فالأرض المصرية يمكن أن تنتج القمح والقطن بوفرة لو كانت هنالك استراتيجية تقوم على مبدأ الغذاء قبل البناء، وهي استراتيجية كان الرئيس الراحل عبد الناصر حاول اعتمادها، لكن التطلع إلى إعداد مصر عسكريا تقدّم في برنامجه التنموي على مسألة الغذاء أولا، الذي كان يراه باستصلاح الأراضي وتخضير الصحراء، خصوصا أن نسبة الأراضي الصالحة للزراعة زمنذاك كانت خُمس المساحة الكلية لمصر. ونتذكر مع إخواننا المصريين حملة الترويج شعرا ونثرا، فضلا عن البرامج الإذاعية والأغاني الشعبية، وذلك بهدف غرس مشروع التخضير في الوجدان المصري. ولعل الإهانة الناشئة عن مد اليد المصرية للولايات المتحدة من أجل الحصول على معونة القمح كانت من جملة الدوافع لإنشاء السد العالي، على أساس أن مياه السد وتمديدات شبكة الكهرباء ستحقق للدولة القدرة على التخضير، وبالتالي على توسيع رقعة الأرض الزراعية والتركيز على زراعة القمح وغيره من المنتجات التي تلبي احتياجات مصر، التي تزداد مليونا من البشر مع نهاية كل سنة.
جاءت حرب 5 يونيو (حزيران) 1967 تدفع بتطلعات عبد الناصر إلى ملف المؤجلات. وبعدما كان يأمل بالدولة المكتفية قمحا ومنتجات زراعية أخرى، فإنه بدأ التركيز على إعادة بناء الجيش، وهذا يعني تطبيق شعار أطلقه زمنذاك، وهو «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، ولا أمر يتقدم على أمر إزالة آثار العدوان.
رحل عبد الناصر والاحتياجات إلى القمح مستمرة، بل إنها تزايدت بفعل زيادة عدد السكان، الأمر الذي حمل وريثه أنور السادات على استحداث برنامج الأمن الغذائي الذي لم يأخذ طريقه إلى المأمول منه نتيجة اصطدامه بطفرة البناء في القاهرة ومعظم المدن المصرية، وذلك في ظل سياسة الانفتاح التي أرادها السادات نقلة نوعية في المجتمع المصري من الاشتراكية إلى الاقتصاد الحر. وهذه الطفرة جاءت مع الأسف على حساب الاحتياجات الغذائية، وبالذات القمح، ذلك أن مشاريع البناء كانت تتم على الأراضي الصالحة للزراعة، وهكذا بات المشهد كالتالي: قضم متواصل لهذه الأراضي، وإقامة مدن سكنية وأبراج أحيانا على هذه الأراضي، ثم عندما وصل الحال في عهد حسني مبارك إلى أن الاحتياجات الغذائية، وبالذات القمح، قد تهدد رئاسته، فإنه قرر تنفيذ أوسع خطة زراعية، متساهلا مع مستثمرين عرب وأجانب في تملّك نسبة مغرية مما يتم استثماره.
وافترض مبارك أنه بهذه الخطة يوازن بين سد ما يمكن سده من الاحتياجات الغذائية، وبالذات القمح، واستمرار عملية البناء السكني، خصوصا أن الطفرة بدأت تجذب ملايين المصريين العاملين في الخارج، وهؤلاء كانوا يمدون الميزانية العامة للدولة بما من شأنه تحقيق نسبة أقل من العجز.
برحيل مبارك تكشّفت بضع حقائق، ومنها أن الاحتياط المتوافر من المواد الغذائية الاستراتيجية، وبالذات القمح، يزداد انحسارا، وأن الصديق الأميركي ليس على استعداد لغير تأمين المعونة العسكرية، الأمر الذي يستوجب من الرئيس محمد مرسي إيجاد حلول سريعة، خصوصا أن مصر زمن العطاء الوفير للقمح لم تعد على ذلك الحال، وأن الإنتاج السنوي من القمح لا يتجاوز الـ10 ملايين طن، وأن التفاهم الاضطراري بعد طول تأرجح مع السودان، الذي بموجبه سيتم آجلا توفير احتياجات القمح للبلدين وغير ذلك من المشاريع الزراعية المشتركة، لا يعالج الحال الراهنة، خصوصا أن المتوفر حتى مطلع أبريل (نيسان) 2013 من المخزون الاحتياطي للقمح لا يتجاوز ما يكفي لـ3 أشهر.
