تقاسم الأدوار هذا، انسحب ليس فقط على الطائفتين الإسلاميتين (في ظل انكفاء مسيحي) بل على طوائف ومذاهب أخرى من خلال أحزابها الطائفية أيضاً، التي رأت أنه يجب أن تكون من ضمن المحاصصة التي بدأت تأخذ شكلها بتدرج سريع حرص النظام السوري على أن يديرها بدهاء يجعل من الاستحالة قيام أي مشروع تغييري حقيقي من خارج الطائفية السياسية التي كان على الطائف أن يلغيها. مع الوقت، تمرّست الأحزاب الطائفية في التعاطي مع الدولة كمؤسسة ربحية تضمن استمرارها من خلال التقديمات التي تؤمنها هذه الأحزاب من حساب الدولة. صارت العلاقة مع مناصريها تبدأ وتنتهي بقدرتها على التوظيف وتأمين المساعدات والتقديمات على أشكالها، ولكل طائفة تقريباً خُلق لها صندوق يؤمن تمويل أحزابها، أو حزبها.
بدأ الاستنزاف يكبر شيئاً فشيئاً مع سياسة مصرفية تخديرية تخدم التوجه الزبائني العام. ومع الوقت صار لزاماً على رجال السلطة أن يبحثوا عن سُبل لاستمرار تدفق المال لحسابات أحزابهم، ومع تراجع وغياب سياسات اقتصادية فاعلة صار توجه الحريري الأب الوحيد، نحو الغرب والإقليم الخليجي ليبدأ رحلة الاستدانة ويضمن استمرار النظام بصيغته نفسها.
توازياً مع ذلك، بقيت مشاريع الطوائف في حدودها الضيقة ومع الوقت روّض النظام أبناءه وهذا ما جعل الحاجة إلى الخارج أمراً لا بد منه، وكُل طائفة تعاطت مع راعيها الإقليمي كامتداد لوجودها من دون أدنى تقدير للنزعة الوطنية التي غابت ولا تزال عن هذه الأحزاب.
كان رفيق الحريري منذ العام 1982 رجل السعودية الأوّل في لبنان، وبعد الطائف، تكرّس هذا الدور وعمل الحريري على تقويته وتمتينه ونجح في ذلك مستفيداً من حاجة لبنانية لمال يُعيد الإعمار، فتحوّلت شيئاً فشيئاً شركة "سعودي أوجيه" التي يملكها، إلى الذراع السحرية للمملكة في بيروت بتوافق مع دمشق المستفيدة أيضاً من هذا الواقع. بالتالي، استطاع الحريري الأب أن يضمن في مرحلة ما بعد الطائف صعود السنية السياسية التي انكفأت في سنوات الحرب.
قبل اغتيال الحريري الأب، كانت البلاد مقسمة بعناية بين الأطراف الإقليمية مع صعود نزعة تحررية لم تخرج في غالبيتها من الإطار الإقليمي بل كانت ضمنه بخفر. بعد 14 شباط/فبراير 2005، صار الاشتباك واقعاً بين الثلاثة أو الاثنين، السعودي والإيراني مع تحوّل النظام السوري مع موت حافظ الأسد واستلام نجله بشار الحكم إلى ورقة إيرانية صرف، بعد أن كان والده يوازي بعناية مصالحه ومصالح الرياض وطهران.
ظهر الانقسام بشكل حاد بعد اغتيال الحريري، ومعه صار الصراع الإقليمي مكانه المركزي لبنان. انقسام بدأ حينها بـ 14 و8 آذار. الأولى حملت شعار حرية سيادة واستقلال مع قناعة لدى مكوناتها من الأحزاب الطائفية أن امتدادها العربي هو الأولوية، لتتحول هذه القناعة مع الوقت إلى أن يكون هذا الفريق جزءاً من الصراع الأوسع، بغض النظر عن مبررات أطرافه التي كانت تقول إنها تواجه آلة مسلّحة متجذرة وبالتالي لابد لها من أن تجد حماية عربية لها.
الثانية، 8 آذار، بقيادة حزب الله الطرف المسلّح الذي أمّن استمرار سياسة الوصاية حتى بعد انسحاب جيش النظام السوري، حملت شعار محاربة إسرائيل والانتماء إلى محور الممانعة لتثبيت نفسها في صف إيران في مواجهة أخصامها العرب، وتحديداً السعودية.
