"(من الطريف أن كثيرا من دعاة التحديث يتحدثون بحماس شديد عن الاستنارة و العلمانية، و كيف أنهما يؤديان إلى تحرير الإنسان و سعادته في العصر الحديث، و في الوقت ذاته يتحدثون بإعجاب شديد عن الأدب الحداثي الذي يعبر عن رؤية الإنسان الحديث لمجتمعه [نتاج فكر الاستنارة] و يبينون الضياع و الخراب و الاغتراب.. إلخ الذي يعاني منه الإنسان في العصر الحديث، و لا يربطون بين الواحد و الآخر، أذكر أنني كنت أُدرّس فكر الاستنارة مع طلبتي في محاضرة الساعة التاسعة، و تحدثت بحماس شديد عنه، و كيف حرر الإنسان الغربي و أدى إلى تقدمه، و لذا أخذت أبشر به، و في محاضرة الساعة العاشرة كنت أدرس معهم الأرض الخراب لإليوت و ما حدث للإنسان الحديث من تفكيك و عقم، ففاجأتني المفارقة و بدأت في مراجعة كثير من أفكاري).".. ثم يضيف المسيري:
و لا يختلف الأمر كثيرا في عالم الفنون التشكيلية، فبعد لوحات و إيقونات العصور الوسطى المسيحية في الغرب، المليئة بالتقوى و الورع، تظهر رسوم عصر النهضة الدينية و العلمانية ذات الأبعاد الثلاثة التي ينبع منها الفن الرومانسي و الفن الواقعي، ثم يظهر الفن الانطباعي و ما بعد الانطباعي، و رغم كل التطورات يمكن القول: إن الفن الغربي منذ عصر النهضة ظل الشكل فيه متماسكا يحاكي شيئا ما، في الطبيعة المادية أم الإنسانية، و لكن مع بداية القرن العشرين يحدث شيء ما فيتفكك الشكل، و يظهر الواقع الإنساني و الطبيعي في لوحات الفنانين على هيئة مكعبات و مربعات و دوائر و ألوان متداخلة (في أواخر عرض للوحات موندريان في التيت جاليري [1996] في لندن الذي كان يهدف إلى توضيح تطوره، تتضح هذه النقطة بشكل جلي، يبدأ المعرض بمنظر طبيعي فيه أشجار و منازل، و ينتهي بلوحة مكونة من أربع مربعات و خطين، أحدهما أحمر و الآخر أزرق، و هي لوحة في غاية الجمال، و لكننا هنا لا نتناولها من المنظور الجمالي، و إنما منظور التطور العام للحضارة الغربية الحديثة، تماما كما فعلنا مع الأعمال الأدبية الأخرى التي أشرنا إليها)." ـ العلمانية تحت المجهر ـ ص 39 ـ 40
إن الفن هو كسائر الأمور الشخصية يمثل انعكاسا لطبيعة و مزايا الشخصية، فالشخص الكئيب يعبر عن نفسه بالصور و اللوحات الكئيبة بينما المتفائل و المرح ينتج صورا مرحة، و هذه البصمات الشخصية التي تبصم على اللوحة كمزايا و خصوصيات لشخص الرسام لم تكن متوفرة في الفن الإيقوني الديني الذي يكرر في نمطية مفرطة صور المسيح و العذراء و الملائكة، و الفن الإسلامي ـ الذي هو تكعيبي و هندسي أكثر من أي فن آخر ـ يمثل نمطية و تكرارا للأجسام إلى حد أن الإنسان يفقد شعوره بإنسانيته و يحس و كأن الموجودات تنحصر في المادة و تجلياتها الهندسية الجامدة، و إذا كان هناك فن يمثل "العبثية" في الغرب، فهو يمثل جزءا من الفن و هو نوع من استكشاف الجديد، فطبيعي أن تنتج مجتمعات التدين التقليدي ـ التكرار ـ فنا و لوحات مكررة هي أشبه بتكرار الأشخاص، فتجد مثلا مجتمعنا المسلم ممتلئا بأسماء "محمد"، "محمود"، "علي"، و "عمر" و غيرها من الأسماء و :انها أنماط مكررة، بينما في المجتمعات المسيحية نجد "بطرس"، "ميخائيل"، "بولس"، "يوحنا" و "مرقس" و غيرها من الأسماء التي يزخر بها التراث المسيحي، و الأمر ذاته ينطبق على المجتمع اليهودي المتدين.