في ضوء هذا الجو الضاغط، قرر الرئيس الإخواني محمد مرسي طرق باب الكرملين يوم الخميس 18 أبريل 2013، وفتح صفحة من العلاقات مع الرئيس بوتين. ومثل هذه الخطوة تفيد الطرفين؛ ذلك أن الرئيس المصري يمكن أن يؤجل، في حال توفير احتياجات مصر من القمح الروسي، انفجار أزمة لا قدرة له ولا لجماعة الإخوان المسلمين على علاجها، كونها تتعلق بالبطون وليس بالعقول. أما الرئيس بوتين، فإنه يوظف الحاجة المصرية الشديدة الوطأة كورقة في منازلاته السياسية مع الإدارة الأميركية، وربما يشترط على الرئيس المصري اتخاذ موقف متساهل تجاه النظام السوري، كأن يتصرف كرئيس لمصر المحتاجة إلى القمح أولا، وليس كرئيس لمصر التي تريد مساندة الانتفاضة السورية ضد نظام الرئيس بشار، الذي تريد روسيا بقاءه وتدعمه سياسيا وعسكريا أفضل دعم. لكن ثمة بعض العُسْر في الموضوع؛ ذلك أن موسم القمح الحالي في روسيا ليس بالوفرة نفسها. لكن مهما كلّف الأمر، فإن بوتين لن يفوِّت هذه الفرصة الذهبية، خصوصا أنه بالقمح يمكن أن يستعيد المياه الدافئة، حيث إن بعض السفن الحربية والغواصات من الأسطول الروسي، التي ترسو إلى حين ربما في طرطوس، لا يقتصر الحق المعطى لها على المرور في قناة السويس، وإنما تعود هذه أو القليل منها إلى الرسو الطويل في الموانئ المصرية، كما كان الحال في زمن عبد الناصر، ثم طُويت صفحتها في الزمنين اللاحقين؛ زمن السادات الذي أنهى الوجود العسكري السوفياتي في مصر، متسببا بفعلته هذه في التقليل من هيبة القوة العظمى التي سرعان ما بدأت تتآكل ثم تنهار، بفعل انتفاضة غورباتشوف التي اقتنصها يلتسين، ثم أورثها هذا الأخير إلى بوتين الذي يتطلع إلى إعادة المجد إلى الكرملين في الصراع الدولي، ثم زمن مبارك الذي حاول بناء علاقة خجولة مع الكرملين لا تغيظ البيت الأبيض.
لكن ثمة تساؤلات في هذا الشأن، من بينها هل الإدارة الأميركية التي تراقب بالعين المجردة أحوال مصر، ويقال إنها متعاطفة مع حكم الإخوان المسلمين ستتسامح في أمر تنازل هؤلاء عن صداقة بلا حدود مع الولايات المتحدة إلى تجديد علاقة مع روسيا قد تنتهي إلى صداقة بلا حدود؟ وما هو معروف عن العم سام أنه لا يتحمل حكاية الشراكة.
ونخلص إلى تسجيل مفارقة تثير الاستغراب والأسى في الوقت نفسه، وهي أن مصر التي كانت ماضيا تسعى الدول الكبرى إلى طلب ودها، وتفرض من الشروط أغلاها على الطالبين، ها هي الآن، ومن أجل القمح في الدرجة الأولى، يشقى رئيسها الحالي في طلب الود من روسيا، علّها تمده ببضعة ألوف من أطنان القمح، بما يسد احتياجات بطون 80 مليون نسمة، وبمعدل 300 مليون رغيف يوميا. وهكذا فإن القمح سيبقى مستعبِدا أي حاكم مصري إلى أن تُخضَّر الصحراء ويتوقف التهام الإسمنت للربع المتبقي من مساحة الأراضي الزراعية.
رحل عبد الناصر والاحتياجات إلى القمح مستمرة، بل إنها تزايدت بفعل زيادة عدد السكان، الأمر الذي حمل وريثه أنور السادات على استحداث برنامج الأمن الغذائي الذي لم يأخذ طريقه إلى المأمول منه نتيجة اصطدامه بطفرة البناء في القاهرة ومعظم المدن المصرية، وذلك في ظل سياسة الانفتاح التي أرادها السادات نقلة نوعية في المجتمع المصري من الاشتراكية إلى الاقتصاد الحر. وهذه الطفرة جاءت مع الأسف على حساب الاحتياجات الغذائية، وبالذات القمح، ذلك أن مشاريع البناء كانت تتم على الأراضي الصالحة للزراعة، وهكذا بات المشهد كالتالي: قضم متواصل لهذه الأراضي، وإقامة مدن سكنية وأبراج أحيانا على هذه الأراضي، ثم عندما وصل الحال في عهد حسني مبارك إلى أن الاحتياجات الغذائية، وبالذات القمح، قد تهدد رئاسته، فإنه قرر تنفيذ أوسع خطة زراعية، متساهلا مع مستثمرين عرب وأجانب في تملّك نسبة مغرية مما يتم استثماره.
وافترض مبارك أنه بهذه الخطة يوازن بين سد ما يمكن سده من الاحتياجات الغذائية، وبالذات القمح، واستمرار عملية البناء السكني، خصوصا أن الطفرة بدأت تجذب ملايين المصريين العاملين في الخارج، وهؤلاء كانوا يمدون الميزانية العامة للدولة بما من شأنه تحقيق نسبة أقل من العجز.
