استضاف برنامج «كلام (بعض) الناس» غسان سلامة (الذي اعتبر خطاب نتنياهو «خطوة إلى الأمام») للحديث عن إيران (ومواضيع أخرى متفرّقة، بما فيها نصائحه لسعد الدين الحنيف الحريري في مونتي كارلو). وسلامة عليم بشؤون إيران لكنه حرّف تصريحاً لمحمد البرادعي. فالبرادعي قال بالإنكليزيّة إن لديه «حدساً» يقول إن إيران تسعى للحصول على سلاح نووي، إلا أن سلامة جعل من الكلمة الإنكليزيّة التي استعملها البرادعي «قناعة عميقة». ما علينا. خطأ في الترجمة بريء. وهوّن سلامة (الذي ساهم في إسباغ الشرعيّة الدوليّة على الاحتلال الأميركي للعراق) من شأن التدخّل الأميركي في شؤون إيران عبر القول إن الكلّ يتدخّل في شؤون الكلّ: أي أن معادلة التدخّل تلغي التدخل المضاد. وعليه، فإن مقدار التدخّل العراقي في الشؤون الأميركيّة يوازي مقدار التدخّل الأميركي في الشؤون العراقيّة. وإعلام آل سعود يتعامل مع الحدث على أساس أن الشعب الإيراني لن يستكين قبل أن يلقي الأمير نايف بظلاله في إيران.
وروبرت فيسك انتقل إلى إيران. لا ندري لماذا لا يزال البعض في العالم العربي يعوّل على فسك في تقاريره: فمنذ اغتيال الحريري تحوّل الرجل إلى جهاز دعاية لآل الحريري ولجنبلاط، لا يختلف في توجهاته عن أصوات نشرة قريطم. والرجل قضى سنوات في الشرق الأوسط من دون أن يتعلّم لغاته أو يحتكّ بغير النخبة: يستعين بمترجمين ومُساعدين وسائقه «عبد» في لبنان. يهلّل فيسك لثورات يعطف عليها حتى لو لم تستحق لقب «الثورة». وهو خلافاً لرصانة مراسلي «الإيكونومست»، مثلاً، يستعين بالشائعات والخبريّات إذا توافقت مع أهوائه. لكن فيسك حزم أمره: فرفيق الحريري الذي عرض عليه نقله بطائرته الخاصة بعد تعرّضه لاعتداء في باكستان قبل سنوات يستحقّ الوفاء.
إن تحليل الوضع الإيراني المُلتهب يتطلّب بعض التمعّن في نظريّات الثورة: كيف تحدث الثورات ولماذا، ومتى تستنفد الثورة أغراضَها؟ ومتى يكتشف الناس زيف شعارات الثورة ومتى يهجر المثقفون الثورة (الثورة الصينيّة عزلت هذا العامل عبر استباقِه في «الثورة الثقافيّة»)؟ الثورة الإيرانيّة كانت واحدة من ثورات قليلة في العالم النامي (كوبا، المكسيك، الصين، ونيكاراغوا)، وخصوصاً في العالم العربي (وهي لفحت بـ«ريحـ»ها عدداً كبيراً من المثقفين العرب). يمكن الحديث عن ثورات مناهضة للاستعمار أو عن ثورات فاشلة أو مضادة، لكن في العالم العربي عَوّضَ الاستسهال اللفظي لكلمة ثورة (وهي محبّة، كما أخبرنا ميشال عفلق في مؤلفه الوحيد، مع أن المواطن يجهد لتلمّس المحبّة في الأنظمة البعثيّة التي رعاها «الأستاذ») عن الثورة الحقيقيّة، وربما عن قصد لحماية الأنظمة من الثورات. ما معنى الثورة في العالم العربي عندما تصبح الهمروجة الطائفيّة في لبنان «ثورة الأرز»؟ يحاول جون فوران في كتابه عن «تنظير الثورات»، وهو لم يترجم إلى العربيّة، أن ينسّق أصناف الثورات في العالم ويصل إلى خلاصة لا مناص منها: صعوبة الثورات في العالم النامي، وهو يعزو ذلك إلى عوامل مختلفة بما فيها التبعيّة التنمويّة والتدخّل الخارجي وتشتّت المعارضة. والثورات تؤرّخ لمرحلة جديدة، أو لفصل قاطع مع النظام البائد، كما حلّل «كرين برنتون» في كتابه المرجعي عن «تشريح الثورات»، مع أنه ركّز على ثورات أربع لا غير: الأميركيّة والبريطانيّة والفرنسيّة والروسيّة. المفكرّ الفرنسي ألكسي دو