من هنا كان من الضروري أن ننتبه إلى أن للفنان ـ كما للأديب ـ عالمه و لغته الخاصة به للتعبير و لا يمكن لمقياس من المقاييس أن يحدد للفنان و الأديب مفاهيم الخطأ و الصواب، لأن الفنون ـ و الأدب من ضمنها ـ هي مجال للتعبير و التعبير لغة سلمية لا يمكن لأي تبرير أن يمنعه من الظهور، إلا إذا كان هناك تعبير آخر يحتوي سلبيات التعبير في الأطر الفنية و الجمالية و الفكرية، إن سلبيات الحداثة ـ إن وجدت ـ لا يمكن أن تستخدم بهذا المنطق التبريري السطحي و الذي يحاول عبره المسيري و غيره (كالكاتب مصطفى محمود) إظهار إيجابيات التخلف ليس عبر تزويق التخلف الذي لا يمتلك إلا كل الصفات القبيحة و ذلك بذمّ نقيضه ـ الغرب العلماني المتطور ـ و بالتالي تبقى هذه الشعوب الشرقية المسلمة أسيرة الجهل و الخرافة و التخلف منتظرة على الدوام الإحسان من الآخرين سواء من الدول الغنية أو المنظمات التي تقدم بعض الأرزاق و الأطعمة و الملابس.
و هكذا يستمر المسيري في إيراد الأمثلة عن تفكك الأسرة و العلاقات الجنسية التي ليس لها حدود، و كأن بلداننا مليئة و منذ مئات السنين بالملائكة و الفضلاء و المستقيمين أخلاقيا، مع أن الشرق المسلم يمتلك كما هائلا من عمليات الاغتصاب و الاعتداء الجنسي على الأطفال و قتل المرضى عبر الأدوات الملوثة و زنا المحارم و الطبقية البشعة و تفشي العنوسة و العجز الجنسي و التعذيب الوحشي للسجناء السياسيين و الجنائيين على حد سواء و الإعدامات على الشبهة و الاغتيالات و خطف المسؤولين لمواطنات و قتلهن بعد الإعتداء عليهن و تهريب المال العام و الوساطة و المحسوبية و النهب العلني لأموال الشّعب، كل هذا ـ و هو قطرة من بحر ـ موجود في عالمنا الشرقي المسلم و لكنه مخفي عن الإعلام و الأفواه مكممة بشأنه و يمنع الحديث عنها و بالتالي فإنه لا مجتمع بشري من دون أمراض، فللتخلف مشاكله و همومه و للتطور أيضا مشاكل و هموم غير أن التطور يبحث لأمراضه عن علاج، أما التخلف فتبريره جاهز لأن "الله تعالى" أراد كل شيء و قدره و بالتالي نحمل القدر الإلهي كل الظلم الجاري على الأرض، و يستمر الحاكم آمنا في استبداده بعد أن ضمن له "الوعاظ" النجاة في الدنيا و الآخرة.
يريد المسيري و سائر الإسلاميين أن يقنعونا بأن من الممكن أن نبني "مجتمع الملائكة" حيث لا يكون للجنس و الغريزة أي قيمة أو يكون "مهمشا" بقدر الإمكان و حيث يفرض الحجاب (قسرا) على المرأة ـ أقترح أن نسميها كمسلمين بالـ"العورة" بدلا من كلمة امرأة و "عورات" بدلا من نساء ـ و يفرض على الرجال اتخاذ اللحى الطويلة و قضاء الأوقات في الصلاة و العبادات بدلا من إنجاز إختراع أو عمل لأن الإختراعات تجذب المزيد من "الاستنارة الكافرة"!! أو "الحداثة الملحدة"!! كما يسميها هؤلاء الناقدون.