على ضفاف هذين المسارين، وُلد خطاب سياسي محلي تبناه كُثر من سياسيين وإعلاميين ومحللين واقتصاديين ورجال أعمال، كُل حسب مصلحته، يوازي أين يقف في كُل ذلك، فيما غاب الشعور الوطني لدى غالبيتهم، ليتحول الموقف لديهم إلى مقياس لالتصاقهم بالراعي الإقليمي لا بالدولة التي لم تكن موجودة في أجندة كُثر، ولن تكون. من هنا يبدو كلام وزير الإعلام جورج قرداحي متماهياً مع السياق اللبناني العام. الرجل قبل أن يُصبح وزيراً قال ما يعتقد به، فهو مع محور الممانعة ويتماهى معه إلى النهاية ولا جديد في قوله إنه ضد حرب اليمن، وسبق أن قال مراراً إنه مع بشار الأسد في ما يُمارسه من جرائم ضد شعبه، وهو نفسه، كان قبل سنتين حين كان مُستفيداً من أموال السعودية من خلال عمله كإعلامي في قناة "أم بي سي"، قد كال المديح لولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
وقرداحي صورة عن السياسة اللبنانية الآن ومنذ زمن. مشاريع استتباع لا علاقة لها بما هو وطني. جموح في محاباة الرُعاة. معظمهم يفهمها بشكل خاطئ، إذ إن الانتماء إلى مشروع ليس بمشكلة، ولكن المشكلة أن يتحوّل هذا المشروع إلى أولوية على حساب القضايا الوطنية أو أن يتحوّل ليُسخّر لبنان من أجل مصالح إقليمية.
الأمثلة لا تُحصر في هذا السياق، فبعد قرار دول خليجية طرد سفراء لبنان لديهم واستدعاء سفرائها، ظهر في الطرف الموالي للسعودية من يوحي بأن الرضى السعودي بالنسبة له يُسابق حتى انتمائه لبلده، من دون أن يطلب منهم أحد ذلك، بل العكس، في بيانها مثلاً، كانت السعودية واضحة، فهي "لا تعتبر أن ما يصدر عن السلطات اللبنانية معبراً عن مواقف الجالية اللبنانية المقيمة في المملكة والعزيزة على الشعب السعودي".
أكثر من ذلك، لا يسأل الجانبان المحليان المتصارعان لماذا وصلنا إلى هذا الدرك الذي نحن فيه. هناك في الداخل اللبناني من هو مُستعد في كلا الضفتين، كي يذهب بالبلاد إلى "الجحيم" من أجل استرضاء الراعي الإقليمي، علماً أن الزعماء السياسيين لا يحابون طرفاً على آخر من أجل مصلحة عليا لبلدهم، هي في رأس سعرها محاباة من أجل مصلحة أحزابهم على أبواب استحقاقات وبعد أن وصلت الدولة إلى الهلاك ولم يعد فيها أي فلس يُصرف على المناصرين لشراء ذممهم.
جعجع وفي مقابلة له على قناة العربية في نيسان/أبريل 2020 يقول: "لا أندم على وصول رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية هو جزء من مشكلة وهناك عدة مشاكل أوصلتنا إلى هنا ولا أندم ولا لحظة على ترشيحي له".
واللافت في كُل ذلك أن جعجع اليوم يُعد هو الحليف الأول للسعودية في لبنان، والأصح أنه الحليف الفعلي الأوحد. قبل أن يغادر سفير الرياض في لبنان وليد البخاري الأراضي اللبنانية بعد أن استدعته دولته، كان في معراب مقر رئيس حزب القوات، في رسالة للأطراف الداخليين عن العلاقة المتينة مع الأخير وتعويلهم عليه.
واللافت أيضاً أن هذا التصعيد الخليجي والحرص على إيصال رسالة دعمهم لجعجع، أتى بعد وقت قصير من أحداث الطيونة التي اتهم فيها أمين عام حزب الله حسن نصرالله القوات اللبنانية بالوقوف ورائها، وتذكيره لرئيسها وعبره لكل اللبنانيين بأنه يملك 100 ألف مقاتل، قبل أن يُطلق جملته الشهيرة: "تأدبوا، قعدوا عاقلين".