توكفيل لا يأخذ بنظريّة القطع الفاصل: لقد رأى في الثورة الفرنسيّة إكمالاً لتراث ملكي في تفعيل مركزيّة الدولة في عمادها. لكن الثورة الإيرانيّة حظيت باهتمام بالغ ليس فقط لتأثيرها الهائل على السياسة الدوليّة بل لندرة الثورة «الإسلاميّة»، مما يفسّر الإفراط في التحليل الثقافي ــــ الديني للثورة على حساب الأسباب السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. هناك من السمات ما تشاطر به الثورة الإسلاميّة ثورات عالميّة أخرى وهناك ما تختصّ به هي. ولعلّ سماتها الثوريّة الخاصة هي التي أوقعتها في المأزق.
الثورة الإيرانيّة وعدت بقطع فاصل مع ماض لم تقطع معه بالكامل. لعلّ الأزمة العميقة التي يعانيها النظام في إيران اليوم تنبع من مشاهد قمع التظاهرات السلميّة: ذكّرت بالتظاهرات ضد الشاه التي تراكمت لتحيله عاجزاً أمام تنامي الحركة الشعبيّة. والمعضلة التي تواجه النظام تكمن في حاجته للدفاع عن بقائه: كلما لجأ إلى القوة لفرض نفسه، تناقصت شرعيّته الثوريّة وأضعفت قدرته التاريخيّة على الاستمرار في الحكم. طبعاً، يستطيع النظام أن يفرض نفسه بالقوّة المفرطة وسفك الدماء المتزايد، لكنه يعجز عندها في الاعتماد على غير القوّة للبقاء: أي أنه يفقد السلطة الحقيقيّة كلّما استعان بالعنف، كما نظّرت حنة أرندت من قبل. لهذا، فإن النظام أصيب بالارتباك. لم يعتد معارضة شعبيّة بهذا الحجم. واتهام الغرب بالتدخّل ــــ والغرب يتدخّل في كل شؤون العالم الثالث، وحتى في تأليف اللوائح في المتن ــــ لا يفي بالغرض. النظام لا يستطيع أن يخفي حقيقة المعارضة وحقيقة تناقص الشرعيّة الثوريّة. فالثورة دخلت في مرحلة ترهّل وتكلّس نابعة من شعارات الثورة نفسها.
أولاً، لم تنجح شعارات الثورة في السياسة الخارجيّة في إعطاء المواطن أملاً أو سبباً بتأييدها في الأعوام الأخيرة. والذين يصدّقون مزاعم النظام عن عمق فكرة التضامن الإسلامي في إيران هم في سذاجة (أو غباء) من صدّق مزاعم الأنظمة الشيوعيّة عن عمق فكرة التضامن الأممي في دول أوروبا الشرقيّة. ما إن سقطت تلك الأنظمة حتى زالت تلك الأفكار، والشعب الروسي اليوم لا علاقة له البتة في أكثره بنضال شعوب العالم الثالث. ويخطئ من يظن أن صعود الجمهوريّة الإسلاميّة قضى على فكرة القوميّة الإيرانيّة: المؤرّخ ريشتارد كوتام درس التاريخ الإيراني من زاوية تاريخ الفكرة القوميّة الإيرانيّة، مثل الذين درسوا الاتحاد السوفياتي من منظار التاريخ الروسي (لا الشيوعي). القوميّة الإيرانيّة تزاوجت مع الهويّة الإسلاميّة للثورة، لكن العزلة التي عانتها إيران، بالإضافة إلى العقوبات المتزايدة (التي أثرت على مبيعات ملك الفستق الإيراني، هاشمي رفسنجاني، رمز الفساد في الثورة، وهو أغنى إيراني على الإطلاق، كما أنه كان بطل فضيحة إيران ــــ كونترا التي شهدت غزلاً إسرائيليّاً إيرانيّاً) التي تزامنت مع هبوط حاد في أسعار النفط. لا يمكن الركون إلى نظريّات تعمد إلى ترويج شعبيّة الدور الإيراني في دعم حركات المقاومة (أو دعم حركات المقاومة الإسلاميّة فقط لأن إيران لم تدعم حركات مقاومة يساريّة مثلاً). قد يكون المشروع النووي الإيراني (كمثيله في الهند وباكستان) فوق الصراعات الإيديولوجيّة، لأنه عنوان للفخر القومي الإيراني مع أنه يحمي النظام الحالي، لكن ثمنه السياسي والاقتصادي فاق توقّعات النظام ومؤيّديه.