يبدأ المسيري بعدئذ بتتبع الجذور الفلسفية للعلمانية الغربية فيقول:
بدأت هذه الفلسفة في عصر النهضة الغربي بظهور الفلسفة الإنسانية الهيومانية Humanism التي همشت الإله، و وضعت الإنسان في مركز الكون، و جعلت منه المعيار الأوحد، مقياس كل شيء، مرجعية ذاته، و لكن في نفس المرحلة ظهر إسبينوزا الذي حول العالم إلى منظومة واحدية رياضية مصمتة، الإله فيها هو الطبيعة، و قوانينه هي قوانين الطبيعة و المادة، و الإنسان فيها لا يختلف عن أي شيء في الكون، و قد كانت منظومة متفائلة للغاية، إذ يبدو أن إسبينوزا وجد أن هذه الحركة الرتيبة الآلية ذات المرجعية المادية التي تسم عالمه ستحقق السعادة للبشر بشكل ضمني عن طريق امتزاج الجزء الإنساني باللي الآلي المادي، و عن طريق ذوبانه فيه، و لكن ألا يشكل ذوبان الجزء الإنساني في الكلي المادي تفكيكا للإنسان، لأن الإنسان بهذه الطريقة يُرد إلى ما هو دونه. ثم جاء نيتشة و اكتشف أن العالم الذي يصبح الإله فيه قانونا طبيعيا، و الذي تتحكم فيه حركة المادة هو عالم موت الإله، أي عالم مادي تماما لا قداسة و لا ضمان فيه لأي شيء عالم خال من المعنى، محايد، لا قيمة فيه و لا غاية و لا سبب و لا نتيجة، لا كليات فيه و لا مطلقات، و من ثم لا يبقى سوى إرادة القوة و عالم داروين.." المصدر ـ ص 44
ينظر المسيري إلى القضية الدينية و كأنه ينظر إلى موضوع مصطنع يمكننا صنعه و خلقه كما نصنع أي جهاز أو أدات مثل هذه الأجهزة و الأدوات التي يستعملها الإنسان في حياته اليومية، دون أن يلتفت إلى القضية الإيمانية التي لا يمكن للإنسان إنتاجها بهذه الصيغة، فهو بمجرد تحوله إلى صانع للإيمان فهو يصبح إله نفسه و صانع الدين الذي يفقد قيمته التي تتجاوز الواقع المحدود، من هنا فإن الغربي يبحث عن الإيمان متجاوزا قانون الطبيعة السطحي و الظاهري، و قد كشف علم الجينات الحديث أن كل الناس أبناء امرأة واحدة و هو ما يتفق مع النظرية الدينية للأديان الإبراهيمية، و لكن المسيري يحدثنا هنا من خلال ثنائية حدية فنيتشة هو "ملحد ـ كافر" و لا يمكن إيجاد أي صيغة بديلة، رغم أن ماكس فيبر يرى أن نيتشة كان يعني أن الإله الأسطوري الخرافي الشبيه بالإنسان هو الذي مات و بالتالي يبدأ البحث عن الإله الحقيقي (راجع: في الفكر الغربي المعاصر ـ حسن حنفي)، فالفلسفة ذات مجال بحثي يختلف عن المجال الديني ظاهرا و لكنه متطابق معه باطنا، و هذه الفلسفة العميقة التي ترى في الدين نفسه نوعا من أبعاد متعددة الأوجه هي التي أوحت للمتصوفين السنة و الشيعة و المسيحيين و اليهود أن يلتقوا في فضاءات واسعة و رحبة، بينما يريدنا المسيري و هويدي و من ورائهم الإخوان المسلمون أن نجعل الدين أشبه بالثلاجة و السيارة و سائر الآلات أو جعله كحزب تستطيع الانضمام إليه بمجرد أن تسجل اسمك و تدفع اشتراكا.
