يعد أحد من السوريين وغيرهم يُعنى بها. وقد تحوّلت بعد أن كسدت عبادة الأسد إلى كابوس كلّف سعي الوريث لإعادة إحيائها دمار دولة الأسد نفسها وخرابها.
فبعكس الوطنية التي تعني الاشتراك في مجموعة من الحقوق والواجبات التي تجعل من الفرد مواطنا، أي رقما سياسيا، لا تعني الجنسية شيئا سوى التابعية الإدارية لدولةٍ معترف بها في نظام العلاقات الدولية تحدّد مكان إقامة الفرد ومكان ولادته. لكنها لا تجعل منه مواطنا، أي عضوا في جماعة سياسية غايتها الارتقاء بمستوى حياة أعضائها المادية والأخلاقية، وهذا ما يرمي إليه الاعتراف بالحقوق والحرّيات الأساسية وتأمينها. والدولة الحديثة من دون حقوق، وبالتالي، من دون قانونٍ يحكم علاقات أفرادها، تتحوّل إلى سلطة احتلال، تفرض نفسها على الناس بالقوة المحض، ولا تستمدّ شرعية وجودها من ولاء الأفراد الطوعي ومشاركتهم في المسؤولية. عندئذ، لا يبقى للأفراد خيار آخر لضمان الحد الأدنى من التواصل والتضامن والتعاون، سوى المراهنة على تفعيل هوياتهم الأهلية ما قبل السياسية، أي التي لا علاقة لوجودها بالدولة، وإحياء ما اندرس منها أو كاد، واستخدامها عند اللزوم لمواجهة تغوّل الدولة وحماية أنفسهم من بطشها.
----------
سوريا الامل

د. برهان غليون
الثلاثاء 5 يوليوز 2022