تجمع العديد من الدراسات والكتب الأكاديمية الرصينة التي ظهرت في العقد الأخير من حول الملف الديموغرافي الإيراني، على القول بحدوث تحول راديكالي (يسميه البعض من مثل الباحث محمد جلال عباسي شفازي والباحثة ماري لاديه فولادي بالثورة الديموغرافية) في معدل خصوبة النساء الإيرانيات ابتداء من منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، بحيث أن معدل خصوبة المرأة الإيرانية، انخفض من 6 أطفال للمرأة الواحدة في منتصف الثمانينات وصولا إلى 1.71 طفل للمرأة الواحدة في العام 2009. وإذا كانت هذه الدراسات تتمايز في تفسير أسباب هذا الانخفاض الحاد والغير مسبوق على مستوى دول العالم في معدل الخصوبة، فإنها تجمع على أن النتائج المترتبة عليه لا تقتصر فقط على تبدل التركيبة الديموغرافية للمجتمع الإيراني وتحسن ظروف المرأة، ولكن لها مفاعيل كبيرة على البنى السياسية والاجتماعية لهذا المجتمع.
لإدراك أبعاد هذا التحول العميق في معدل خصوبة المرأة، يجب وضعه في السياق التغيرات الديموغرافية الأوسع داخل المجتمع الإيراني بمدنه وريفه، وأؤكد هنا على شمولها الريف، والتي تقترب به في بعض الجوانب إلى مصافي الدول المتقدمة، سواء لجهة الانخفاض الحاد في معدل النمو السكاني السنوي إلى حدود 0.88 % وزيادة متوسط عمر الفرد ونسبة عدد سكان المدن مقارنة بالأرياف وتراجع الأمية والزيادة الكبيرة في نسبة عدد المتعلمين بالتساوي لدى الجنسين وارتفاع سن الزواج وتقلص فارق العمر بين الزوجين وانخفاض عدد أفراد الخلية الأسرية.
كثيرا ما يتم الإشارة في سياق الحديث عن الأجيال الشابة في إيران ما دون الثلاثين من العمر إلى أنها لم تعش إلا في ظل نظام الجمهورية الإسلامية، ومن هنا طوقها للتحرر من القيود الصارمة التي فرضتها الثورة على أساليب حياتهم وسلم قيمهم. لكن ما يفوت مثل هكذا تحليلات هو الإشارة إلى التبدل البنيوي الذي طرأ على شكل الأسرة الإيرانية وتراتبيتها وعدد أفرادها ودور المرأة، الأمر الذي أدى في الكثير من الحالات إلى تفكك البنية البطرياكية سواء لجهة المشاركة الاقتصادية ومكانة المرأة وتعلمها أو لجهة العلاقة بين أجيال العائلة المختلفة والعلاقة بين الرجال والنساء فيها حيث حل الحوار والتشاركية مكان السلطة الآمرة الناهية. هذا التحول الأسري الذي درسه العديد من الباحثين، ترك أثره البليغ في رفض الشباب الإيراني للمحظورات التي تحاول السلطة أن تفرضهم عليهم في المجال العام، في الوقت الذي تراجعت فيه هذه المحظورات في مجالهم الاجتماعي والعائلي الخاص.
من المفيد هنا مقارنة بعض المعطيات الديموغرافية الإيرانية مع تركيا ومصر ليس فقط بسبب تقارب إجمالي عدد السكان في الدول الثلاث وهي على التوالي 71،2 مليون لإيران و75،4 مليون لمصر و 74،8 لتركيا، ولكن لتشابه الأهمية الجيوسياسية للبلدان الثلاث ولتقارب التحديات الإستراتيجية التي تواجهها شعوبها، هذا مع العلم أن معظم الأرقام التي نستخدمها هنا مأخوذ من إحصائيات الأمم المتحدة.