ومن الجدير التذكير أن حلفاء للمملكة مثل النائب السابق وليد جنبلاط سبق أن تناولوا حرب اليمن، إذ قال في تغريدة له على تويتر في تشرين الأول/ديسمبر عام 2017: "لاشك أن الاتصال الذي أجراه خادم الحرمين بالرئيس الروسي بوتين والذي شدد على رفع المعاناة عن اليمن يفتح باب امل بتسوية سياسية لهذه الحرب العبثية"، قبل أن يتراجع عنها لاحقاً.
وحسابات الطبقة السياسية اللبنانية في التعاطي مع دول الخليج ليست كما تبدو أو يحاولون تصويرها بأنها انطلاقاً من انتمائهم العروبي ومن موقع المملكة في الوطن العربي. غالباً الحسابات تنطلق من موقع ربحي أقرب إلى أن يكون ابتزازاً. يقتربون منها ويبتعدون وفقاً لما يدر عليهم هذا التحرك من مال يستخدمونه للتعويض عما يفوتهم من ربح في مؤسسات الدولة، هذا حين كانت الدولة لا تزال تدر عليهم المال لضمان التصاق المحازبين والمناصرين بشخصهم. ولا يخرج من هذا السياق مشهد سياسيين وإعلاميين وناشطين وفنانين وغيرهم وهم يتوافدون إلى دارة البخاري في اليرزة، في أيار/مايو 2021، ليتضامنوا مع المملكة على إثر تصريحات وزير الخارجية آنذاك شربل وهبة والذي وصف الخليجيين بالبدو وأثار أزمة دبلوماسية انتهت باستقالته من منصبه. يومها، استقبل البخاري المتضامنين في خيمة كخيم البدو، في رسالة واضحة أو رد مباشر على "إهانة" وهبة.
ورسالة السفير آنذاك عززها إدراكه أن كُثر سيأتون للتضامن ومُستعدون للقيام بأي شيء للتأكيد على أن صفحتهم بيضاء لا يشوهها تصريح من هنا أو هناك. والتعامل هذا لم تفرضه السعودية على اللبنانيين، بل انتهجه اللبنانيون الذين وإن استنكروا كلام وهبة، لكنهم بتعاطيهم مع هكذا أحداث يؤكدون أنهم ينظرون إلى الخليج من باب ضيّق أكثر من توصيف وهبة.
والسعودية من جهتها، كيف تعاملت مع حليفها الأوّل سعد الحريري؟ منذ انتخابات عام 2009 التي فاز بها ومد يده لحزب الله نتيجة لـ"السين سين" التي جعلته يذهب إلى بشار الأسد وينام في منزل المُتهم في قتل والده وهي تُضعفه أكثر فأكثر بغض النظر عن قدراته السياسية أو نجاحه في مقارعة خصومه وخصومها المشتركين، وليس أدلّ على ذلك قراءته، من الرياض، لبيان استقالته من الحكومة التي رأسها إثر التسوية الرئاسية.
الصورة المُقدمة من هذا الواقع لا تُبشر بالخير كثيراً، لكنها لم تؤثر أيضاً على حلفاء الحريري السابقين أو تُنذرهم أو تجعلهم يتعاطون بطريقة أخرى. المصلحة المُشتركة لا تعني بالضرورة التسليم النهائي، القراءة السياسية السعودية لا تعني أنها صائبة دائماً والتجربة خير برهان، بالتالي التحالف أو الحرص على المصالح الخليجية يستدعي مثلاً، بالحد الأدنى رأياً من خارج صندوق العبارات المعلبة والتي تبصم بالعشرة.
ولا يكترث السياسيون في لبنان لتحولات المنطقة. هذا يُعيد التأكيد على منطلق تعاطيهم مع الرعاة الإقليميين، فالمطلوب دائماً الرضى الذي يستتبعه الدعم المادي، خاصة وأن لبنان قد يكون على موعد بعد أشهر قليلة مع انتخابات نيابية ستخوضها الأحزاب السياسية وستستشرس في تحقيق مكاسب جديدة في بلاد أوصلوها إلى الانهيار التام.
