كثيرون منا في عجلة من أمرهم ويريدون أن يقفزوا إلى المستقبل بسرعة البرق ويحققوا بين ليلة وضحاها ما وصلت إليه الشعوب الأخرى خلال قرون من مسيرتها نحو التطور. مثل هذه القفزة قد تحصل في التطورات العلمية أو المادية لكنها لا تحصل في التغيرات السياسية والاجتماعية فهذه تستغرق وقتاً ولا يمكن اختزال المراحل بالسرعة التي يرغب بها البعض. وفي الوقت نفسه فإن بعضنا، وهؤلاء كثيرون إذا ما لاحظنا حجمهم في صناديق الاقتراع التي أتى بها الربيع العربي، يعتقد أن الحل الأمثل لمشاكلنا يكمن في العودة إلى الماضي وتقليد الأسلاف بل وفرض هذا الحل على الآخرين على رغم أنوفهم. هذا التوجه خطير جداً لأنه يتجاهل أهم نواميس الطبيعة ألا وهو أن الحياة تتقدم دائماً ولا تعود إلى الوراء وإن القسر لن يجدي نفعاً ولا يمكن أن يكون حلاً لأي مشكلة. والأخطر من ذلك هو أن هناك من يضفي على العودة القهقرى هذه صبغة دينية وقدسية لا يحق لأحد التشكيك بها، وكأن الدين هو ما أتى به الأولون وطبقوه وحسب، وليس نظام حياة هدفه تحقيق السعادة لبني البشر في الدنيا أولاً ثم في الآخرة.
الحراك الحالي الذي ولده الربيع العربي ضروري لمسيرة التطور السياسي والاجتماعي، لكن خطورته تكمن في مدى تمكن الداعين إلى الماضي من تنفيذ أجنداتهم والوسائل التي سيستخدمونها في تحقيق هذه الأجندات. فإن كانت الوسائل سلمية وحضارية فإن أضرارها ستكون محدودة على رغم أنها ستؤخر تحقيق التقدم والرخاء الذي حققته الدول الأخرى لمجتمعاتها بسبب الاستغراق في الجدل واللجوء إلى تجريب الوسائل القديمة التي سيكتشف أصحابها بعد حين أنها لم تعد نافعة لأحد لكنهم سيكتشفون ذلك بعد أن جربوا الوسائل الأخرى التي يعتقدون بصحتها. أما إذا كانت الوسائل المستخدمة في تحقيق الأجندات السياسية عنفية فنحن أمام تقهقر وتدهور جديد سيقود إلى تفتيت الأوطان ومعها القيم المجتمعية وإحداث فوضى عارمة قد يستغرق إصلاحها عشرات السنين. من الضروري إذاً التوصل إلى ميثاق شرف بين القوى المتصارعة يضبط هذا الحراك ويمنع تحوله إلى فلتان يمكن أن يقود إلى ضياع حتى المكاسب التي حققتها مجتمعاتنا خلال القرن المنصرم في مجالات حقوق الإنسان والحريات الشخصية وحقوق المرأة.
صحيح أن دولنا لم تكن ديموقراطية بل إن بعضها لا يقيم وزناً للرأي العام أو الخاص، لكن هنالك الكثير من المكاسب التي تحققت ويجب ألا يُسمح لبعض المتشدقين بالدين أن يلغوها متذرعين بتطبيق الدين ومستخدمين عصا القدسية لإخضاع الناس لأهواء ونزوات شخصية. كثيرون يحاولون استغلال مشاعر الناس الطيبة تجاه الدين والقيم السماوية لتحقيق مكاسب سياسية وتعزيز سلطتهم على الآخرين من دون وجه حق. وهؤلاء يزايدون على بعضهم بعضاً حتى في الدين وقد رأينا ما فعله النائب في البرلمان المصري عن حزب النور، ممدوح إسماعيل، عندما رفع الأذان أثناء جلسة البرلمان ضارباً عرض الجدار بكل الأعراف البرلمانية ومزايداً حتى على زملائه النواب الإسلاميين وبعضهم شيوخ ومختصون في الشؤون الدينية ما دفع رئيس البرلمان، سعد الكتاتني، وهو من حزب الإخوان المسلمين، إلى إيقافه عند حده.
يقول المرحوم الشيخ علي عبدالرازق في كتابه القيم «الإسلام وأصول الحكم»، وهو في رأيي من أكثر الكتب وضوحاً في الرؤية وسلاسة في الأفكار ومتعة في القراءة، «إن شعائر الله تعالى ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على تلك الحكومة التي يسميها الفقهاء خلافة... والواقع أن صلاح المسلمين في حياتهم لا يتوقف على شيء من ذلك. فلسنا بحاجة إليها في أمور ديننا ودنيانا بل هي كانت نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد». ويضيف: «لا يريد الله جل شأنه لهذا الدين الذي كفل له البقاء، أن يكون عزُّه أو ذلُّه منوطاً بنوع معين من الحكومة ولا بصنف معين من الأمراء».
لقد أدرك الكثير من الفقهاء الحريصين على سلامة الدين ودوره الإرشادي ضرورة إبعاد الدين عن السياسة لأن تسييسه ينطوي على مخاطرة استخدامه من قبل السياسيين لتحقيق مكاسب مادية شخصية بينما هدف الدين الأساس هو ترقية القيم المعنوية عند الإنسان على حساب القيم المادية التي يوليها معظم الناس أهمية قصوى في حياتهم. المشكلة إذاً ليست في الخشية من سلطة المتدينين الحقيقيين، فهؤلاء شريحة مهمة في أي مجتمع، يتفاوت حجمها وفق ظروف المجتمع وتاريخه وثقافته، وأكثر الناس لا تخشى من المتدين الحقيقي بل تثق به أكثر من غيره لاعتقادها أنه لا يبحث عن مكاسب دنيوية وأن جل اهتمامه منصب على إرضاء الخالق فحسب، لكن المشكلة تكمن في أن كثيرين سيدّعون التدين بسبب المكاسب الدنيوية التي ستتحقق لهم عبره بينما هم في الواقع ليسوا متدينين وهؤلاء سيتمكنون من تمرير مشاريعهم الشخصية على الناس باسم الدين. المتشدقون بالدين والمتسلحون به هم في الحقيقة خطر كبير على الدين وطبقة المتدينين الحقيقية لأنهم يسيئون إلى كليهما ويشوهون صورتيهما من أجل مكاسب شخصية ووقتية
-----------------------------------
الحياة اللندنية