لا يوجد سبب لتطلع الإنسان إلى الحرية، سوى شعوره بالحاجة لتغيير الوضع الذي هو فيه، الذي يراه قيداً عليه، قيداً مادياً أو ذهنياً أو روحياً. ولا يوجد سبب كي يدعوك أحدٌ إلى تقبل الحرية، سوى شعوره بأنَّك في حاجة إلى تغيير وضع يراه مقيداً لك.
إنَّ تاريخ النقاش في مفهوم الحرية، يتوازى مع محاولات الإنسان لتغيير ذاته، وتغيير المكان الذي يحتله في الكون. قد يكون من ضروب المبالغة لو قلت إنَّ التفكير في الحرية، هو الذي فتح أبواب العلم، وهو الذي أوجد حاجة إلى القانون. أقول إنَّ هذا قد يكون ضرباً من المبالغة، ولهذا لا أريد الإصرار عليه (ربما أعود إليه في مقال لاحق). لكن ما يمكن قوله - دون خشية المبالغة - هو أنَّ كثيراً مما تعلمه الإنسان جاء في سياق تطور فهمه للأبعاد العديدة، التي ينطوي عليها مفهوم الحرية ومشكلاتها.
كان الرقُّ خلفية للنقاشات الأولى في الموضوع. بعض الناس رأوا أنَّ استعباد البشر نقض للفضيلة، وبعضهم اعتبروه أمراً طبيعياً، لا يعارض مقتضيات العدالة. في القرن التاسع عشر ساد انطباع عام بأنَّ الرقَّ أمر بغيض، حتى لو جرى تبريره بالحاجات الاقتصادية للمجتمع. ولهذا انتقل النقاش إلى عوائق الحرية، والعوامل التي تؤدي إلى تقليصها أو توسيعها. وظهرت عشرات من الأبحاث حول معنى أنْ يكونَ الإنسان حراً، وما يترتب على الحرية من ثمرات وأضرار.
في منتصف القرن العشرين، اشتبك النقاش في الحرية، مع نقاش موازٍ في المساواة والعدالة. وبرزت نظريات تدعو لتكليف المجتمع والدولة، مسؤولية تحويل الحرية من تطلع مثالي إلى واقع يومي. ومن هذه الزاوية، باتت الحرية جزءاً من مفهوم العدالة الاجتماعية. بل إنَّ تنسيج الحرية في المنظور الفلسفي للعدالة الاجتماعية، كان الرد الرئيس للنهج الليبرالي على نظيره الماركسي، الذي أنكر إمكانية الحرية، قبل تحقيق مستوى معيشي معقول.
ولعلَّ بعض القراء يذكر الجدل الذي يثيره في العادة شعار «الحرية أغلى من رغيف العيش» الذي كان يطرح لتبرير حروب التحرر الوطني في بعض الأحيان، وصراعات التحرر الاجتماعي، أحياناً أخرى. مع أنَّه في حقيقة الأمر، لم يتحول إلى معيار قطعي. فقد بقيت الحرية متأخرة عن رغيف العيش، من حيث القيمة المطلقة.
لكن تجربة التمدن الغربي برهنت بما يقطع الشك على أنَّ الإنسان الحر أقدر على تدبير لقمة العيش لنفسه ولغيره، بخلاف الإنسان المقيد (مادياً أو ذهنياً أو روحياً) الذي لا يستطيع مغادرة مكانه، ولا التفكير في بدائل عن الوضع الذي هو فيه.
منذ زمن سحيق ساد منظور يرى أنَّ التقدم، أي حل مشكلات الإنسان ومشكلات العالم، يكمن في الاستثمار الأكفأ لموارد الطبيعة. أرى اليوم منظوراً مختلفاً يتبلور بالتدريج، فحواه أنَّ تلك الحلول موجودة في ذهن الإنسان، وأنَّ ما يحتاجه الإنسان هو «التحرر» من قيود الأفهام المسبقة، التي تعيق رؤية تلك الحلول. هذا يعادل تحول التركيز من العتاد (الهاردوير) كمحور للعمل إلى الطريقة (السوفتوير) وهو تحول سيعرفه أكثر الناس.