في المقابل، محور الممانعة بأسره مطمئن ويعتز بتبعيته. كُل الأحزاب التي تنضوي تحت جناح حزب الله لا تكترث بالسيادة ولا حتى بالدولة ككل. متصالحون هم مع فكرة أن يكون لبنان ساحة وحجتهم في ذلك أن المعركة الكبرى مع إسرائيل تقودها إيران بعد سوريا المدمرة، وبالتالي في الحرب، وهم بغالبيتهم مجتمع حربي بامتياز، كُل شيء يجوز للوصول إلى الهدف وهو تحرير القدس الذي يمر في أكثر من 4 أو 5 عواصم عربية كي يتحقق!
يقول نصرالله في خطاب شهير: "نحن جنود ولاية الفقيه في لبنان". عبارة تختصر نظرتهم إلى لبنان كساحة، بينما الأحزاب المتحالفة معه فهي حكماً تمشي بما يقوله الحزب الكبير من دون نقاش أو رأي، أحزاب كبيرة وأخرى صغيرة وتيارات نبتت فجأة الهدف منها توسيع بيكار التابعين لتقوية النفوذ الإيراني وضرب النفوذ الآخر، السعودي وغير السعودي.
واللافت في كُل ذلك، أن الحكومة الحالية التي تدين بالولاء لحزب الله ترتضي أن ينضم إلى اجتماعها حول الأزمة القائم بأعمال السفارة الأميركية في لبنان ريتشارد مايكلز. هذا الواقع يُفيد أيضاً بأن الحزب المقاوم الذي بنى أمجاده على خطابات "الموت لأمريكا" مُستعد ولا يُمانع في أن تتدخل أميركا لحل الأزمة طالما هذا الأمر يخدمه، أو بالأحرى يخدم مصالح إيران. حجم التناقضات وأولوية المصالح لدى الأحزاب الطائفية تُقدم فكرة واضحة عن حال ما قبل وما بعد تصريح جورج قرداحي. ذهب بعض المحللين ليتحدث عن صدمة تقوم بها السعودية لاستنهاض القوى السيادية في لبنان. هناك أيضاً من كتب أن مواجهة الاحتلال الإيراني بدأتها المملكة ويجب الاستعداد لخوض هذه المعركة بقوّة.
في هذا الوقت كان وزير الخارجية يقول لمحطة "سي أن بي سي": "ما يحصل بين السعودية ولبنان ليس بأزمة ديبلوماسية وإنّما ما يحصل هو نتيجة توصلنا إليها في المملكة العربية السعودية مفادها أن التعامل مع حكومة لبنان الحالية غير مثمر وغير مفيد في ظلّ استمرار هيمنة حزب الله على المشهد السياسي (..) وعدم تحرك القادة السياسيين للدفع بلبنان نحو تغيير حقيقي يجعلنا غير مهتمين به"، مشيراً إلى أن هذا الموقف ليس فقط متعلقاً أو أتى على خلفية تصريحات قرداحي فقط.
وطبعاً، السعودية لم تُقرر اليوم مغادرة لبنان، بل هي غادته منذ سنوات، لكنها الآن تسحب سفيرها رداً على قرداحي. مُنذ التسوية الرئاسية التي كان جعجع حليف المملكة الوحيد أبرز مهندسيها والرياض لا تريد شيئاً من لبنان. الأدق القول إنها انسحبت منه منذ عام 2011.
وسط كل ذلك، يعيش اللبناني في بلاد الاغتراب وتحديداً في بلدان الخليج كغيره من ناحية ما له وما عليه من واجبات، يشقى ويعمل مقابل أجرٍ مثله مثل حال أي مغترب من أي جنسية كان، لكن الفارق أنه مُضطر أن يطلب السماح لشيء لم يقم به. يدفع ثمن علاقة غير سوية بين دول كلها ساهمت فيما وصل إليه. هو في النهاية يطلب ألا يُحاسب عما لم يقترفه. ذهب من لبنان بحثاً عن كرامة مفقودة في وطنه، ليجد أن النظام الذي دفعه للرحيل، يُلاحقه، ليبقيه ذليلاً، دائماً.
------------
رصيف ٢٢
تمرّست الأحزاب الطائفية في التعاطي مع الدولة كمؤسسة ربحية تضمن استمرارها من خلال التقديمات التي تؤمنها هذه الأحزاب من حساب الدولة
بدأ الاستنزاف يكبر شيئاً فشيئاً مع سياسة مصرفية تخديرية تخدم التوجه الزبائني العام. ومع الوقت صار لزاماً على رجال السلطة أن يبحثوا عن سُبل لاستمرار تدفق المال لحسابات أحزابهم، ومع تراجع وغياب سياسات اقتصادية فاعلة صار توجه الحريري الأب الوحيد، نحو الغرب والإقليم الخليجي ليبدأ رحلة الاستدانة ويضمن استمرار النظام بصيغته نفسها.
