دافع هؤلاء جميعاً، خلال أيام الأزمة المصرية الساخنة، كما هو جدير بأية جماعة ليبرالية، عن الحريات والفصل بين السلطات، التي رأوا أن إعلان الرئيس الدستوري يكبلها ويتجاوز عليها، ونادوا بإلغاء الاستفتاء المزمع على مشروع الدستور المصري الجديد، الذي رأوا أنه يؤسس لحكم ديني ولا يكفل حقوق التعبير عن الرأي.
هؤلاء، إذن، ديمقراطيون، تعدديون، منحازون لمزيد من الحريات السياسية والحفاظ على الدولة المصرية من سيطرة الإسلاميين ونزعات الأسلمة.
هذه هي الصورة التي أراد معسكر المعارضة الإيحاء بها للمصريين، للرأي العام العربي، وللعالم. ولكن الحقيقة تبدو أكثر تعقيداً واختلافاً.
لنأخذ، مثلاً، حديث الأستاذ هيكل لمحطة السي بي سي، إحدى أكثر محطات التلفزة المصرية تأثيراً، والمملوكة لأحد رجال الأعمال البارزين. ليس من المتيقن متى سجل الحوار مع الأستاذ، ولكن ما يمكن استنتاجه من ثنايا الحديث أنه سجل في اليوم التالي لمسيرة المعارضة إلى قصر الرئاسة، المعروف أحياناً بقصر العروبة أو قصر الاتحادية، مساء الثلاثاء 4 كانون الأول/ديسمبر.
قال الأستاذ هيكل في الحديث الكثير من الأشياء، ولكن ما يلفت الانتباه بصورة خاصة أنه أشاد بحشد المعارضة في ميدان التحرير ووصفه بالاستعادة الباهرة لروح ثورة كانون ثاني/يناير 2011، وبالتحرك نحو قصر الرئاسة ومحاصرته باعتباره خطوة متقدمة، تخرج المعارضة من حدود ميدان التحرير الضيقة.
والواضح أنه يقصد بذلك حدود الأفق السياسي لحركة المعارضة، وليس المكاني وحسب. وفي استدعاء لافت للتاريخ، قال الأستاذ هيكل أن مظاهرة المؤيدين للرئيس واعتصامهم أمام المحكمة الدستورية يذكره بحريق الحزب النازي للرايخستاغ، البرلمان الألماني، الذي كان الخطوة الأولى نحو وقوع ألمانيا تحت سيطرة الاستبداد النازي.
المشكلة في مثل هذا الخطاب، أن موقف الأستاذ هيكل من الثورة المصرية، ومن كافة الثورات العربية، ظل ملتبساً إلى حد كبير، وأن حديثه المفاجئ، بعد غياب طويل، في شأن مسار الثورة المصرية، لمذيعة معروفه بعدائها المسعور للرئيس والقوى الإسلامية، يأتي والرئيس يواجه أزمة طاحنة، يعتقد معارضوه أنها ستطيح به. وكأن الأستاذ، الذي لم يخف مطلقاً شكوكه في حقيقة الثورات العربية ومآلاتها، يريد أن يسهم في محاصرة الرئيس وإضعافه، وإن كان أكد على أن مطلب إطاحة الرئيس ليس مبرراً.
والمدهش، أن الأستاذ هيكل تجاهل في حديثه حقيقة أن لحظة الأزمة، التي تتصف بانقسام بالغ في الرأي العام، لا يمكن أن تمثل استعادة لروح ثورة كانون ثاني/يناير الإجماعية. أما المدهش، أكثر من ذلك، فكان تجاهل الأستاذ هيكل للمظاهرات التي حاصرت مجلس الشورى، المنتخب في اقتراع حر وشفاف، وإلقاء زجاجات المولوتوف على مقره، وتلك التي تحاصر قصر العروبة، حيث مقر الرئيس المنتخب بإرادة شعبية حرة وشفافة، وتحاول اقتحامه؛ بينما يزعجه الاعتصام السلمي أمام المحكمة الدستورية، التي عين قضاتها من قبل الرئيس المخلوع وتوافرت أدلة لا حصر لها على تورطها في إرباك المرحلة الانتقالية وتأبيد مناخ عدم الاستقرار في البلاد وتعطيل بناء مؤسسات الدولة الجديدة. فما هي الصورة الأكثر استدعاء لحريق الرايخستاغ، فعلاً، اعتصام الدستورية، أو حصار وتخريب ومحاولة اقتحام المؤسسات المنتخبة؟
مثل هذا التناقض في حديث الأستاذ هيكل، كان السمة الرئيسية لخطاب المعارضة الليبرالية وكافة تحركاتها تقريباً.
