نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


القذافي: من البداية إلى الانصياع




لعلّ الدور الذي لعبه الجيش الليبي في مضمار السياسة يتميز بفرادة مميزة، وهي أنه اقتصر على طور واحد ما زال معنا منذ الأول من أيلول/ سبتمبر 1969، وتم على يد عصبة الضباط الوحدويين الأحرار بزعامة ملازم أول اسمه معمر القذافي. لكن القسمات الأساسية لهذا الدور تجد شبهاً كبيراً لها بما سبقها من تجارب عراقية ويمنية وسورية وسودانية.


التشابه الأساسي كان في أن نداء عبد الناصر القومي كان ملهماً لضبّاط الجيش، وخاصة الصغار منهم. والساحة الشعبية كانت في مجملها معبأة بمشاعر ناصرية، تتخللها منازع بؤرية ــــ بعثية و«حركية».
ورغم أن الأخيرة كانت لها مواطئ أقدام في الجيش تسعى بها مع الوقت إلى الوثوب إلى السلطة، إلا أن السواد الأعظم من الضباط الصغار الرتبة كان ناصري الهوى.
جمع هؤلاء أنفسهم بعد تخرجهم من الكلية العسكرية، وخاصة بعد خطاب عبد الناصر في عيد الوحدة السادس في 22 شباط/ فبراير 64 الذي دعا فيه ليبيا إلى طرد القواعد العسكرية الأميركية والبريطانية من أراضيها.
كان هذا الخطاب نداءً بالتجمع استمع إليه بإنصات وتقبل كل من الشارع الشعبي والجيش النظامي.
تمخض مفعول هذا النداء عن تأسيس تنظيم الضباط الوحدويين الأحرار أواسط الستينيات، الذي تسارعت خطوات تفعيله بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وبعد ما كان قد روي عن دور لقاعدة هويلس الأميركية عشية الحرب في إمداد إسرائيل بالسلاح والذخيرة.
لا بد هنا من ذكر أن الجيش في ليبيا لم يكن القوة الأقوى والأفعل ضمن تنظيمات النظام الملكي المسلحة، بل كانت قوة الأمن الداخلي المجهزة بالآليات المصفحة التي كان يقودها ضابط موثوق من الملك هو عبد العزيز الشلحي.
لكن كلتا القوتين، الجيش والأمن الداخلي، كانتا، حتى بمقاييس تلك الأيام، قوّتين صغيرتين نسبياً، ممّا يفسح المجال أمام مجموعة منظّمة لاقتناص السلطة في غفلة عن الأخرى.
ولربما يلفت النظر أن انقلاب الأول من أيلول/ سبتمبر 1969 تم بواسطة زمرة صغيرة من الجنود وبسهولة كبيرة.
من هنا ثارت تساؤلات عن علم أميركي مسبق بالانقلاب، مارس سكوت الرضى عن مجيئه، وخصوصاً أنّ قاعدة هويلس الأميركية وقاعدة العضم البريطانية كان فيهما ما يكفي لقمع أي حركة غير مرغوب فيها... بيسر. لكن الثابت أن مسارعة الانقلابيين إلى الاتصال بالقاهرة وطلب إسنادهم باستقدام قوات مصرية إلى حدود ليبيا الشرقية عوّقت تعرّض الأميركان للانقلاب وإنجاد النظام الملكي.
ولعل سبباً خفياً لامتناع الأميركان عن التدخل كان في أنّهم أرادوا اجتذاب عبد الناصر إلى الغرب والجنوب (انقلاب النميري في السودان والصديق للقاهرة سبق بـ3 شهور)، لترييحه بالغواية وإبعاده، عبرها، عن الشرق، أي لك الماء وبعض النفط ودع لنا إسرائيل وعلاقتها بالشام والرافدين.
تألف مجلس قيادة الثورة من 12 عضواً يتراوحون ما بين الملازم إلى الرائد في الرتبة، ردّدوا خطاباً ناصرياً مع لمسات إسلامية بارزة، وكانوا في المجمل خليطاً من البراءة والرومانسية وقلّة الخبرة، لكنهم ماشوا خط عبد الناصر بإخلاص لحد شراء الميراج الفرنسية له، وإيواء الكلية البحرية وبعض قطع الأسطول، واستقدام مئات الألوف من المصريين قوة عمالة.