توازياً مع ذلك، بقيت مشاريع الطوائف في حدودها الضيقة ومع الوقت روّض النظام أبناءه وهذا ما جعل الحاجة إلى الخارج أمراً لا بد منه، وكُل طائفة تعاطت مع راعيها الإقليمي كامتداد لوجودها من دون أدنى تقدير للنزعة الوطنية التي غابت ولا تزال عن هذه الأحزاب.
كان رفيق الحريري منذ العام 1982 رجل السعودية الأوّل في لبنان، وبعد الطائف، تكرّس هذا الدور وعمل الحريري على تقويته وتمتينه ونجح في ذلك مستفيداً من حاجة لبنانية لمال يُعيد الإعمار، فتحوّلت شيئاً فشيئاً شركة "سعودي أوجيه" التي يملكها، إلى الذراع السحرية للمملكة في بيروت بتوافق مع دمشق المستفيدة أيضاً من هذا الواقع. بالتالي، استطاع الحريري الأب أن يضمن في مرحلة ما بعد الطائف صعود السنية السياسية التي انكفأت في سنوات الحرب.
بقيت مشاريع الطوائف في حدودها الضيقة ومع الوقت روّض النظام أبناءه وهذا ما جعل الحاجة إلى الخارج أمراً لا بد منه، وكُل طائفة تعاطت مع راعيها الإقليمي كامتداد لوجودها من دون أدنى تقدير للنزعة الوطنيةفي المقلب الآخر، كان مشروع الطائفة الشيعية يُطبخ على نار هادئة، نبيه بري يُدخل أبناء طائفته أفواجاً إلى مؤسسات الدولة، وحزب الله يبني ترسانة صواريخ وأسلحة تجعله رقماً صعباً في معادلات المنطقة، وهو ما تحقق شيئاً فشيئاً منذ عناقيد الغضب مروراً بالانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 وصولاً إلى حرب تموز في العام 2006 التي كانت المثال الصارخ عن كيف صارت إيران على الحدود الإسرائيلية، وبالتالي صار لبنان حُكماً ورقة مفاوضات على مائدتها النووية.
قبل اغتيال الحريري الأب، كانت البلاد مقسمة بعناية بين الأطراف الإقليمية مع صعود نزعة تحررية لم تخرج في غالبيتها من الإطار الإقليمي بل كانت ضمنه بخفر. بعد 14 شباط/فبراير 2005، صار الاشتباك واقعاً بين الثلاثة أو الاثنين، السعودي والإيراني مع تحوّل النظام السوري مع موت حافظ الأسد واستلام نجله بشار الحكم إلى ورقة إيرانية صرف، بعد أن كان والده يوازي بعناية مصالحه ومصالح الرياض وطهران.
ظهر الانقسام بشكل حاد بعد اغتيال الحريري، ومعه صار الصراع الإقليمي مكانه المركزي لبنان. انقسام بدأ حينها بـ 14 و8 آذار. الأولى حملت شعار حرية سيادة واستقلال مع قناعة لدى مكوناتها من الأحزاب الطائفية أن امتدادها العربي هو الأولوية، لتتحول هذه القناعة مع الوقت إلى أن يكون هذا الفريق جزءاً من الصراع الأوسع، بغض النظر عن مبررات أطرافه التي كانت تقول إنها تواجه آلة مسلّحة متجذرة وبالتالي لابد لها من أن تجد حماية عربية لها.
الثانية، 8 آذار، بقيادة حزب الله الطرف المسلّح الذي أمّن استمرار سياسة الوصاية حتى بعد انسحاب جيش النظام السوري، حملت شعار محاربة إسرائيل والانتماء إلى محور الممانعة لتثبيت نفسها في صف إيران في مواجهة أخصامها العرب، وتحديداً السعودية.