و القرآن نفسه يورد عشرات الآيات عن "الخلاص الفردي" مما يعني أن الإيمان و كونه تجربة شخصية لا يمكن صناعته في معمل أو مختبر، بل إن المختبر نفسه يستخدم من قبل العلماء المؤمنين بالله و غير المؤمنين به، و الذي أراه و أحسب أنه الصواب هو أن كلا الصنفين مؤمن و لكن الفارق فقط هو أن أحدهما يسمي الإله أو الإرادة السماوية بالطبيعة و القانون الكامن فيها و آخر يسمي القانون بالإرادة الإلهية أو الله، بالتالي فإنه لا إختلاف في أن لهذا العالم هدفا و غاية و لكن الاختلاف هنا حاول إله في العالم و إله مفارق للعالم، فلا توجد حدود واضحة حتى لدى المؤمنين بالدين في التفرقة بين الفعل الطبيعي و الفعل الإلهي، ففي الماضي كان المطر و الهواء و الرزق و العمر و كل شيء يُنسب مباشرة إلى الله و القدر، بل كان ـ و لا زال في المجتمعات المتخلفة ـ يؤخذ المصابون بالصرع و الشيزوفرينيا و غيرها من الأمراض إلى رجل دين أو واعظ ليرقيهم بالآيات و الأدعية، بينما في الدول الحديثة هنالك مستشفيات خاصة لهؤلاء المرضى و كثير منهم يعود إلى الحياة الطبيعية، و لكن الفارق بين التخلف و التطور هنا هو أن المتخلف و هربا من التفكير و البحث و الوصول إلى الأسباب فهو ينسب كل شيء إلى الله و القدر، و هذا بالتأكيد واضح كون هذه المجتمعات تستمر في الإنهيار دون أن تعثر على علاجات و حلول لمشاكلها، و أثبتت معدلات الأعمار و الصحة العامة أن بإمكان الإنسان أن يمد في عمره بشكل عام من خلال توفير أسباب الصحة و الخدمات و الراحة، و إذا ما حدث و تسبب شخص أو شركة أو مؤسسة في وفاة أو إصابة شخص ما بعاهة فهو ملزم قانونا بدفع تعويض و أن يتحمل عقوبة تناسب حجم الجرم، و إذا كانت الحياة نفسها سلسلة من الأسباب و المسببات كان لزاما على هؤلاء أن يضعوا لنا حدا واضحا بين الفعل الإلهي و الفعل الطبيعي و هو أمرٌ غير ممكن حسب ما نراه الآن.
Email: sohel_writer72@yahoo.com
و لا يختلف الأمر كثيرا في عالم الفنون التشكيلية، فبعد لوحات و إيقونات العصور الوسطى المسيحية في الغرب، المليئة بالتقوى و الورع، تظهر رسوم عصر النهضة الدينية و العلمانية ذات الأبعاد الثلاثة التي ينبع منها الفن الرومانسي و الفن الواقعي، ثم يظهر الفن الانطباعي و ما بعد الانطباعي، و رغم كل التطورات يمكن القول: إن الفن الغربي منذ عصر النهضة ظل الشكل فيه متماسكا يحاكي شيئا ما، في الطبيعة المادية أم الإنسانية، و لكن مع بداية القرن العشرين يحدث شيء ما فيتفكك الشكل، و يظهر الواقع الإنساني و الطبيعي في لوحات الفنانين على هيئة مكعبات و مربعات و دوائر و ألوان متداخلة (في أواخر عرض للوحات موندريان في التيت جاليري [1996] في لندن الذي كان يهدف إلى توضيح تطوره، تتضح هذه النقطة بشكل جلي، يبدأ المعرض بمنظر طبيعي فيه أشجار و منازل، و ينتهي بلوحة مكونة من أربع مربعات و خطين، أحدهما أحمر و الآخر أزرق، و هي لوحة في غاية الجمال، و لكننا هنا لا نتناولها من المنظور الجمالي، و إنما منظور التطور العام للحضارة الغربية الحديثة، تماما كما فعلنا مع الأعمال الأدبية الأخرى التي أشرنا إليها)." ـ العلمانية تحت المجهر ـ ص 39 ـ 40