هم أيضاً حاكوا نظام عبد الناصر لجهة تأسيس اتحاد اشتراكي كتنظيم سياسي لقاعدة الانقلاب الشعبية، وتعاونوا مع عناصر ناصرية مدنية، ونفروا من الحزبية والأحزاب لدرجة الاصطدام المبكر مع البعث وحركة القوميين العرب (إعفاء محمود المغربي من رئاسة الحكومة واعتقال موسى أحمد وزير الداخلية وآدم حواز وزير الدفاع قبل انتهاء 1969).
نمت خلافات أعضاء المجلس بينهم منذ مطالع الانقلاب، لكنها كانت تحت الرماد في حياة عبد الناصر (السنة الأولى)، ثم سرعان ما تفشّت وتفلّتت بعد صدمتهم بوفاته.
ولعل أول مظاهرها كان الخروج المتوالي لعمر المحيشي وبشير الهوادي ومحمد نجم وعوض حمزة ومختار القروي ثم عبد المنعم الهوني، بحيث لم يبقَ حول القذافي منذ أواسط السبعينيات إلا أربعة من رفاق البداية.
ترافق مع تشققات جدران النظام انخراطه في تقلصات حادة شملت نسيجه الفكري والتنظيمي. كانت إرهاصات ذلك في نيسان/ أبريل 73 عندما أعلن العقيد القذافي الثورة الثقافية، وأمر بدوس القوانين والأدبيات السارية، وابتداع منظومة فكرية جديدة تمسك بأعنّتها اللجان الشعبية.
هذا في الداخل. أما في الجوار الإقليمي فلقد لعب النظام، العسكري الطابع، دوراً في التوصل إلى معاهدة كونفدرالية/ تعاقدية مع مصر وسوريا في نيسان/ أبريل 1971، معبراً بها عن شديد توقه لتحقيق حلم الوحدة العربية بأي شكل كان. ثم لعب دوراً مؤثّراً في إجهاض الانقلاب الشيوعي في السودان في تموز/ يوليو 1971 عبر إجباره طائرة شركة الخطوط البريطانية على الهبوط واعتقال رئيس مجلس الانقلاب بابكر النور ووزير داخليته فاروق حمد الله ثم تسليمهما للإعدام بعد عودة النميري للسلطة، ثم لعب دوراً في الإسناد التسليحي واللوجستي لمصر عشية تحضيرها لحرب أكتوبر، بل وصل لحد التشاجر مع رئيسها السادات لإجباره على تطوير العلاقة إلى وحدة اندماجية وما كان من رفض الأخير لهذا الخيار.
تملكت النزعة الوحدوية رجال الانقلاب لدرجة العصاب، مما تبدى في محاولتهم إقناع الحبيب بورقيبة بوحدة مع تونس في مطلع 1974، بعد خيبة أملهم بمصر السادات، وتمنع الأخير بعد موافقة أولية عن المضي في مشروع كهذا.
والشاهد أن تقلصات الداخل وصلت مع مطلع 77 إلى درجة استيلاد منظومة فكرية ـــــ تنظيمة جديدة من رحم الثورة الشعبية / الثقافية لربيع 73، وهي إعلان الجماهيرية العظمى والكتاب الأخضر في 2 آذار / مارس 77.
لا بد من أن طول فترة ابتعاد معمر القذافي عن تأثير مثله الأعلى جمال عبد الناصر سمح بنشوء أعراض وعوارض من تقديس الذات والشعور بالرسولية، ممزوجة بعدم ارتياح شديد لقلة مواطني بلده عدداً، ولبعده النسبي عن قلب المنطقة العربية، مما يحد من هذه الرسولية ومن القدرة على الإشعاع والتأثير.