على ضفاف هذين المسارين، وُلد خطاب سياسي محلي تبناه كُثر من سياسيين وإعلاميين ومحللين واقتصاديين ورجال أعمال، كُل حسب مصلحته، يوازي أين يقف في كُل ذلك، فيما غاب الشعور الوطني لدى غالبيتهم، ليتحول الموقف لديهم إلى مقياس لالتصاقهم بالراعي الإقليمي لا بالدولة التي لم تكن موجودة في أجندة كُثر، ولن تكون.
قرداحي صورة عن السياسة اللبنانية الآن ومنذ زمن. مشاريع استتباع لا علاقة لها بما هو وطني وجموح في محاباة الرُعاة الإقليميين
وقرداحي صورة عن السياسة اللبنانية الآن ومنذ زمن. مشاريع استتباع لا علاقة لها بما هو وطني. جموح في محاباة الرُعاة. معظمهم يفهمها بشكل خاطئ، إذ إن الانتماء إلى مشروع ليس بمشكلة، ولكن المشكلة أن يتحوّل هذا المشروع إلى أولوية على حساب القضايا الوطنية أو أن يتحوّل ليُسخّر لبنان من أجل مصالح إقليمية.
الأمثلة لا تُحصر في هذا السياق، فبعد قرار دول خليجية طرد سفراء لبنان لديهم واستدعاء سفرائها، ظهر في الطرف الموالي للسعودية من يوحي بأن الرضى السعودي بالنسبة له يُسابق حتى انتمائه لبلده، من دون أن يطلب منهم أحد ذلك، بل العكس، في بيانها مثلاً، كانت السعودية واضحة، فهي "لا تعتبر أن ما يصدر عن السلطات اللبنانية معبراً عن مواقف الجالية اللبنانية المقيمة في المملكة والعزيزة على الشعب السعودي".
أكثر من ذلك، لا يسأل الجانبان المحليان المتصارعان لماذا وصلنا إلى هذا الدرك الذي نحن فيه. هناك في الداخل اللبناني من هو مُستعد في كلا الضفتين، كي يذهب بالبلاد إلى "الجحيم" من أجل استرضاء الراعي الإقليمي، علماً أن الزعماء السياسيين لا يحابون طرفاً على آخر من أجل مصلحة عليا لبلدهم، هي في رأس سعرها محاباة من أجل مصلحة أحزابهم على أبواب استحقاقات وبعد أن وصلت الدولة إلى الهلاك ولم يعد فيها أي فلس يُصرف على المناصرين لشراء ذممهم.
هناك في الداخل اللبناني من هو مُستعد في كلا الضفتين، كي يذهب بالبلاد إلى "الجحيم" من أجل استرضاء الراعي الإقليمي، علماً أن الزعماء السياسيين لا يحابون طرفاً على آخر من أجل مصلحة عليا لبلدهم، هي في رأس سعرها محاباة من أجل مصلحة أحزابهموالسياسة في لبنان تتغير، كما في كل بلدان العالم، ولكن مثلاً يُمكن أن تجد زعيماً سياسياً يحارب خصومه بما تسبب به هو. يقف اليوم زعيم القوات اللبنانية سمير جعجع مُدافعاً عن السعودية من منطلق أن العهد كرّس الاحتلال الإيراني، فيما هو نفسه أتى بميشال عون رئيساً للجمهورية وهو نفسه من رفض الخروج من معادلة "أوعى خيّك" لأنها قد تُخسره مسيحياً.
جعجع وفي مقابلة له على قناة العربية في نيسان/أبريل 2020 يقول: "لا أندم على وصول رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية هو جزء من مشكلة وهناك عدة مشاكل أوصلتنا إلى هنا ولا أندم ولا لحظة على ترشيحي له".
واللافت في كُل ذلك أن جعجع اليوم يُعد هو الحليف الأول للسعودية في لبنان، والأصح أنه الحليف الفعلي الأوحد. قبل أن يغادر سفير الرياض في لبنان وليد البخاري الأراضي اللبنانية بعد أن استدعته دولته، كان في معراب مقر رئيس حزب القوات، في رسالة للأطراف الداخليين عن العلاقة المتينة مع الأخير وتعويلهم عليه.
واللافت أيضاً أن هذا التصعيد الخليجي والحرص على إيصال رسالة دعمهم لجعجع، أتى بعد وقت قصير من أحداث الطيونة التي اتهم فيها أمين عام حزب الله حسن نصرالله القوات اللبنانية بالوقوف ورائها، وتذكيره لرئيسها وعبره لكل اللبنانيين بأنه يملك 100 ألف مقاتل، قبل أن يُطلق جملته الشهيرة: "تأدبوا، قعدوا عاقلين".