فإذا كانت إيران بالنسبة لمعدل خصوبة المرأة الذي يقارب فيها 1،7 تنتمي إلى مصافي الدول الأكثر تقدما في العالم، فإن معدل خصوبة المرأة في مصر لا يزال بحدود 3 أطفال في حين أنه في تركيا بحدود 2،1 طفل للمرأة الواحدة. ويتساوى معدل سكان المدن في كل من إيران وتركيا هو 68%، في حين أنه في مصر بحدود 42،6 %. وإذا أخذنا عدد الناس الموصولين بالانترنيت كون هذا الأخير لعب دورا مهما في تحرك المجتمع الإيراني الأخير، فأننا نجد أنه الأعلى في إيران بحدود 23 مليون نسمة ومن بعده تأتي تركيا بحدود 13،1 مليون نسمة وأخيرا مصر بحدود 8،7 مليون نسمة. في المقلب الآخر فإن إيران تتفوق على تركيا ومصر لجهة الارتفاع الكبير في معدلي التضخم والبطالة بسبب سياسات الرئيس نجاد الاقتصادية، هذا على الرغم من التغيرات الديموغرافية المبشرة. وقد أستخدم العديد من الباحثين هذا المعطى للتشكيك بالفكرة المسبقة عن التأييد الذي يتمتع به محمد أحمدي نجاد في صفوف الطبقات الشعبية، كون هذه الأخيرة هي المتضرر الأكبر من التضخم والبطالة. وفي حال وجود مثل هذا التأييد في صفوف هذه الفئات الفقيرة، فإنه غالبا ما يكون في الدوائر المرتبطة مباشرة من خلال لقمة عيشها بمؤسسات الدولة الصناعية والعسكرية والخيرية. والأكيد أن هذه الفئة لا تشكل الأغلبية مقارنة بالفئات المتضررة من البطالة والتضخم.
إذا عدنا إلى مقارنة البلدان الثلاث، نجد أن إيران وتركيا تتشابهان في العديد من المعطيات الديموغرافية التي تخص مجتمعيهما، في حين تبتعد مصر قليلا أو كثيرا عن هذين البلدين بالنسبة للبنية الديموغرافية لمجتمعها. لكن هذا الابتعاد يصبح كبيرا إذا نظرنا إلى الأوضاع السياسية وحالة المجتمع المدني في كل من هذه البلدان الثلاث وإلى آفاق الصراع على السلطة والبدائل السياسية التي تطرحها المعارضات المختلفة في هذه البلدان.
فالمجتمع الإيراني دأب خلال السنيين الماضية، من خلال كل قنوات الضغط المتاحة أمامه، على محاولة دفع الحياة السياسية إلى المزيد من التعددية والانفتاح وتقنيين تدخل الدين في السياسية والابتعاد بالزمني الدنيوي عن المطلق الديني، من دون أن يعني هذا تشكيكه بمشروعية الجمهورية الإسلامية.
في ذات الاتجاه يمكننا أن نقول الشيء ذاته عن المجتمع التركي وسعيه لتحرير حياته السياسية من مطلقاتها العلمانوية، في حال اعتبرنا العلمانية التركية الكمالية في جانب منها ديننا دنيويا يحاول أن باسم المطلق العلمانوي أن يقفل باب السياسية في وجه الزمني والنسبي والمتحرك. في كلا الحالتين نحن أمام نظام سياسي يحمل في داخله بعداً ثيوقراطياً، علمانوياً أو دينياً، يحاول أن يطغى على ما عداه وأن يقلل قدر الإمكان من تأثير البعد الديموقراطي التمثيلي والانتخابي. يمكننا هنا أن نجاذف ونقول أن تركيا في هذا المجال، أثبتت مرونة أكبر في نظامها السياسي لجهة قدرته على التطور والتخفف من المطلقات العلمانوية والسماح بهامش كبير من المشاركة السياسية والتقليلمن وطأة "المقدس" العلمانوي على السياسي اليومي و"مدنساته".
المؤسف في الحالة الإيرانية أنه بعد إجهاض تجربة حكم خاتمي وقمع التحركات الطلابية والتضييق الخانق على الإصلاحيين وصولا إلى تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة والدور الطاغي والمنحاز الذي بات يلعبه الولي الفقيه بعيدا عن أي رقابة شعبية، فإن الجمهورية الإسلامية أغلقت أكثر فأكثر إمكانية تطوير نظامها السياسي أمام المزيد من التمثيل الشعبي الحقيقي بشكل يستجيب فيه لتطلعات مجتمعها وللتبدلات العميقة التي طرأت عليه منذ زمن الثورة. لكن هذا لا يغير من شيء في حقيقة أن المجتمع الإيراني، بمدنه وريفه، بطبقته الوسطى وطبقاته الشعبية، بأغلبيته الفارسية وأقلياته الإثنية والدينية، بمعظم تياراته السياسية، قد شب عن الطوق وسيكون من المستحيل على المدى البعيد إعادته إلى بوتقة ولاية الفقيه بمنظورها الحالي الذي يركز أهم الصلاحيات السلطوية والدينية في يد رجل واحد تحيط به أجهزة أمنية وعسكرية واقتصادية تتحرك تحت أمرته بعيداً عن أي مسألة شعبية.