برحيل مبارك تكشّفت بضع حقائق، ومنها أن الاحتياط المتوافر من المواد الغذائية الاستراتيجية، وبالذات القمح، يزداد انحسارا، وأن الصديق الأميركي ليس على استعداد لغير تأمين المعونة العسكرية، الأمر الذي يستوجب من الرئيس محمد مرسي إيجاد حلول سريعة، خصوصا أن مصر زمن العطاء الوفير للقمح لم تعد على ذلك الحال، وأن الإنتاج السنوي من القمح لا يتجاوز الـ10 ملايين طن، وأن التفاهم الاضطراري بعد طول تأرجح مع السودان، الذي بموجبه سيتم آجلا توفير احتياجات القمح للبلدين وغير ذلك من المشاريع الزراعية المشتركة، لا يعالج الحال الراهنة، خصوصا أن المتوفر حتى مطلع أبريل (نيسان) 2013 من المخزون الاحتياطي للقمح لا يتجاوز ما يكفي لـ3 أشهر.
في ضوء هذا الجو الضاغط، قرر الرئيس الإخواني محمد مرسي طرق باب الكرملين يوم الخميس 18 أبريل 2013، وفتح صفحة من العلاقات مع الرئيس بوتين. ومثل هذه الخطوة تفيد الطرفين؛ ذلك أن الرئيس المصري يمكن أن يؤجل، في حال توفير احتياجات مصر من القمح الروسي، انفجار أزمة لا قدرة له ولا لجماعة الإخوان المسلمين على علاجها، كونها تتعلق بالبطون وليس بالعقول. أما الرئيس بوتين، فإنه يوظف الحاجة المصرية الشديدة الوطأة كورقة في منازلاته السياسية مع الإدارة الأميركية، وربما يشترط على الرئيس المصري اتخاذ موقف متساهل تجاه النظام السوري، كأن يتصرف كرئيس لمصر المحتاجة إلى القمح أولا، وليس كرئيس لمصر التي تريد مساندة الانتفاضة السورية ضد نظام الرئيس بشار، الذي تريد روسيا بقاءه وتدعمه سياسيا وعسكريا أفضل دعم. لكن ثمة بعض العُسْر في الموضوع؛ ذلك أن موسم القمح الحالي في روسيا ليس بالوفرة نفسها. لكن مهما كلّف الأمر، فإن بوتين لن يفوِّت هذه الفرصة الذهبية، خصوصا أنه بالقمح يمكن أن يستعيد المياه الدافئة، حيث إن بعض السفن الحربية والغواصات من الأسطول الروسي، التي ترسو إلى حين ربما في طرطوس، لا يقتصر الحق المعطى لها على المرور في قناة السويس، وإنما تعود هذه أو القليل منها إلى الرسو الطويل في الموانئ المصرية، كما كان الحال في زمن عبد الناصر، ثم طُويت صفحتها في الزمنين اللاحقين؛ زمن السادات الذي أنهى الوجود العسكري السوفياتي في مصر، متسببا بفعلته هذه في التقليل من هيبة القوة العظمى التي سرعان ما بدأت تتآكل ثم تنهار، بفعل انتفاضة غورباتشوف التي اقتنصها يلتسين، ثم أورثها هذا الأخير إلى بوتين الذي يتطلع إلى إعادة المجد إلى الكرملين في الصراع الدولي، ثم زمن مبارك الذي حاول بناء علاقة خجولة مع الكرملين لا تغيظ البيت الأبيض.
لكن ثمة تساؤلات في هذا الشأن، من بينها هل الإدارة الأميركية التي تراقب بالعين المجردة أحوال مصر، ويقال إنها متعاطفة مع حكم الإخوان المسلمين ستتسامح في أمر تنازل هؤلاء عن صداقة بلا حدود مع الولايات المتحدة إلى تجديد علاقة مع روسيا قد تنتهي إلى صداقة بلا حدود؟ وما هو معروف عن العم سام أنه لا يتحمل حكاية الشراكة.
ونخلص إلى تسجيل مفارقة تثير الاستغراب والأسى في الوقت نفسه، وهي أن مصر التي كانت ماضيا تسعى الدول الكبرى إلى طلب ودها، وتفرض من الشروط أغلاها على الطالبين، ها هي الآن، ومن أجل القمح في الدرجة الأولى، يشقى رئيسها الحالي في طلب الود من روسيا، علّها تمده ببضعة ألوف من أطنان القمح، بما يسد احتياجات بطون 80 مليون نسمة، وبمعدل 300 مليون رغيف يوميا. وهكذا فإن القمح سيبقى مستعبِدا أي حاكم مصري إلى أن تُخضَّر الصحراء ويتوقف التهام الإسمنت للربع المتبقي من مساحة الأراضي الزراعية.