تجاوز القذافي هذه المشاعر المتضاربة بأن مضى قدماً في مسار الابتكار/ الابتداع والفرادة والتمايز، فنجده تارة ينبري لدور المصلح الديني والمجتهد الكامل الشرائط (ويخوض في ما لا يتجانس مع أعراف الحكم)، وطوراً يناقض دعوته للوحدة العربية بمساعدته للمتمردين الأكراد في شمال العراق، وبعونه لإثيوبيا في حربها ضد الصومال عام 77، ثم إسناده في الثمانينيات لحركة التمرد الجنوبي في السودان ضد السلطة المركزية، وقبلها رعايته البوليساريو على اجتزاء دويلة من التراب المغربي .. حيث هنا نرى الشيء ونقيضه.
الأمر ذاته عبّر عنه طرد الرعايا المصريين والتونسيين عام 85، والفلسطينيين عامي 79 و95، بينما في المقابل عرضت الجنسية الليبية على كل العرب في السبعينيات.
ثم وصل الأمر إلى أن تعدى الداخل والجوار العربي ليصل إلى التدخل في صراع استنزافي دام في تشاد كلف ليبيا الكثير ولم تخرج منه إلا بالظفل والخسارة.
في السبعينات غدا العقيد القذافي مهجوساً برسولية دوره وبأن الناس لم تعرف حق قدره، فمضى في استقتاله كي يبرهنه لهم برهاناً .. وجدناه يتدخل في التركيبة السياسية الفلسطينية عبر التبني شبه التام لتنظيم أبو نضال، ثم التراوح بين التصالح والتصادم مع التنظيمات الرئيسة الأخرى، ثم اعتماد تنظيم القيادة العامة وكيلاً، ثم في تصفية موسى الصدر، واستجلاب كوادر مسلحة لبنانية وفلسطينية للقتال معه في تشاد... بالعملة الصعبة.
مع وصولنا لشطآن الثمانينيات، كان هاجس الرسولية قد استبد بالعقيد القذافي لدرجة الإدمان ـــــ كما سبق التعريف بتجلياته ـــــ وبما سمح للولايات المتحدة المتضايقة من أدواره «المتمادية» من أن تعلل لنفسها الاشتباك معه بالسلاح، وبالأخص عبر غارتها الجوية الضخمة على مقره في نيسان / أبريل 1986.
في تلك الفترة لم تبق بقعة من العالم لم يمد إليها العقيد بصره.
وإذا قصرنا النظر على الجوار فلنا رعايته لمحاولة انقلاب تموز / يوليو 1976 في السودان، ومحاولة الانقلاب في تونس/ 1980، وتأييده لانقلاب الصخيرات / أوفقير في المغرب/ 1971، سواك عن أشكال وألوان من الأدوار شملت عمليات للعمل الخفي ما زالت آثار بعضها معنا لليوم. في أزمة الخليج كان أحد الساعين لحل عربي للدخول العراقي إلى الكويت، لكنه ما إن بدأت الحرب حتى أصبح مسلكه لغزاً، إذ وجدناه يتظاهر في الشارع احتجاجاً أبطل الفوارق بين مسؤولية الحاكم ودور المحكوم.
ثم نراه عبر التسعينيات حين وقع تحت قبضة الحصار الجزئي، منذ نيسان /أبريل 1992، كيف انكفأ وانكمش عربياً، وبدأ يرتاد بازدياد الفضاء الأفريقي معتقداً أن ما صنعه عند العرب لا بد ملاقيه عند الأفارقة (طبعاً أي تواصل عربي ـــــ أفريقي جهد ممدوح لما فيه بالضرورة من عزل وحصر للتغلغل الإسرائيلي فيها، لكن الغلو في الشعار، ومزاوجته بنزع عروبة ليبيا، فيه من الخطل ما يفوق محاسن هذا التواصل، فوق أنه ليس في وسع فرد مهما بلغ شأنه أن يغير هوية شعبه وانتماءه).
من تجليات هذا التنائي عن العرب عزوف العقيد المطلق عن دعم الانتفاضة الفلسطينية وإسنادها بأي شكل من الأشكال، (ثم ابتداعه مبادرة «إسراطين» التي دشنت عهد إعادة اكتشاف البارود)، ثم أخيراً وجدنا العقيد وهو يوافق الولايات المتحدة ويبرر لها الرد على هجمات أيلول 2001 بأي شكل تراه «ما دامت تدافع عن نفسها بعد الاعتداء عليها».