إذا نظرنا إلى الجانب المصري، فإنه على الرغم من التغيرات العميقة التي أحدثتها ثورة 23 يوليو 1952 في بنية المجتمع المصري، فإننا اليوم لا نجد إلا مؤسسة الجيش المصري يقوم عليها بنيان الدولة وتأتي منها النخب الحاكمة، مع أن هذه المؤسسة لا تملك أي صفة تمثيلة ولا تخضع لأي مسألة شعبية ولا تملك أي مشروعية دستورية أو شعبية. لا بل أن النخب الحاكمة، في حرصها على التمسك بالحكم ومنع تشكل أي معارضة سياسية منظمة، أمعنت في تقطيع أوصال المجتمع المدني وحاصرت القضاء وفككت النقابات وحاربت كل المحاولات الشجاعة لبلورة فسحات حرة للتفكير والمبادرات الخلاقة والتعددية الحزبية الحقيقة والنشاط النقابي المستقل والتجمع والاحتجاج بعيدا عن سطوة الدولة وأجهزتها الرقابية.
ليس من المبالغة بشيء القول أن المجتمع المصري في ظل تفشي الفقر واستشراء الفساد وضعف المؤسسات التعليمية وتراجع استقلالية الجامعات ووأد الخطاب النهضوي وفشل مشاريع التحديث السلطوية وظهور سيناريوهات التوريث وتعطيل الهامش الديموقراطي المتبقي في مؤسسات الدولة التمثيلية، بات اليوم أكثر ميلا للإسلام السياسي كبديل وحيد عن السلطة الحالية. وكأنه بات ينطبق عليه المثل الشعبي القائل "الله أطعمه الحج والناس راجعة"، والمقصود بالناس هنا بالطبع المجتمعين الإيراني والتركي العائدين تباعاً من الثيوقراطية الدينية والثيوقراطية العلمانوية. وما يدعو للآسف أن الأخوان المسلمين في مصر، لا يزالون أسيرين خطابهم الشعبوي المأسلم، وبعيدين بأشواط عن المراجعات النقدية التي قامت بها بعض التيارات الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي لجهة القبول الحقيقي بالتعددية السياسية والفكرية وتأصيل قضايا حقوق الإنسان والحريات الفردية والدينية وحقوق الأقليات.
خلاصة القول في حالة كل من البلدان الثلاث، أن هناك مبادئ سياسية عامة لا بد من احترامها لكي تتجذر الممارسات الديموقراطية الحقيقية، وذلك بمعزل عن صيغة النظام السياسي الذي تحاول كلا من النخب السياسية في البلدان الثلاث بناؤه، سواء أخذ طابعا جمهوريا إسلاميا أو علمانيا كمالياً أو جمهوريا رئاسياً مصرياً. فالسلطة مستمده من الشعب وللشعب، ولا بد من احترام حرية الرأي والتعبير وحرية الاعتقاد، والحق في التظاهر والتجمع السلمي، ولا بد من أن يكون هناك فصل حقيقي للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ولا بد من فرض رقابة قضائية مستقلة على الانتخابات التشريعية، ورقابة شعبية على متبوئي المناصب العامة، ولا بد من أعطاء الحق للجميع في الترشح والانتخاب وتبوئ المناصب العامة. ولا بد من احترام حقوق الأقليات وحقها في الوجود، وبالأخص منها الأقليات السياسية. فلا يصادر الحق في الوجود السياسي للعلمانيين في إيران مهما تضائل تمثيلهم الشعبي، وكذلك الحال مع الإسلاميين في كل من تركيا ومصر.