وافق قادة المعارضة 'الليبرالية' على تشكيل الجمعية التأسيسية من البداية، وشاركوا في أعمالها لخمسة شهور طوال، مشاركة فعالية ومؤثرة؛ وعندما لاح في أفق الجمعية خلافات حول بعض من المواد، جلس هؤلاء مع قادة الكتل الأخرى وتوصلوا إلى توافق حول المواد محل الخلاف. ولكن، وما إن بدا أن مشروع الدستور يقترب من لحظة الإنجاز، حتى قاد عمرو موسى وأيمن نور ووحيد عبد المجيد، وسط ضجيج إعلامي هائل، انسحاباً مدوياً من الجمعية.
طبقاً للمنسحبين، لم يكن دافع الانسحاب الخلاف المستعصي حول مواد ما، وحسب، بل وتشكيل الجمعية التأسيسية نفسها. وعندما أصدر الرئيس إعلانه الدستوري الإشكالي يوم 21 تشرين ثاني/نوفمبر، عارضت الكتلة الليبرالية، وعلى رأسها البرادعي وصباحي ومجموعة المنسحبين من التأسيسية، ليس الإعلان الدستوري، وحسب، بل وحق الرئيس، المؤسس قانونياً ودستورياً، في إصدار الإعلان. كان الاعتراض على الإعلان واجباً، سيما على مادتي التحصين وحق الرئيس المطلق في اتخاذ إجراءات استثنائية، ولكن المبالغات في وصف الرئيس بالدكتاتورية، والدعوة لإسقاطه، والاعتراض على مجمل مواد الإعلان، يكذب ادعاء المعارضة بحماية الثورة والدفاع عن القضاء.
لماذا؟ لأن التخلص من النائب العام السابق كان مطلباً دائماً للشارع المصري، وهو ما أتاحه الإعلان الدستوري؛ ولأن منطق الإعلان كان الدفع نحو نهاية آجلة للمرحلة الانتقالية، ومن ثم تحديد صلاحيات الرئيس، حتى بالمقارنة برؤساء الجمهورية السابقين، ونزع الصلاحيات الاستثنائية التي اكتسبها بفعل قيام المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب المنتخب.
ولابد من التذكير، ربما، أن قرار المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب المنتخب تسبب في ما يمكن وصفه بالانقسام والشرخ في صفوف السياسيين والدستوريين المصريين، تماماً كما الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس. ولكن، وفي تباين صارخ، أشادت الكتلة 'الليبرالية' بتعدي المحكمة الدستورية على إرادة الشعب ومجلسه المنتخب، في الأولى، بينما نادت بإسقاط الرئيس، في الثانية. من جهة أخرى، كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة، خلال فترة حكمه البلاد، قد أصدر خمسة إعلانات دستورية، بدون اعتراض يذكر من الشخصيات التي تتصدر كتلة المعارضة اليوم.
الأكثر من ذلك، أن السيد البرادعي سبق، قولاً ونصاً، أن نادى باستمرار حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بدون أن يرى في ذلك تهديداً لـ 'مدنية' الدولة المصرية أو آمال الحرية التي حملتها الثورة.
