لكنّ التصريحات ليست في المقابل تمهيداً لفظياً يدشن طوراً جديداً من تدهور العلاقات بين روسيا فلاديمير بوتين من جهة، ودولة الاحتلال الإسرائيلي أياً كانت صفة الأغلبية الحاكمة من جهة ثانية. وللمرء أن يبدأ من دالة صريحة سارعت سلطات الاحتلال إلى إشاعتها، مفادها أنّ سيد الكرملين اعتذر عن تصريحات لافروف خلال اتصال هاتفي مع رئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينيت، تضمن أيضاً التهنئة بوتين بـ«عيد استقلال» الكيان الإسرائيلي.
للمرء، الباحث عن أدلة أكثر صلابة ورسوخاً في الزمن، أن يذهب إلى صمت الرادارات الروسية المنصوبة في طول سوريا وعرضها، إزاء الاعتداءات المتكررة التي ينفذها الطيران الحربي الإسرائيلي ضدّ مواقع داخل العمق السوري، وأحياناً على مبعدة أميال معدودة من مواقع عسكرية روسية في مطار حميميم ومينائي اللاذقية وطرطوس والمجمعات السكنية للضباط الروس في صلنفة ومعمل الآزوت الذي بات في قبضة المستثمرين الروس والبوارج الروسية في عباب المتوسط. في عبارة أخرى، العلاقات الروسية-الإسرائيلية أشدّ عمقاً، وأبعد من حيث الاعتبارات الجيو-سياسية والإقليمية والدولية، من أن يعكّر صفوها تصويت إسرائيلي لصالح استبعاد موسكو من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
ثابت كذلك، وفي استكمال هذا الجانب من متانة العلاقات بين موسكو وتل أبيب، أن حكومة الاحتلال امتنعت عن تزويد أوكرانيا بأيّ طراز من الأسلحة، متطورة كانت وثقيلة أم تقليدية وخفيفة؛ كما رفضت الاشتراك في أي شكل من أشكال العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا، بل يتردد اليوم أنّ موطن المليارديرات الأوليغارشية الروسية الأول هو دولة الاحتلال. ولا يصحّ أن تُنسى هنا زيارة رئيس حكومة الاحتلال السابق بنيامين نتنياهو إلى موسكو، أيلول (سبتمبر) 2015، في تزامن دقيق مع بدء التدخل العسكري الروسي لصالح نظام بشار الأسد؛ وكان الهدف الوحيد لتلك الزيارة، غير المبرمجة مسبقاً، هو تثبيت البروتوكولات العملياتية في حال قيام الطيران الحربي الإسرائيلي بأية عمليات في الأجواء السورية، وضمان عدم وقوع سوء تفاهم بين قاذفات الـ«سوخوي 27» الروسية، والـ»F-15» الإسرائيلية.
وإذا كانت العلاقات الروسية-الإسرائيلية على هذه الشاكلة، وهي بالتالي أبعد من حكاية «دماء هتلر اليهودية»، فإنّ تصريحات لافروف ليست تغريداً خارج السرب تماماً؛ وما يحرص المسؤولون الإسرائيليون على إبرازه لجهة عدم رضا بوتين عن أقوال وزير خارجيته، وأنه شخصياً لا يتفوّه بما هو معادٍ للسامية، إنما تكذّبه حقيقة أخرى ساطعة: أنّ الرئيس الروسي مولع، أشدّ الولع في الواقع، بثلاثة من كبار مفكّري العداء للسامية، أي الفيلسوف إيفان إيلين والمؤرّخ ليف غوميليف والكاتب ألكسندر بروخانوف (وبين أشهر عبارات هذا الأخير قوله إنّ «اليهود استولوا على العالم وهم يستخدمون قوّتهم لصالح الشرّ»).
مغزى أوّل، هنا، ينبثق من نزوع الكرملين إلى دغدغة مشاعر شعبوية كامنة، عميقاً أو سطحياً، في نفوس شرائح غير ضئيلة داخل الشارع الروسي، كما في شوارع شعبية على امتداد دول أوروبا الشرقية؛ لم تنحسر فيها ظواهر الحساسية تجاه اليهود. ولا بأس بالطبع، أو لعلّ من الحكمة تحديداً، أن تُوكل إلى لافروف بعض مهامّ تلك الدغدغة؛ التي، ليس من دون مفارقة، يستطيب تولّي زمامها أيضاً!