قد يرى البعض أن موازين القوى الحالية في كل من هذه البلدان الثلاث لا تسمح بأي تقدم جدي في اتجاه تطبيق هذه المبادئ الديموقراطية العامة! لكن يكفي أن ننظر في الآمال المفتوحة أمام تركيا إن هي مضت قدما في إصلاحاتها، والآمال التي ستجهض في إيران إن هي فشلت في توسيع الجانب التمثيلي في مؤسساتها وتقاعست عن إعادة النظر في مؤسسة ولاية الفقيه، والآمال الغير موجودة أصلا في مصر إن هي ظلت على عطالتها!
لإدراك أبعاد هذا التحول العميق في معدل خصوبة المرأة، يجب وضعه في السياق التغيرات الديموغرافية الأوسع داخل المجتمع الإيراني بمدنه وريفه، وأؤكد هنا على شمولها الريف، والتي تقترب به في بعض الجوانب إلى مصافي الدول المتقدمة، سواء لجهة الانخفاض الحاد في معدل النمو السكاني السنوي إلى حدود 0.88 % وزيادة متوسط عمر الفرد ونسبة عدد سكان المدن مقارنة بالأرياف وتراجع الأمية والزيادة الكبيرة في نسبة عدد المتعلمين بالتساوي لدى الجنسين وارتفاع سن الزواج وتقلص فارق العمر بين الزوجين وانخفاض عدد أفراد الخلية الأسرية.
كثيرا ما يتم الإشارة في سياق الحديث عن الأجيال الشابة في إيران ما دون الثلاثين من العمر إلى أنها لم تعش إلا في ظل نظام الجمهورية الإسلامية، ومن هنا طوقها للتحرر من القيود الصارمة التي فرضتها الثورة على أساليب حياتهم وسلم قيمهم. لكن ما يفوت مثل هكذا تحليلات هو الإشارة إلى التبدل البنيوي الذي طرأ على شكل الأسرة الإيرانية وتراتبيتها وعدد أفرادها ودور المرأة، الأمر الذي أدى في الكثير من الحالات إلى تفكك البنية البطرياكية سواء لجهة المشاركة الاقتصادية ومكانة المرأة وتعلمها أو لجهة العلاقة بين أجيال العائلة المختلفة والعلاقة بين الرجال والنساء فيها حيث حل الحوار والتشاركية مكان السلطة الآمرة الناهية. هذا التحول الأسري الذي درسه العديد من الباحثين، ترك أثره البليغ في رفض الشباب الإيراني للمحظورات التي تحاول السلطة أن تفرضهم عليهم في المجال العام، في الوقت الذي تراجعت فيه هذه المحظورات في مجالهم الاجتماعي والعائلي الخاص.
من المفيد هنا مقارنة بعض المعطيات الديموغرافية الإيرانية مع تركيا ومصر ليس فقط بسبب تقارب إجمالي عدد السكان في الدول الثلاث وهي على التوالي 71،2 مليون لإيران و75،4 مليون لمصر و 74،8 لتركيا، ولكن لتشابه الأهمية الجيوسياسية للبلدان الثلاث ولتقارب التحديات الإستراتيجية التي تواجهها شعوبها، هذا مع العلم أن معظم الأرقام التي نستخدمها هنا مأخوذ من إحصائيات الأمم المتحدة.
فإذا كانت إيران بالنسبة لمعدل خصوبة المرأة الذي يقارب فيها 1،7 تنتمي إلى مصافي الدول الأكثر تقدما في العالم، فإن معدل خصوبة المرأة في مصر لا يزال بحدود 3 أطفال في حين أنه في تركيا بحدود 2،1 طفل للمرأة الواحدة. ويتساوى معدل سكان المدن في كل من إيران وتركيا هو 68%، في حين أنه في مصر بحدود 42،6 %. وإذا أخذنا عدد الناس الموصولين بالانترنيت كون هذا الأخير لعب دورا مهما في تحرك المجتمع الإيراني الأخير، فأننا نجد أنه الأعلى في إيران بحدود 23 مليون نسمة ومن بعده تأتي تركيا بحدود 13،1 مليون نسمة وأخيرا مصر بحدود 8،7 مليون نسمة. في المقلب الآخر فإن إيران تتفوق على تركيا ومصر لجهة الارتفاع الكبير في معدلي التضخم والبطالة بسبب سياسات الرئيس نجاد الاقتصادية، هذا على الرغم من التغيرات الديموغرافية المبشرة. وقد أستخدم العديد من الباحثين هذا المعطى للتشكيك بالفكرة المسبقة عن التأييد الذي يتمتع به محمد أحمدي نجاد في صفوف الطبقات الشعبية، كون هذه الأخيرة هي المتضرر الأكبر من التضخم والبطالة. وفي حال وجود مثل هذا التأييد في صفوف هذه الفئات الفقيرة، فإنه غالبا ما يكون في الدوائر المرتبطة مباشرة من خلال لقمة عيشها بمؤسسات الدولة الصناعية والعسكرية والخيرية. والأكيد أن هذه الفئة لا تشكل الأغلبية مقارنة بالفئات المتضررة من البطالة والتضخم.