من جهة ثالثة، وبعد أن ووجه إعلان الرئيس الدستوري بعاصفة لا حد لها من الحجج الدستورية والقانونية، إذا بالمعارضة الليبرالية تطالب الرئيس، في مخالفة دستورية واضحة، بإلغاء الاستفتاء على الدستور (الذي حدد بخمسة عشر يوماً من تاريخ تسلم الرئيس لمسودته، طبقاً لمواد الإعلان الدستوري لاذار/مارس 2011، التي أقرت في استفتاء شعبي). الأغرب في هذا المطلب أن المعارضة أرادت إلغاء الاستفتاء، بالرغم من رفضها الالتحاق بالحوار الوطني الذي عقد بدعوة من الرئيس طوال يوم 8 كانون ثاني/ديسمبر، وكان يفترض أن يبحث هذا المطلب أو أية مخارج أخرى من الأزمة.
وأخيراً، وهذا هو الأهم، فما لا يمكن التغافل عنه أن السمة الرئيسية لسياسات المعارضة 'الليبرالية' وخياراتها، ليس في هذه الأزمة وحسب، بل ومنذ سقوط النظام السابق، كانت خشيتها المزمنة من العودة إلى الشعب والخضوع لإرادته. وقف أغلب قادة المعارضة الحالية ضد الاستفتاء الشعبي على إعلان آذار/مارس 2011 الدستوري، وشككت في انتخابات مجلسي الشعب والشوري، (بالرغم من الأدلة المتعددة طوال أسابيع الانتخابات الطويلة على أن عبثاً محدوداً في العملية الانتخابية وقع ضد مصلحة المرشحين الإسلاميين) ولم تقبل إلا بصعوبة بالغة بفوز محمد مرسي في انتخابات الرئاسة، وتقف اليوم بصلابة تحسد عليها ضد العودة إلى الشعب ليقول كلمته في مشروع الدستور.
فما هي مشكلة معارضة مصر 'الليبرالية'، إذن؟ تحتاج مصر ما بعد الثورة، وأكثر من أي حقبة أخرى في تاريخها، معارضة سياسية قوية. ليس ثمة وعد بالحرية بدون معارضة.
ومصر، كما كل دول الثورة العربية، تحتاج معارضة ليبرالية فعالة، على وجه الخصوص. في حقبة صعود قوى الإسلام السياسي، لابد أن يبرز تيار قادر على بلورة عقلانية للجدل حول المستقبل، يعبر عن وجهة نظر مخالفة، ويقدم للشعب تصوراً مقنعاً لبدائل مستقلة ومنحازة لمنظومة الحقوق وتعظيمها.
ولكن المعارضة المصرية في صورتها الراهنه لا توحي بتمثيلها لهذا التيار، ولا تبعث اطمئناناً لقدرتها على حمل هذه القيم.
إحدى أسباب تعثر هذه المعارضة أن جذور الليبرالية المصرية لم تزل هشة وواهية، ليس فقط للانقسام العميق في صفوف الطبقة المصرية الوسطى بين الليبراليين والإسلاميين، ولكن أيضاً لطبيعة رأس المال الذي ترتكز إليه هذه المعارضة.
نشأ كل رجال الأعمال المعارضين أو المساندين للمعارضة، تقريباً، في ظل نظام الاستبداد السابق، وعاشوا على منحه وتسهيلاته، وبنوا ثرواتهم بالمشاركة في عملية النهب والإفساد التي أدارها، وتوسلوا لرضائه. أما السبب الآخر فيتعلق بهشاشة قيادات المعارضة ونفسها القصير. لا الدستور ولا الإعلان الدستوري، باعتراف أسامة الغزالي حرب، أحد أفشل الساسة المصريين وصوت المعارضة الأعلى، هو هدف المعارضة؛ بل إسقاط الرئيس. ولا يمكن فهم سعي المعارضة لإسقاط رئيس شرعي ومنتخب، تقف خلفه أغلبية شعبية، سوى يأس هذه المعارضة من المستقبل، من إمكانية أن تمارس السياسة كما ينبغي للسياسة أن تمارس، وأن تتحمل أعباء العمل السياسي كمعارضة مسؤولة، تخسر يوماً وتفوز يوماً آخر.