لقد بدأ العقيد في نيسان / أبريل 86 عملية الاكتشاف، ثم ترسخت وتعمقت في ذهنه عملية الهضم لقناعة ملكت وما زالت عليه ألبابه، وهي أنه لا سبيل أمامه إلا طلب الصفح من الولايات المتحدة متبوعاً بطلب المشايعة .. وهو استباقاً لما يتوقعه من دور مسموح به، حرف وجهته شطر الجنوب الأسود امتداداً وملاذاً.
عودة إلى الداخل .. ما الذي حصّل هذا الجيش الصغير الذي أفرز القذافي وصحبه؟
في البداية جرى توسيعه وتدجيجه بـ20 بليون دولار أسلحة سوفياتية عام 1975، ثم جرت محاولات لاستكشاف سبل استحواذ السلاح فوق التقليدي، ثم مع إشهار الجماهيرية العظمى جرت عملية تقليصه وتدجينه ونزع أظافره وتحويله شيئاً فشيئاً إلى قوة محبوسة توازيها منعة ميليشيات اللجان الثورية / الشعبية.
كان لهذه السياسة أن لاقت، ولا تزال، نجاحاً ملحوظاً في الإمساك بناصية الجيش، وخصوصاً أن أجهزة الأمن استشرت سرطانياً وتربعت فوق جسم المؤسسة العسكرية وعبره، مؤمّنة استمرارية مستدامة للنظام، ومتقاطعة مع استقطابات قبلية القسمات مثّلت بؤراً ارتكازية حامية له.
عرف مثلاً أن خلاف القذافي وجلود (الرجل الثاني إلى عام 93) حمل قسمات قبلية، وأن بعض محاولات الانقلاب الفاشلة، مثل التي جرت في أكتوبر 93، بتدبير جبهة الإنقاذ / د. محمد المقريف المرعية أميركياً اصطبغت بلون قبلي.
ملاحظ هنا اتساق العقيد مع نفسه، منذ إعلان الجماهيرية، في تحوله إلى عدو لدود للإسلام السياسي، سواء كان جسمهم الأساسي الإخوان المسلمين أم إفرازاتهم العنفية / الجهادية المتعددة. ظني أن السبب هو قناعته بأنهم وحدهم من لديهم القدرة، إن تُركوا بلا اعتراض، على تقويض نظامه، وخصوصاً أن القوى الوطنية ـــــ القومية قُوّضت وأُجهضت عبر ممارسات نظام رفع لمدة لواءاتها ثم قاتلها بشعار «من تحزب خان».
تلك السياسة، مصحوبة بالملكية العامة لمعظم الممتلكات، وملحوقة بجهاز قمع شديد الوطأة، تسببت كلها في محق المجتمع السياسي والمدني عبر العقود الثلاثة الأخيرة، وتسوية الأرض به لدرجة انعدام قدرته على التكافؤ، ولو بأبسط الدرجات، مع سلطة الدولة.
هنا نعود لنتبين أوجه التشابه الشديد مع أنظمة الجوار العربي، التي منها مثلاً ظاهرة تهيئة الأنجال للخلافة.
في الحالة الليبية نجد أن المسألة تتجاوز نجلاً أو نجلين إلى أربعة بينهم فتاة .. هذه من طبائع الفرادة!
يجدر هنا التنويه إلى أن ليبيا بلد غني بالنفط، وفيه وجود كثيف لشركات غربية، وبالأخص منها أوكسيدنتال الأميركية، التي في جلها لم تمس مصالحها الاستكشافية والتجارية مثقال ذرة، وهذا يدل على قدرة النظام على البراغماتية الذرائعية إذا احتاج لخوض مسالكها.
إن نظام العقيد القذافي هو أحد تلك التي ولدت من رحم هزيمة حزيران 1967، ثم توطدت وترسخت بعد غياب جمال عبد الناصر، واستطاعت أن تؤمن ديمومتها عبر استخدام آلة قمع رازحة، معطوفة على موارد فوائض فورة النفط، وتقاطعاتها مع قوى دولية وإقليمية.
... ولعل ثلث قرن من عمره دلالة على منعة هذا النسيج من الأنظمة ومناعتها لتاريخه

د . كمال خلف الطويل - الاخبار
الاثنين 6 أبريل 2009