ومن الجدير التذكير أن حلفاء للمملكة مثل النائب السابق وليد جنبلاط سبق أن تناولوا حرب اليمن، إذ قال في تغريدة له على تويتر في تشرين الأول/ديسمبر عام 2017: "لاشك أن الاتصال الذي أجراه خادم الحرمين بالرئيس الروسي بوتين والذي شدد على رفع المعاناة عن اليمن يفتح باب امل بتسوية سياسية لهذه الحرب العبثية"، قبل أن يتراجع عنها لاحقاً.
وحسابات الطبقة السياسية اللبنانية في التعاطي مع دول الخليج ليست كما تبدو أو يحاولون تصويرها بأنها انطلاقاً من انتمائهم العروبي ومن موقع المملكة في الوطن العربي. غالباً الحسابات تنطلق من موقع ربحي أقرب إلى أن يكون ابتزازاً. يقتربون منها ويبتعدون وفقاً لما يدر عليهم هذا التحرك من مال يستخدمونه للتعويض عما يفوتهم من ربح في مؤسسات الدولة، هذا حين كانت الدولة لا تزال تدر عليهم المال لضمان التصاق المحازبين والمناصرين بشخصهم.
اللبنانيون وإن استنكروا كلام وهبة، لكنهم بتعاطيهم مع هكذا أحداث يؤكدون أنهم ينظرون إلى الخليج من باب ضيّق
ورسالة السفير آنذاك عززها إدراكه أن كُثر سيأتون للتضامن ومُستعدون للقيام بأي شيء للتأكيد على أن صفحتهم بيضاء لا يشوهها تصريح من هنا أو هناك. والتعامل هذا لم تفرضه السعودية على اللبنانيين، بل انتهجه اللبنانيون الذين وإن استنكروا كلام وهبة، لكنهم بتعاطيهم مع هكذا أحداث يؤكدون أنهم ينظرون إلى الخليج من باب ضيّق أكثر من توصيف وهبة.
والسعودية من جهتها، كيف تعاملت مع حليفها الأوّل سعد الحريري؟ منذ انتخابات عام 2009 التي فاز بها ومد يده لحزب الله نتيجة لـ"السين سين" التي جعلته يذهب إلى بشار الأسد وينام في منزل المُتهم في قتل والده وهي تُضعفه أكثر فأكثر بغض النظر عن قدراته السياسية أو نجاحه في مقارعة خصومه وخصومها المشتركين، وليس أدلّ على ذلك قراءته، من الرياض، لبيان استقالته من الحكومة التي رأسها إثر التسوية الرئاسية.
الصورة المُقدمة من هذا الواقع لا تُبشر بالخير كثيراً، لكنها لم تؤثر أيضاً على حلفاء الحريري السابقين أو تُنذرهم أو تجعلهم يتعاطون بطريقة أخرى. المصلحة المُشتركة لا تعني بالضرورة التسليم النهائي، القراءة السياسية السعودية لا تعني أنها صائبة دائماً والتجربة خير برهان، بالتالي التحالف أو الحرص على المصالح الخليجية يستدعي مثلاً، بالحد الأدنى رأياً من خارج صندوق العبارات المعلبة والتي تبصم بالعشرة.
القراءة السياسية السعودية لا تعني أنها صائبة دائماً والتجربة خير برهان، والتحالف أو الحرص على المصالح الخليجية يستدعي مثلاً، بالحد الأدنى رأياً من خارج صندوق العبارات المعلبة والتي تبصم بالعشرةويأتي هذا الاشتباك اللبناني حول قرداحي وكلامه في وقت فتحت السعودية خط تواصل مباشر مع إيران، وسبق وصرح وزير خارجيتها فيصل بن فرحان قبل أسبوعين أن "المحادثات مع إيران كانت ودية" وقال: "نحن جادون بشأن المحادثات.. الأمر ليس تحولاً كبيراً بالنسبة لنا، فدائماً ما نقول إننا نريد إيجاد سبيل لتحقيق الاستقرار في المنطقة".