إن الفن هو كسائر الأمور الشخصية يمثل انعكاسا لطبيعة و مزايا الشخصية، فالشخص الكئيب يعبر عن نفسه بالصور و اللوحات الكئيبة بينما المتفائل و المرح ينتج صورا مرحة، و هذه البصمات الشخصية التي تبصم على اللوحة كمزايا و خصوصيات لشخص الرسام لم تكن متوفرة في الفن الإيقوني الديني الذي يكرر في نمطية مفرطة صور المسيح و العذراء و الملائكة، و الفن الإسلامي ـ الذي هو تكعيبي و هندسي أكثر من أي فن آخر ـ يمثل نمطية و تكرارا للأجسام إلى حد أن الإنسان يفقد شعوره بإنسانيته و يحس و كأن الموجودات تنحصر في المادة و تجلياتها الهندسية الجامدة، و إذا كان هناك فن يمثل "العبثية" في الغرب، فهو يمثل جزءا من الفن و هو نوع من استكشاف الجديد، فطبيعي أن تنتج مجتمعات التدين التقليدي ـ التكرار ـ فنا و لوحات مكررة هي أشبه بتكرار الأشخاص، فتجد مثلا مجتمعنا المسلم ممتلئا بأسماء "محمد"، "محمود"، "علي"، و "عمر" و غيرها من الأسماء و :انها أنماط مكررة، بينما في المجتمعات المسيحية نجد "بطرس"، "ميخائيل"، "بولس"، "يوحنا" و "مرقس" و غيرها من الأسماء التي يزخر بها التراث المسيحي، و الأمر ذاته ينطبق على المجتمع اليهودي المتدين.
من هنا كان من الضروري أن ننتبه إلى أن للفنان ـ كما للأديب ـ عالمه و لغته الخاصة به للتعبير و لا يمكن لمقياس من المقاييس أن يحدد للفنان و الأديب مفاهيم الخطأ و الصواب، لأن الفنون ـ و الأدب من ضمنها ـ هي مجال للتعبير و التعبير لغة سلمية لا يمكن لأي تبرير أن يمنعه من الظهور، إلا إذا كان هناك تعبير آخر يحتوي سلبيات التعبير في الأطر الفنية و الجمالية و الفكرية، إن سلبيات الحداثة ـ إن وجدت ـ لا يمكن أن تستخدم بهذا المنطق التبريري السطحي و الذي يحاول عبره المسيري و غيره (كالكاتب مصطفى محمود) إظهار إيجابيات التخلف ليس عبر تزويق التخلف الذي لا يمتلك إلا كل الصفات القبيحة و ذلك بذمّ نقيضه ـ الغرب العلماني المتطور ـ و بالتالي تبقى هذه الشعوب الشرقية المسلمة أسيرة الجهل و الخرافة و التخلف منتظرة على الدوام الإحسان من الآخرين سواء من الدول الغنية أو المنظمات التي تقدم بعض الأرزاق و الأطعمة و الملابس.
و هكذا يستمر المسيري في إيراد الأمثلة عن تفكك الأسرة و العلاقات الجنسية التي ليس لها حدود، و كأن بلداننا مليئة و منذ مئات السنين بالملائكة و الفضلاء و المستقيمين أخلاقيا، مع أن الشرق المسلم يمتلك كما هائلا من عمليات الاغتصاب و الاعتداء الجنسي على الأطفال و قتل المرضى عبر الأدوات الملوثة و زنا المحارم و الطبقية البشعة و تفشي العنوسة و العجز الجنسي و التعذيب الوحشي للسجناء السياسيين و الجنائيين على حد سواء و الإعدامات على الشبهة و الاغتيالات و خطف المسؤولين لمواطنات و قتلهن بعد الإعتداء عليهن و تهريب المال العام و الوساطة و المحسوبية و النهب العلني لأموال الشّعب، كل هذا ـ و هو قطرة من بحر ـ موجود في عالمنا الشرقي المسلم و لكنه مخفي عن الإعلام و الأفواه مكممة بشأنه و يمنع الحديث عنها و بالتالي فإنه لا مجتمع بشري من دون أمراض، فللتخلف مشاكله و همومه و للتطور أيضا مشاكل و هموم غير أن التطور يبحث لأمراضه عن علاج، أما التخلف فتبريره جاهز لأن "الله تعالى" أراد كل شيء و قدره و بالتالي نحمل القدر الإلهي كل الظلم الجاري على الأرض، و يستمر الحاكم آمنا في استبداده بعد أن ضمن له "الوعاظ" النجاة في الدنيا و الآخرة.