المرشّح الخاسر مير حسين موسوي (أرشيف ــ رويترز)ثانياً، يمكن الخوض في تفاصيل عمليّة الانتخاب وتحليل سمات الاقتراع في مختلف المناطق، مع أن النظام اعترف بعدد من ملايين الأصوات الفائضة بناءً على تفحص نحو 10% من الأصوات فقط، لكن من الأكيد أن هناك انقساماً ليس فقط في أوساط العامّة في إيران بل في أوساط النخبة الحاكمة. والانتخابات الرئاسيّة في إيران تعبير عن خلافات ليس على شرعيّة النظام بل على وجهة النظام الاقتصاديّة والسياسيّة. فمير حسين موسوي مثّل نمطاً أكثر اشتراكيّة في الاقتصاد منذ الثمانينيات، فيما مثّل أحمدي نجاد نمطاً محافظاً أو يمينيّاً في الاقتصاد (وقد فاخر بالخصخصة أثناء المناظرات الانتخابيّة). الانتخابات المحليّة عام 2007 عبّرت عن امتعاض شعبي من سياسات الرئيس الإيراني. ولكن في المقابل، القول بتعميمات عن حتميّة التزوير في كل مكان لا تزال تحتاج إلى إثباتات. فالقول بعدم إمكان إحراز أحمدي نجاد نجاحاً في مناطق آذريّة لأن موسوي من أصل آذري يحتاج إلى دليل إضافي، لأن أحمدي نجاد زاد من شعبيّته عند الآذريّين عبر برامج تربويّة جامعيّة أعطتهم مزيداً من الحقوق. والقول بفصل طبقي أو مناطقي بين المرشّحيْن يحتاج لإثبات هو الآخر، مع أن الخبير الإيراني، حميد دباشي، ينفي الأمر من أساسه. الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (أرشيف ــ أ ف ب)والتصويت في طهران كان متقارباً بفارق يقلّ عن خمسة في المئة من الأصوات، مما يعني أن هناك سمات مناطقيّة أو شبه طبقيّة في الاقتراع.
