لكن أخطر الساحات وأكثرها تعرضاً للاستباحة هي الساحة التربوية. في هذه الساحة هناك مجموعة من المشكلات التي لن تحل إلا إذا اتخذ القرار الرسمي المعبر عن إرادة سياسية تعتبر الدفاع عن لغتنا القومية الأم قضية مقدسة.
1- هناك أولاً مشكلة الأمية التي طال أمد وجودها في الوطن العربي وأصبحت عاراً قومياً لا يشرف أحداً. من بين ثلاثمائة وخمسين مليون عربي هناك حوالي ثمانين مليون أمي. ولو جمع الأميون على شبه الأميين فإن نسبة الأمية في الوطن العربي ستصل إلى أكثر من ثلاثين في المائة. والدولة العربية تستطيع إنهاء مشكلة الأمية خلال بضع سنين لو أنها ربطت تخرج الطلبة الجامعيين وطلبة الثانوية، وترقية الموظفين الحكوميين في القطاعين المدني والعسكري، والحصول على مختلف القروض، والتمتع بمختلف الامتيازات في القطاعين العام والخاص، لو ربطت كل ذلك مع مساهمة كل فرد من هؤلاء في برامج محو الأمية. ولقد فعلت العديد من دول العالم مثل ذلك ونجحت. وليس بالإمكان الدخول في كثير من التفاصيل التي من خلالها تستطيع الدولة عمل الكثير الكثير لإنهاء مشكلة الأمية. بمحو أمية ثمانين مليون عربي ستزيد الحكومات العربية نسبة المقبلين على قراءة الكتاب العربي المأزوم بشكل كبير مؤثر.
2- هناك إشكالية مستوى اللغة العربية في المدارس الخاصة، وعلى الأخص الأجنبية منها، ذلك أن التوجهات الجديدة في ساحة التعليم العربي تعطي أفضلية لحاجات مؤسسات الأسواق العولمية على المحافظة على الهوية الثقافية العربية. ولما كانت الشركات والمؤسسات العالمية الكبرى، العابرة للقارات، هي التي تتحكم في سيرورة الأسواق العربية فإنها تشترط إجادة اللغات الأجنبية ولا تعير بالاً لإجادة اللغة الأم. من هنا التراجع المذهل في إجادة اللغة العربية عند أغلبية الخريجين من المدارس الخاصة.
ومن المؤكد أن الحكومات تستطيع حل هذه الإشكالية باتخاذ قرار واحد: أن لا يتخرج أي عربي من أي مدرسة ثانوية خاصة إلا إذا نجح في امتحان وطني في اللغة العربية. ومن الممكن أن يكون ذلك الامتحان في أساسيات اللغة وليس في فروعها وتفاصيلها الصغيرة. عند ذاك ستقوم إدارات المدارس ويقوم أولياء الأمور والطلبة بجهودهم الخاصة المختلفة لعبور ذلك الامتحان الوطني.
3- هناك إشكالية ازدواجية اللغة عند التلميذ العربي: لغة الكتابة والقراءة الفصحى، ولغة التحدث العامية. إن جزءاً كبيراً من هذه الإشكالية يمكن حله بجعل لغة التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية اللغة الفصحى أو القريبة من اللغة الفصحى. إن ذلك وحده كاف لإدخال الكثير من التعابير الفصحى في خطاب التلميذ اليومي. إضافة لذلك هناك حاجة ماسة لمراجعة علمية تربوية لسانية موضوعية إلى أبعد الحدود للقضية المختلف عليها: قضية البدء بتعليم اللغات الأجنبية في الصف الأول الابتدائي أم تأجيلها بضع سنين إلى حين ترسخ اللغة الأم في عقل ووجدان الطفل العربي.
4- إن قضية تعريب الجزء الأكبر من التعليم العالي، وعلى الأخص العلوم الاجتماعية والإنسانية، قد نوقشت كثيراً. ومن المؤكد إمكان عمل الكثير في هذا الحقل أيضاً.
ويستطيع الإنسان إضافة الكثير مما يمكن للدولة العربية أن تفعله إذا كانت تريد حقاً حل أزمة الكتاب العربي التي تشرف على أن تكون كارثة ثقافية. إن اللغة العربية واسعة وغنية بمفرداتها ودقة تعابيرها، وهي قادرة على المرونة والتطور، وبالتالي فإن حمايتها لن يغلق الباب أمام حداثة الأمة وعصرنة المجتمعات كما يدعي البعض. إن في حل إشكاليتها حل الإشكاليات الثقافية التي ستظل المدخل الأساسي للمشاعر والمشاريع الوحدوية القومية التي أصبح الرجوع إلى بناء الوعي بها قضية حياة أو موت لأمة تتكالب عليها الإحن والمحن من كل صوب.
مع التقدير لما أتى في المقالة فهي لا تعبر بالضرورة عن رأي حركة القوميين العرب