يريد المسيري و سائر الإسلاميين أن يقنعونا بأن من الممكن أن نبني "مجتمع الملائكة" حيث لا يكون للجنس و الغريزة أي قيمة أو يكون "مهمشا" بقدر الإمكان و حيث يفرض الحجاب (قسرا) على المرأة ـ أقترح أن نسميها كمسلمين بالـ"العورة" بدلا من كلمة امرأة و "عورات" بدلا من نساء ـ و يفرض على الرجال اتخاذ اللحى الطويلة و قضاء الأوقات في الصلاة و العبادات بدلا من إنجاز إختراع أو عمل لأن الإختراعات تجذب المزيد من "الاستنارة الكافرة"!! أو "الحداثة الملحدة"!! كما يسميها هؤلاء الناقدون.
يبدأ المسيري بعدئذ بتتبع الجذور الفلسفية للعلمانية الغربية فيقول:
بدأت هذه الفلسفة في عصر النهضة الغربي بظهور الفلسفة الإنسانية الهيومانية Humanism التي همشت الإله، و وضعت الإنسان في مركز الكون، و جعلت منه المعيار الأوحد، مقياس كل شيء، مرجعية ذاته، و لكن في نفس المرحلة ظهر إسبينوزا الذي حول العالم إلى منظومة واحدية رياضية مصمتة، الإله فيها هو الطبيعة، و قوانينه هي قوانين الطبيعة و المادة، و الإنسان فيها لا يختلف عن أي شيء في الكون، و قد كانت منظومة متفائلة للغاية، إذ يبدو أن إسبينوزا وجد أن هذه الحركة الرتيبة الآلية ذات المرجعية المادية التي تسم عالمه ستحقق السعادة للبشر بشكل ضمني عن طريق امتزاج الجزء الإنساني باللي الآلي المادي، و عن طريق ذوبانه فيه، و لكن ألا يشكل ذوبان الجزء الإنساني في الكلي المادي تفكيكا للإنسان، لأن الإنسان بهذه الطريقة يُرد إلى ما هو دونه. ثم جاء نيتشة و اكتشف أن العالم الذي يصبح الإله فيه قانونا طبيعيا، و الذي تتحكم فيه حركة المادة هو عالم موت الإله، أي عالم مادي تماما لا قداسة و لا ضمان فيه لأي شيء عالم خال من المعنى، محايد، لا قيمة فيه و لا غاية و لا سبب و لا نتيجة، لا كليات فيه و لا مطلقات، و من ثم لا يبقى سوى إرادة القوة و عالم داروين.." المصدر ـ ص 44
ينظر المسيري إلى القضية الدينية و كأنه ينظر إلى موضوع مصطنع يمكننا صنعه و خلقه كما نصنع أي جهاز أو أدات مثل هذه الأجهزة و الأدوات التي يستعملها الإنسان في حياته اليومية، دون أن يلتفت إلى القضية الإيمانية التي لا يمكن للإنسان إنتاجها بهذه الصيغة، فهو بمجرد تحوله إلى صانع للإيمان فهو يصبح إله نفسه و صانع الدين الذي يفقد قيمته التي تتجاوز الواقع المحدود، من هنا فإن الغربي يبحث عن الإيمان متجاوزا قانون الطبيعة السطحي و الظاهري، و قد كشف علم الجينات الحديث أن كل الناس أبناء امرأة واحدة و هو ما يتفق مع النظرية الدينية للأديان الإبراهيمية، و لكن المسيري يحدثنا هنا من خلال ثنائية حدية فنيتشة هو "ملحد ـ كافر" و لا يمكن إيجاد أي صيغة