ثالثاً، تمرّ الثورة الإيرانيّة في أزمة اختبار الشرعيّة، وليس من المؤكّد أنها ستجتازها بنجاح. نظريّة ولاية الفقيه لم تكن يوماً محلّ إجماع فقهي عند أئمّة الشيعة، مما دفع الخميني إلى وضع عدد من آيات الله الذين يفوقونه مرتبة في الإقامة الجبريّة. ونظريّة ولاية الفقيه المطلقة ملتبسة على أكثر من صعيد، وخاصة أنها تفترض تواصلاً مع الإمام... الغائب. أما قول حسن نصر الله إن ولاية الفقيه هي جزء من العقيدة الدينيّة فهذا صحيح في ما يعني حزب الله فقط، لا في ما يعني الشيعة عامةً، مما يعني أنها جزء من أيديولوجيا الحزب، وهذا حقّه. وتتناقض النظريّة في قبولها بتعيين الفقيه (الخميني لنفسه، وخامنئي من جانب الخميني) مع التراث الشيعي في صعود الفقيه ــــ المرجع عفويّاً وديموقراطياً في وسط العامّة من دون تعيين أو تأثير من الدولة أو حتى من المؤسّسات الدينيّة. وكم حاول صدّام وكم حاول الاحتلال الأميركي أن يؤثّر على صعود الفقيه لكن حسّ العامة كان منيعاً في هذا الشأن. وصعود خامنئي إلى مركز المُرشد الأعلى لم يتماشَ مع الاختيار الشعبي العفوي للمرجعيّة. والنقاش الطويل بين المدرسة الأصوليّة والمدرسة الإخباريّة في القرن الثامن عشر في إيران والذي أدّى إلى انتصار الأصوليّة (والكلمة هنا هي بغير معناها المتدوال عن الأصوليّة كترجمة لمصطلح سُكّ في بداية القرن العشرين للإشارة إلى فرقة بروتستانتيّة أميركيّة) أنتج تنوّعاً في اختيار المجتهدين الشيعة.
رابعاً، إن حسم الصراع بين الفريقيْن المُتنازعيْن في إيران لن يكون على قضايا تهمنا نحن العرب، بل على قضايا محض إيرانيّة. والتخفيف التحليلي من تأثير النزعة القوميّة الإيرانيّة يتجاهل تاريخاً طويلاً في تلك البلاد. وموقع أحمدي نجاد سيزداد ضعفاً، وقد يؤدّي إلى نسق إسلامي لشعار ستالين عن «الاشتراكيّة في بلد واحد». وهذا التقوقع سيزداد حدّة إذا انهارت أسعار النفط مرّة أخرى. والشعب الإيراني ــــ مثله مثل شعب لبنان غير العظيم في الانتخابات الأخيرة ــــ يتأثّر بالتهديد والوعيد والحصار والتوبيخ من الخارج، وخاصة أن الغرب يتعامل مع الانتخابات في الدول النامية كفرصة للتأثير.
خامساً، وقع النظام الإيراني في الورطة نفسها التي وقع فيها النظام الشيوعي السوفياتي في عهد غورباتشوف. النظام الإيراني ليس ديموقراطياً ولكنه ليس منغلقاً إلى درجة الأنظمة التسلّطيّة العربيّة التي لا تسمح باختيار القادة بصورة جديّة وإن مقيّدة. النظام الإيراني نظام تسلّطي ديني، لكنه يسمح بدرجة من الاختيار المُقيّد لبعض المناصب، بما فيها منصب الرئاسة. غير أن التناقض يقع بين تقييد الاختيار ونزوع الناس نحو المزيد من حريّة الاختيار. أي أن قدرة النظام، أي نظام، على كسب شرعيّة انتخابيّة تتناقص مع ازدياد التوقع الشعبي لحريّات اختياريّة أكبر. لا يستطيع النظام التمتّع بشرعيّة، وإن محدودة، من العمليّة الانتخابيّة، إذا لم يطوِّر هذا النظام حريّات التعبير والاختيار الشعبيِّيْن، وخصوصاً أن عائدات النفط لم تسمح بكسب شرعيّة اقتصاديّة أو نفعيّة ــــ تكسّبيّة على طريقة أنظمة الخليج.
