ومن اللافت أنه في الوقت الذي يغض فيه بعض المدافعين عن أنظمة الاستبداد، ممن ينتسبون للعلم الشرعي، والمؤسسات الدينية الرسمية، الطرف تماما عن كل أشكال الظلم الذي تمارسه أنظمة الاستبداد، فإنهم يشتدون في تجريم الحلقة الأضعف ألا وهم ضحايا الأنظمة السلطوية القمعية، بحجة أنهم نازعوا أولياء الأمر في سلطاتهم، ولم يلتزموا بوجوب طاعتهم، وتحريم الخروج عليهم، حتى لو بالكلام.
في هذا الإطار يرى خبير الإدارة الاستراتيجية والتربوية، الدكتور إبراهيم منسي، أن "رواد مواقع التواصل الاجتماعي يعبرون عن الظواهر سلبية كانت أم إيجابية بعفوية شعبية، وببساطة أقرب للنظرة الصادقة تجاه تلك الظاهرة، ومصطلح (المسلم الكيوت) أحد تلك المصطلحات العامة التي وصفت ظاهرة الترخص المبتذل للدين والتدين" على حد قوله.
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "ذلك الترخص الذي يحاول أصحابه دوما إبراز الناحية الناعمة من الدين ومحاولة إخفاء الناحية الخشنة، ومنطلق هؤلاء المترخصين دوما هو "حتى لا يُقال عن ديننا أنه فيه عنف أو إرهاب"، علما بأن النهج القويم الذي يجب تبنيه حين نصدر أحكام ديننا ونصوصه، منطلقا من (ماذا يجب أن يقولوا عنا) وهو النهج التوجيهي القيادي التأثيري، بدلا من النهج التبعي التخاذلي الذائب في نظرة الآخر".
وتابع: "والله تعالى يريد لنا أخذ الدين بكليته، وعدم اجتزائه إرضاء لهوى الذات أو أهواء الآخرين، لقوله تعالى ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85]".
وعن الأسباب التي تجعل بعض من ينتسبون للعلم الشرعي يغضون الطرف عن إدانة مختلف صور ظلم الأنظمة السلطوية، مع المسارعة في مهاجمة ضحاياها، قال الأكاديمي والناشط الإسلامي منسي: "هي الأهواء الذاتية بالدرجة الأولى، وحمل الآخرين على ما تطيقه ذات المتصدرين للعلم، والعمل على سحب كل ذات دأبت على توسيع دائرة التضحية والصبر والاحتساب".
وأردف: "أو قد يكون نتيجة توظيف المستبد للمبتَذَلين من أهل العلم، المترخصين لدرجة الذوبان في إرادة ذلك المستبد، مما يجعل ذلك المستبد ـ صراحة ـ وكأنه مصدر من مصادر التشريع، والعجيب أن هؤلاء من شدة دأبهم على ذلك المسلك باتوا يعتقدون باستحسان صنيعهم، فيرون شر ذلك المستبد خيرا، ويرون خير المتحللين من سطوته شرا مستطيرا تجب مجابهته، عبر الشيطنة والتحريض باسم الدين على كل نهج تحرري".
وواصل: "هذا النوع من أهل العلم، يتصرفون وكأنهم يعتبرون وجودهم على منابر الظالمين نصرا للإسلام في ظلال اشتداد الأذى على الإسلام والمسلمين، آخذين بالأحكام الشاذة التي تبرر ذلك الاصطفاف المقيت الذي يصب في خانة الظالمين، ولا يرفع ضيما عن المظلومين".
من جهته قال الباحث الشرعي الكويتي، المتخصص في العقيدة الدكتور محمد عبدالله المطر: "عادة ما يطلق مصطلح (المسلم الكيوت) على الشخص المسلم أو العالم أو طالب العلم الشرعي الذي يظهر عليه نوع من التهاون، أو التنازل في تطبيق أحكام الشرع المختلفة".
وأضاف: "وأحكام الشرع تنقسم في هذا المجال إلى قسمين: الأول الأحكام الفقهية العامة المتعلقة بممارسات الشخص من حيث المظهر والخطاب والعمل والعادات، والثاني: ما يتعلق منها بالمجال السياسي في الواقع العربي".