ولا يكترث السياسيون في لبنان لتحولات المنطقة. هذا يُعيد التأكيد على منطلق تعاطيهم مع الرعاة الإقليميين، فالمطلوب دائماً الرضى الذي يستتبعه الدعم المادي، خاصة وأن لبنان قد يكون على موعد بعد أشهر قليلة مع انتخابات نيابية ستخوضها الأحزاب السياسية وستستشرس في تحقيق مكاسب جديدة في بلاد أوصلوها إلى الانهيار التام.
في المقابل، محور الممانعة بأسره مطمئن ويعتز بتبعيته. كُل الأحزاب التي تنضوي تحت جناح حزب الله لا تكترث بالسيادة ولا حتى بالدولة ككل. متصالحون هم مع فكرة أن يكون لبنان ساحة وحجتهم في ذلك أن المعركة الكبرى مع إسرائيل تقودها إيران بعد سوريا المدمرة، وبالتالي في الحرب، وهم بغالبيتهم مجتمع حربي بامتياز، كُل شيء يجوز للوصول إلى الهدف وهو تحرير القدس الذي يمر في أكثر من 4 أو 5 عواصم عربية كي يتحقق!
يقول نصرالله في خطاب شهير: "نحن جنود ولاية الفقيه في لبنان". عبارة تختصر نظرتهم إلى لبنان كساحة، بينما الأحزاب المتحالفة معه فهي حكماً تمشي بما يقوله الحزب الكبير من دون نقاش أو رأي، أحزاب كبيرة وأخرى صغيرة وتيارات نبتت فجأة الهدف منها توسيع بيكار التابعين لتقوية النفوذ الإيراني وضرب النفوذ الآخر، السعودي وغير السعودي.
واللافت في كُل ذلك، أن الحكومة الحالية التي تدين بالولاء لحزب الله ترتضي أن ينضم إلى اجتماعها حول الأزمة القائم بأعمال السفارة الأميركية في لبنان ريتشارد مايكلز. هذا الواقع يُفيد أيضاً بأن الحزب المقاوم الذي بنى أمجاده على خطابات "الموت لأمريكا" مُستعد ولا يُمانع في أن تتدخل أميركا لحل الأزمة طالما هذا الأمر يخدمه، أو بالأحرى يخدم مصالح إيران.
بالنسبة لأحزاب الممانعة كُل شيء يجوز للوصول إلى الهدف وهو تحرير القدس الذي يمر في أكثر من 4 أو 5 عواصم عربية كي يتحقق!
في هذا الوقت كان وزير الخارجية يقول لمحطة "سي أن بي سي": "ما يحصل بين السعودية ولبنان ليس بأزمة ديبلوماسية وإنّما ما يحصل هو نتيجة توصلنا إليها في المملكة العربية السعودية مفادها أن التعامل مع حكومة لبنان الحالية غير مثمر وغير مفيد في ظلّ استمرار هيمنة حزب الله على المشهد السياسي (..) وعدم تحرك القادة السياسيين للدفع بلبنان نحو تغيير حقيقي يجعلنا غير مهتمين به"، مشيراً إلى أن هذا الموقف ليس فقط متعلقاً أو أتى على خلفية تصريحات قرداحي فقط.
وطبعاً، السعودية لم تُقرر اليوم مغادرة لبنان، بل هي غادته منذ سنوات، لكنها الآن تسحب سفيرها رداً على قرداحي. مُنذ التسوية الرئاسية التي كان جعجع حليف المملكة الوحيد أبرز مهندسيها والرياض لا تريد شيئاً من لبنان. الأدق القول إنها انسحبت منه منذ عام 2011.
وسط كل ذلك، يعيش اللبناني في بلاد الاغتراب وتحديداً في بلدان الخليج كغيره من ناحية ما له وما عليه من واجبات، يشقى ويعمل مقابل أجرٍ مثله مثل حال أي مغترب من أي جنسية كان، لكن الفارق أنه مُضطر أن يطلب السماح لشيء لم يقم به. يدفع ثمن علاقة غير سوية بين دول كلها ساهمت فيما وصل إليه. هو في النهاية يطلب ألا يُحاسب عما لم يقترفه. ذهب من لبنان بحثاً عن كرامة مفقودة في وطنه، ليجد أن النظام الذي دفعه للرحيل، يُلاحقه، ليبقيه ذليلاً، دائماً.
------------
رصيف ٢٢