سادساً، لا شك بأن هناك عاملاً شخصيّاً في الصراع بين أحمدي نجاد وموسوي، وبين الأخير والمُرشد الأعلى. فموسوي وخامنئي تنازعا في الثمانينيات عهد الخميني، وكان الأخير كثيراً ما يناصر الموسوي في النزاع. لهذا، فإن محاولة الإعلام الغربي الليبرالي تصوير موسوي مناضلاً ديموقراطياً (أو تصوير رمز الفساد، رفسنجاني، إصلاحياً) تجافي تاريخ الرجل وحاضره. وشعاراته الانتخابيّة كانت تشدِّد على ضرورة العودة إلى تعاليم الخميني نفسه، كما أنه اختار شعار «الله أكبر» عنواناً لاحتجاجاتِه ووعد بأن معارضته تهدف إلى إعلاء شأن الإسلام في العالم. كما أن تاريخ موسوي لا ينبئ بالديموقراطيّة أو الليبراليّة على الإطلاق، إذ إن عهده شهد عمليّة تطهير فظيعة في الجامعات على أسس دينيّة وسياسيّة (وساهم فيها المفكر الإيراني الفوكوي حديثاً، عبد الكريم سروش). طبعاً، تدين عمليّة الانفتاح النسبي في إيران لا إلى موسوي ولا إلى أحمدي نجاد بل إلى الشعب الإيراني الذي يعطي شعوب الجوار دروساً في الشجاعة والديناميكيّة والزخم السياسي. وقد تكون الأزمة الحالية عمليّة تسديد حساب من المرشد الأعلى ضد موسوي لما حصل بينهما قبل عقديْن من الزمن. ولا يمكن التشديد على عنصر الصراع الطبقي (عبر القول إن مصالح الفقراء تتمثّل بأحمدي نجاد)، إذ إن الأخير بطل التخصيص الاقتصادي بينما تنزع سياسات موسوي الاقتصاديّة نحو نمط أقل رأسماليّة.
سابعاً، لعبت المناظرات السياسيّة الحرّة دوراً كبيراً في تحديد المسار السياسي الإيراني. المشهد لا يمكن أن يمرّ على شاشات الدول العربيّة الخاضعة لرقابة مزدوجة: من الحكومات ومن عربسات ونايلسات، حتى لا نعدّ الحظر الغربي على ما يضرّ بمصلحة إسرائيل. وتعامل أحمدي نجاد بخفّة وثقة زائدة بالنفس مع الخصوم أثناء الحملة الانتخابيّة: قبل بعدد من المناظرات التي سمحت لخصمه اللّدود بنقد ليس فقط سياساته الاقتصاديّة بل أيضاً مصداقيّته. اتهمه مير حسين موسوي بالكذب من دون أن يستعمل الكلمة. بدا أحمدي نجاد في المناظرة الأخيرة مشدوهاً بقدرة خصمه على تناوله بتلك الجرأة والفعاليّة. وقد تكون الثقة بالنفس دفعت النظام إلى طبخ نتائج الانتخابات وإعلان نتائجها قبل أن يكتمل العدّ.
ثامناً، لا يستطيع النظام أن يعزو بسهولة ما يجري داخل إيران إلى مؤامرة خارجيّة. طبعاً، من حق الشعب الإيراني الذي عانى عبر تاريخه مؤامرات خارجيّة متشعّبة أن يحذر من نوايا الخارج ومؤامراته. ولا شك بأن إسرائيل وأعوانها من العرب والغرب تعمل على إثارة القلاقل في إيران منذ أعوام عدّة. وكتاب «كل رجال الشاه» الذي اعتمد على وثائق نُشرت من محفوظات الحكومة الأميركيّة، يصف بدقّة كيف دبّرت الاستخبارات الأميركيّة الانقلاب على مصدّق وكيف رتّبت التظاهرات وكيف عزّزت الفوضى ورسمت ملامح تحرّك أرادته أن يبدو عفويّاً. يستطيع كاتب على موقع «المنار» الإلكتروني أن يرى في ما جرى في إيران مؤامرة خارجيّة خبيثة فقط، ويستطيع المرشد الأعلى أن يصبّ جام غضبه على بريطانيا (وهي تستحق التنديد لتاريخها وحاضرها الاستعماري الذي لم تنكفئ عنه رغم غياب الشمس والقمر عنها)، لكن الواقع أن أسباب أحداث إيران هي داخليّة أساساً وحتى لو تعرّضت للاستغلال من الخارج، حكوماتٍ ووسائل إعلام وأمماً متحدة (والأخيرة جهاز في يد الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة، وخصوصاً في عهدة الأمين العام الحالي، وله من سحر الشخصيّة ما لنجيب ميقاتي). والتعامل مع أحداث إيران على أنها من صنع الخارج سيزيد بسرعة من شيخوخة الثورة، لأن الثورة تموت عندما تفقد الرؤية وعندما تقلّد النظام البائد (الشاه رأى في ما حصل له مؤامرة ما بعدها مؤامرة، مع أن نظامه الظالم تمتّع بتأييد غربي وإسرائيلي وخليجي منقطع النظير). إن القول بعدم وجود مؤامرة خارجيّة ضد النظام في إيران هو بمثل جهل القول بأن لا أسباب داخليّة للأزمة في إيران.