بديلة، رغم أن ماكس فيبر يرى أن نيتشة كان يعني أن الإله الأسطوري الخرافي الشبيه بالإنسان هو الذي مات و بالتالي يبدأ البحث عن الإله الحقيقي (راجع: في الفكر الغربي المعاصر ـ حسن حنفي)، فالفلسفة ذات مجال بحثي يختلف عن المجال الديني ظاهرا و لكنه متطابق معه باطنا، و هذه الفلسفة العميقة التي ترى في الدين نفسه نوعا من أبعاد متعددة الأوجه هي التي أوحت للمتصوفين السنة و الشيعة و المسيحيين و اليهود أن يلتقوا في فضاءات واسعة و رحبة، بينما يريدنا المسيري و هويدي و من ورائهم الإخوان المسلمون أن نجعل الدين أشبه بالثلاجة و السيارة و سائر الآلات أو جعله كحزب تستطيع الانضمام إليه بمجرد أن تسجل اسمك و تدفع اشتراكا.
و القرآن نفسه يورد عشرات الآيات عن "الخلاص الفردي" مما يعني أن الإيمان و كونه تجربة شخصية لا يمكن صناعته في معمل أو مختبر، بل إن المختبر نفسه يستخدم من قبل العلماء المؤمنين بالله و غير المؤمنين به، و الذي أراه و أحسب أنه الصواب هو أن كلا الصنفين مؤمن و لكن الفارق فقط هو أن أحدهما يسمي الإله أو الإرادة السماوية بالطبيعة و القانون الكامن فيها و آخر يسمي القانون بالإرادة الإلهية أو الله، بالتالي فإنه لا إختلاف في أن لهذا العالم هدفا و غاية و لكن الاختلاف هنا حاول إله في العالم و إله مفارق للعالم، فلا توجد حدود واضحة حتى لدى المؤمنين بالدين في التفرقة بين الفعل الطبيعي و الفعل الإلهي، ففي الماضي كان المطر و الهواء و الرزق و العمر و كل شيء يُنسب مباشرة إلى الله و القدر، بل كان ـ و لا زال في المجتمعات المتخلفة ـ يؤخذ المصابون بالصرع و الشيزوفرينيا و غيرها من الأمراض إلى رجل دين أو واعظ ليرقيهم بالآيات و الأدعية، بينما في الدول الحديثة هنالك مستشفيات خاصة لهؤلاء المرضى و كثير منهم يعود إلى الحياة الطبيعية، و لكن الفارق بين التخلف و التطور هنا هو أن المتخلف و هربا من التفكير و البحث و الوصول إلى الأسباب فهو ينسب كل شيء إلى الله و القدر، و هذا بالتأكيد واضح كون هذه المجتمعات تستمر في الإنهيار دون أن تعثر على علاجات و حلول لمشاكلها، و أثبتت معدلات الأعمار و الصحة العامة أن بإمكان الإنسان أن يمد في عمره بشكل عام من خلال توفير أسباب الصحة و الخدمات و الراحة، و إذا ما حدث و تسبب شخص أو شركة أو مؤسسة في وفاة أو إصابة شخص ما بعاهة فهو ملزم قانونا بدفع تعويض و أن يتحمل عقوبة تناسب حجم الجرم، و إذا كانت الحياة نفسها سلسلة من الأسباب و المسببات كان لزاما على هؤلاء أن يضعوا لنا حدا واضحا بين الفعل الإلهي و الفعل الطبيعي و هو أمرٌ غير ممكن حسب ما نراه الآن.
Email: sohel_writer72@yahoo.com