إذا عدنا إلى مقارنة البلدان الثلاث، نجد أن إيران وتركيا تتشابهان في العديد من المعطيات الديموغرافية التي تخص مجتمعيهما، في حين تبتعد مصر قليلا أو كثيرا عن هذين البلدين بالنسبة للبنية الديموغرافية لمجتمعها. لكن هذا الابتعاد يصبح كبيرا إذا نظرنا إلى الأوضاع السياسية وحالة المجتمع المدني في كل من هذه البلدان الثلاث وإلى آفاق الصراع على السلطة والبدائل السياسية التي تطرحها المعارضات المختلفة في هذه البلدان.
فالمجتمع الإيراني دأب خلال السنيين الماضية، من خلال كل قنوات الضغط المتاحة أمامه، على محاولة دفع الحياة السياسية إلى المزيد من التعددية والانفتاح وتقنيين تدخل الدين في السياسية والابتعاد بالزمني الدنيوي عن المطلق الديني، من دون أن يعني هذا تشكيكه بمشروعية الجمهورية الإسلامية.
في ذات الاتجاه يمكننا أن نقول الشيء ذاته عن المجتمع التركي وسعيه لتحرير حياته السياسية من مطلقاتها العلمانوية، في حال اعتبرنا العلمانية التركية الكمالية في جانب منها ديننا دنيويا يحاول أن باسم المطلق العلمانوي أن يقفل باب السياسية في وجه الزمني والنسبي والمتحرك. في كلا الحالتين نحن أمام نظام سياسي يحمل في داخله بعداً ثيوقراطياً، علمانوياً أو دينياً، يحاول أن يطغى على ما عداه وأن يقلل قدر الإمكان من تأثير البعد الديموقراطي التمثيلي والانتخابي. يمكننا هنا أن نجاذف ونقول أن تركيا في هذا المجال، أثبتت مرونة أكبر في نظامها السياسي لجهة قدرته على التطور والتخفف من المطلقات العلمانوية والسماح بهامش كبير من المشاركة السياسية والتقليلمن وطأة "المقدس" العلمانوي على السياسي اليومي و"مدنساته".
المؤسف في الحالة الإيرانية أنه بعد إجهاض تجربة حكم خاتمي وقمع التحركات الطلابية والتضييق الخانق على الإصلاحيين وصولا إلى تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة والدور الطاغي والمنحاز الذي بات يلعبه الولي الفقيه بعيدا عن أي رقابة شعبية، فإن الجمهورية الإسلامية أغلقت أكثر فأكثر إمكانية تطوير نظامها السياسي أمام المزيد من التمثيل الشعبي الحقيقي بشكل يستجيب فيه لتطلعات مجتمعها وللتبدلات العميقة التي طرأت عليه منذ زمن الثورة. لكن هذا لا يغير من شيء في حقيقة أن المجتمع الإيراني، بمدنه وريفه، بطبقته الوسطى وطبقاته الشعبية، بأغلبيته الفارسية وأقلياته الإثنية والدينية، بمعظم تياراته السياسية، قد شب عن الطوق وسيكون من المستحيل على المدى البعيد إعادته إلى بوتقة ولاية الفقيه بمنظورها الحالي الذي يركز أهم الصلاحيات السلطوية والدينية في يد رجل واحد تحيط به أجهزة أمنية وعسكرية واقتصادية تتحرك تحت أمرته بعيداً عن أي مسألة شعبية.