-----------
القدس العربي
للمرء، الباحث عن أدلة أكثر صلابة ورسوخاً في الزمن، أن يذهب إلى صمت الرادارات الروسية المنصوبة في طول سوريا وعرضها، إزاء الاعتداءات المتكررة التي ينفذها الطيران الحربي الإسرائيلي ضدّ مواقع داخل العمق السوري، وأحياناً على مبعدة أميال معدودة من مواقع عسكرية روسية في مطار حميميم ومينائي اللاذقية وطرطوس والمجمعات السكنية للضباط الروس في صلنفة ومعمل الآزوت الذي بات في قبضة المستثمرين الروس والبوارج الروسية في عباب المتوسط. في عبارة أخرى، العلاقات الروسية-الإسرائيلية أشدّ عمقاً، وأبعد من حيث الاعتبارات الجيو-سياسية والإقليمية والدولية، من أن يعكّر صفوها تصويت إسرائيلي لصالح استبعاد موسكو من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
ثابت كذلك، وفي استكمال هذا الجانب من متانة العلاقات بين موسكو وتل أبيب، أن حكومة الاحتلال امتنعت عن تزويد أوكرانيا بأيّ طراز من الأسلحة، متطورة كانت وثقيلة أم تقليدية وخفيفة؛ كما رفضت الاشتراك في أي شكل من أشكال العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا، بل يتردد اليوم أنّ موطن المليارديرات الأوليغارشية الروسية الأول هو دولة الاحتلال. ولا يصحّ أن تُنسى هنا زيارة رئيس حكومة الاحتلال السابق بنيامين نتنياهو إلى موسكو، أيلول (سبتمبر) 2015، في تزامن دقيق مع بدء التدخل العسكري الروسي لصالح نظام بشار الأسد؛ وكان الهدف الوحيد لتلك الزيارة، غير المبرمجة مسبقاً، هو تثبيت البروتوكولات العملياتية في حال قيام الطيران الحربي الإسرائيلي بأية عمليات في الأجواء السورية، وضمان عدم وقوع سوء تفاهم بين قاذفات الـ«سوخوي 27» الروسية، والـ»F-15» الإسرائيلية.
وإذا كانت العلاقات الروسية-الإسرائيلية على هذه الشاكلة، وهي بالتالي أبعد من حكاية «دماء هتلر اليهودية»، فإنّ تصريحات لافروف ليست تغريداً خارج السرب تماماً؛ وما يحرص المسؤولون الإسرائيليون على إبرازه لجهة عدم رضا بوتين عن أقوال وزير خارجيته، وأنه شخصياً لا يتفوّه بما هو معادٍ للسامية، إنما تكذّبه حقيقة أخرى ساطعة: أنّ الرئيس الروسي مولع، أشدّ الولع في الواقع، بثلاثة من كبار مفكّري العداء للسامية، أي الفيلسوف إيفان إيلين والمؤرّخ ليف غوميليف والكاتب ألكسندر بروخانوف (وبين أشهر عبارات هذا الأخير قوله إنّ «اليهود استولوا على العالم وهم يستخدمون قوّتهم لصالح الشرّ»).
مغزى أوّل، هنا، ينبثق من نزوع الكرملين إلى دغدغة مشاعر شعبوية كامنة، عميقاً أو سطحياً، في نفوس شرائح غير ضئيلة داخل الشارع الروسي، كما في شوارع شعبية على امتداد دول أوروبا الشرقية؛ لم تنحسر فيها ظواهر الحساسية تجاه اليهود. ولا بأس بالطبع، أو لعلّ من الحكمة تحديداً، أن تُوكل إلى لافروف بعض مهامّ تلك الدغدغة؛ التي، ليس من دون مفارقة، يستطيب تولّي زمامها أيضاً!
-----------
القدس العربي