-----------
الشرق الاوسط
إنَّ تاريخ النقاش في مفهوم الحرية، يتوازى مع محاولات الإنسان لتغيير ذاته، وتغيير المكان الذي يحتله في الكون. قد يكون من ضروب المبالغة لو قلت إنَّ التفكير في الحرية، هو الذي فتح أبواب العلم، وهو الذي أوجد حاجة إلى القانون. أقول إنَّ هذا قد يكون ضرباً من المبالغة، ولهذا لا أريد الإصرار عليه (ربما أعود إليه في مقال لاحق). لكن ما يمكن قوله - دون خشية المبالغة - هو أنَّ كثيراً مما تعلمه الإنسان جاء في سياق تطور فهمه للأبعاد العديدة، التي ينطوي عليها مفهوم الحرية ومشكلاتها.
كان الرقُّ خلفية للنقاشات الأولى في الموضوع. بعض الناس رأوا أنَّ استعباد البشر نقض للفضيلة، وبعضهم اعتبروه أمراً طبيعياً، لا يعارض مقتضيات العدالة. في القرن التاسع عشر ساد انطباع عام بأنَّ الرقَّ أمر بغيض، حتى لو جرى تبريره بالحاجات الاقتصادية للمجتمع. ولهذا انتقل النقاش إلى عوائق الحرية، والعوامل التي تؤدي إلى تقليصها أو توسيعها. وظهرت عشرات من الأبحاث حول معنى أنْ يكونَ الإنسان حراً، وما يترتب على الحرية من ثمرات وأضرار.
في منتصف القرن العشرين، اشتبك النقاش في الحرية، مع نقاش موازٍ في المساواة والعدالة. وبرزت نظريات تدعو لتكليف المجتمع والدولة، مسؤولية تحويل الحرية من تطلع مثالي إلى واقع يومي. ومن هذه الزاوية، باتت الحرية جزءاً من مفهوم العدالة الاجتماعية. بل إنَّ تنسيج الحرية في المنظور الفلسفي للعدالة الاجتماعية، كان الرد الرئيس للنهج الليبرالي على نظيره الماركسي، الذي أنكر إمكانية الحرية، قبل تحقيق مستوى معيشي معقول.
ولعلَّ بعض القراء يذكر الجدل الذي يثيره في العادة شعار «الحرية أغلى من رغيف العيش» الذي كان يطرح لتبرير حروب التحرر الوطني في بعض الأحيان، وصراعات التحرر الاجتماعي، أحياناً أخرى. مع أنَّه في حقيقة الأمر، لم يتحول إلى معيار قطعي. فقد بقيت الحرية متأخرة عن رغيف العيش، من حيث القيمة المطلقة.
لكن تجربة التمدن الغربي برهنت بما يقطع الشك على أنَّ الإنسان الحر أقدر على تدبير لقمة العيش لنفسه ولغيره، بخلاف الإنسان المقيد (مادياً أو ذهنياً أو روحياً) الذي لا يستطيع مغادرة مكانه، ولا التفكير في بدائل عن الوضع الذي هو فيه.
منذ زمن سحيق ساد منظور يرى أنَّ التقدم، أي حل مشكلات الإنسان ومشكلات العالم، يكمن في الاستثمار الأكفأ لموارد الطبيعة. أرى اليوم منظوراً مختلفاً يتبلور بالتدريج، فحواه أنَّ تلك الحلول موجودة في ذهن الإنسان، وأنَّ ما يحتاجه الإنسان هو «التحرر» من قيود الأفهام المسبقة، التي تعيق رؤية تلك الحلول. هذا يعادل تحول التركيز من العتاد (الهاردوير) كمحور للعمل إلى الطريقة (السوفتوير) وهو تحول سيعرفه أكثر الناس.
-----------
الشرق الاوسط