إذا نظرنا إلى الجانب المصري، فإنه على الرغم من التغيرات العميقة التي أحدثتها ثورة 23 يوليو 1952 في بنية المجتمع المصري، فإننا اليوم لا نجد إلا مؤسسة الجيش المصري يقوم عليها بنيان الدولة وتأتي منها النخب الحاكمة، مع أن هذه المؤسسة لا تملك أي صفة تمثيلة ولا تخضع لأي مسألة شعبية ولا تملك أي مشروعية دستورية أو شعبية. لا بل أن النخب الحاكمة، في حرصها على التمسك بالحكم ومنع تشكل أي معارضة سياسية منظمة، أمعنت في تقطيع أوصال المجتمع المدني وحاصرت القضاء وفككت النقابات وحاربت كل المحاولات الشجاعة لبلورة فسحات حرة للتفكير والمبادرات الخلاقة والتعددية الحزبية الحقيقة والنشاط النقابي المستقل والتجمع والاحتجاج بعيدا عن سطوة الدولة وأجهزتها الرقابية.
ليس من المبالغة بشيء القول أن المجتمع المصري في ظل تفشي الفقر واستشراء الفساد وضعف المؤسسات التعليمية وتراجع استقلالية الجامعات ووأد الخطاب النهضوي وفشل مشاريع التحديث السلطوية وظهور سيناريوهات التوريث وتعطيل الهامش الديموقراطي المتبقي في مؤسسات الدولة التمثيلية، بات اليوم أكثر ميلا للإسلام السياسي كبديل وحيد عن السلطة الحالية. وكأنه بات ينطبق عليه المثل الشعبي القائل "الله أطعمه الحج والناس راجعة"، والمقصود بالناس هنا بالطبع المجتمعين الإيراني والتركي العائدين تباعاً من الثيوقراطية الدينية والثيوقراطية العلمانوية. وما يدعو للآسف أن الأخوان المسلمين في مصر، لا يزالون أسيرين خطابهم الشعبوي المأسلم، وبعيدين بأشواط عن المراجعات النقدية التي قامت بها بعض التيارات الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي لجهة القبول الحقيقي بالتعددية السياسية والفكرية وتأصيل قضايا حقوق الإنسان والحريات الفردية والدينية وحقوق الأقليات.
خلاصة القول في حالة كل من البلدان الثلاث، أن هناك مبادئ سياسية عامة لا بد من احترامها لكي تتجذر الممارسات الديموقراطية الحقيقية، وذلك بمعزل عن صيغة النظام السياسي الذي تحاول كلا من النخب السياسية في البلدان الثلاث بناؤه، سواء أخذ طابعا جمهوريا إسلاميا أو علمانيا كمالياً أو جمهوريا رئاسياً مصرياً. فالسلطة مستمده من الشعب وللشعب، ولا بد من احترام حرية الرأي والتعبير وحرية الاعتقاد، والحق في التظاهر والتجمع السلمي، ولا بد من أن يكون هناك فصل حقيقي للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ولا بد من فرض رقابة قضائية مستقلة على الانتخابات التشريعية، ورقابة شعبية على متبوئي المناصب العامة، ولا بد من أعطاء الحق للجميع في الترشح والانتخاب وتبوئ المناصب العامة. ولا بد من احترام حقوق الأقليات وحقها في الوجود، وبالأخص منها الأقليات السياسية. فلا يصادر الحق في الوجود السياسي للعلمانيين في إيران مهما تضائل تمثيلهم الشعبي، وكذلك الحال مع الإسلاميين في كل من تركيا ومصر.
قد يرى البعض أن موازين القوى الحالية في كل من هذه البلدان الثلاث لا تسمح بأي تقدم جدي في اتجاه تطبيق هذه المبادئ الديموقراطية العامة! لكن يكفي أن ننظر في الآمال المفتوحة أمام تركيا إن هي مضت قدما في إصلاحاتها، والآمال التي ستجهض في إيران إن هي فشلت في توسيع الجانب التمثيلي في مؤسساتها وتقاعست عن إعادة النظر في مؤسسة ولاية الفقيه، والآمال الغير موجودة أصلا في مصر إن هي ظلت على عطالتها!