وأكدّ المطر في تصريحاته لـ"عربي21" على أن لفكرة التنازل أو الموازنة أدلتها وتطبيقاتها في الشريعة الإسلامية، وفي الممارسة الإسلامية، ضمن ضوابط شرعية معروفة، كما حدث مع الرسول عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية، وكما في تطبيقات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في بعض الأحكام".
وتابع: "لكن المعول عليه في ذلك كله إنزال تلك الأحكام على الواقع إنزالا صحيحا، فهناك تطبيقات وتنازلات تؤدي إلى المساس بأحكام وأصول وقواعد شرعية ثابتة، وليس ثمة ضرورة تدعو إلى ذلك، كموالاة الأنظمة السلطوية، والدفاع عن الظلم والاستبداد، وتبرير الممارسات القمعية، أو التطبيع مع العدو الصهيوني".
وواصل: "وهناك فتاوى قد يُنظر إليها في وقت ما على أنها تنازل وتساهل، لكن يظهر فيما بعد صوابها، ويأخذ بها كثير من العلماء والفقهاء" ممثلا لذلك "بالتصوير الفوتوغرافي" الذي كان يعد من يفتي بجوازه قبل عدة عقود متساهلا ومفرطا، لكن غالب الفقهاء باتوا يرون جوازه بعد التشدد السابق في تحريمه، وأصبحوا لا يجدون حرجا في التصوير والظهور على الفضائيات".
ولفت الانتباه إلى أن "بعض المواقف التي قد تكون محل نقد واعتراض في مرحلة ما، قد يظهر صوابها في وقت لاحق، وأن من اتخذ تلك المواقف بناها على رؤية صحيحة، وتقدير مدروس ودقيق، مع أنه واجه حين اتخاذه لذلك الموقف سيلا من النقد والاعتراض، وربما الطعن والتجريح".
بدوره قال الباحث في العلوم الشرعية، وتحقيق التراث، صالح سهيل حمودة: "هذا المصطلح (المسلم الكيوت) يطلقه بعض الناس من باب التنابز بالألقاب، ويقصدون أن من وُصف به غالبا ما يكون ممن يتنازلون عن مبادئهم، أو ممن يتبنى إسلاما منزوع الدسم، أو ما هو قريب من هذه المعاني".
وتابع: "وللأسف فإن من يطلقون مثل هذه المصطلحات والتعابير هم ممن يخلطون بين الدين الرباني المنزل وبين التراث، فيجعلونهما شيئا واحدا، فيكون كل من خالف بعض ما جاء في كتب التراث عندهم متنازلا أو مميعا، مثل تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم، وما يتعلق بفتاوى الجهاد، متناسين أن ما جاء في تلك الكتب هي اجتهادات الأئمة والعلماء المناسبة لزمانهم وبيئاتهم، وهي قابلة للأخذ والرد".
وردا على سؤال "عربي21" حول انحياز بعض من ينتسبون للعلم الشرعي، أو المؤسسات الدينية الرسمية للأنظمة السلطوية المستبدة، والدفاع عنها، مع أنهم في الوقت نفسه لا ينتقدون ظلم الأنظمة، ويسكتون عن قمعها، أكّد حمودة أنه "لا يدافع عن الاستبداد، ولا يقف في صف المستبدين، ولا يدافع عمن يدافعون عن الاستبداد" مستدركا بالقول: "لكن هناك من يختار السكوت، ويؤثر الابتعاد عن السياسة فلا ينبغي أن يقال عمن هذا حاله أنه يدافع عن تلك الأنظمة أو يبرر لها".
وختم حديثه بالإشارة إلى أن "العلماء والدعاة قد يختلفون في فقه الأولويات، ومن الوارد أن تتباين اجتهاداتهم في تقدير المصالح، وقد يرى بعضهم أنه من الأنفع لهم ولعامة المسلمين الاشتغال بتعليم العلم الشرعي، وتحفيظ القرآن الكريم، وإلقاء دروس الوعظ والإرشاد، والاشتغال بما يعود على المسلمين بالنفع والفائدة، بعيدا عن الاشتغال بالسياسة، أو الانخراط في القضايا العامة، فلا ينبغي أن ينظر إلى من اختار ذلك على أنه متخاذل أو وصفه بـ"المسلم الكيوت" أو شابه ذلك
------------
عربي ٢١".