تاسعاً، لا يجوز التعميم على الحركة الشعبيّة في إيران: فهي تراوح بين من يريد العودة إلى «نقاء» الثورة وبين من يريد أن يربط إيران بالغرب وبين فرق من اليسار ومن الليبراليّة ومن الأصوليّة والنفعيّة الخ. هناك من يختبئ وراء الشعارات لغايات خبيثة أو لغايات نبيلة أو لغايات مبهمة.
الثورات تشيخ وتذبل وتتعرّض للسقوط. المسألة مسألة وقت فقط. والثورات تليها ثورات مضادة، والإرث الثوري إما يدفع نحو بريق ثوري في أنظمة حكم متوالية كما حصل في فرنسا، أو يؤدّي إلى جمود دستوري كما حصل في أميركا، أو إلى طلاق مع الثورة كما حصل في روسيا. الثورة الصينيّة لم تحزم أمرها بعد: تطلّق الماضي في خطوة وتحتفظ به في خطوة أخرى، مع أن المسار يبدو شبيهاً بالمسار الروسي، مع قرار بالحفاظ على سيطرة الحزب (مقابل سيطرة الاحتكارات الماليّة المتحالفة مع بوتين في روسيا). هناك معالم واضحة للشيخوخة في الثورة الإيرانيّة: التفكّك أو الانقسام حتى لا نقول الخلاف التام في أوساط طبقة الملالي واضح للعيان: لم يتقدّم واحد من آيات الله العظمى التسعة عشر في إيران بدعم فوري وعلني للانتخابات المشكوك بصحّتها.
لكن الحكومات العربيّة تراوح بين التهليل العلني والقلق الباطني. إعلام آل سعود (وخصوصاً في محطة صهر الملك فهد «العربيّة» وفي جريدة الأمير سلمان «الشرق الأوسط») يهلّل ويتصرّف كأنه أم العروس. إعلام الدولة التي لا تسمح حتى بالانتخابات الشكليّة الفارغة على طريقة مصر والأردن وسوريا، يطالب بانتخابات حرّة ونزيهة في إيران. ينعدم حسّ المفارقة عند آل سعود. لكن لا يمكن إلا أن تُصاب الأنظمة العربيّة بالقلق والهلع في السرّ من المشاهد الإيرانيّة. يخشى هؤلاء من امتداد ديناميكيّة الشارع إلى عواصمهم التي تعاني ظلماً وتسلّطاً يفوقان ما يعانيه الإيرانيّون والإيرانيّات. وحمّى التظاهرات الشعبيّة يمكن أن تصيب شعوب المنطقة كلّها: وهي تخيف الأنظمة أكثر من حمّى الخنازير. وحكامنا يفضّلون أن يصابوا بحمّى الخنازير ألف مرّة على أن تصاب شعوبهم بحمّى الثورات مرّة واحدة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
وروبرت فيسك انتقل إلى إيران. لا ندري لماذا لا يزال البعض في العالم العربي يعوّل على فسك في تقاريره: فمنذ اغتيال الحريري تحوّل الرجل إلى جهاز دعاية لآل الحريري ولجنبلاط، لا يختلف في توجهاته عن أصوات نشرة قريطم. والرجل قضى سنوات في الشرق الأوسط من دون أن يتعلّم لغاته أو يحتكّ بغير النخبة: يستعين بمترجمين ومُساعدين وسائقه «عبد» في لبنان. يهلّل فيسك لثورات يعطف عليها حتى لو لم تستحق لقب «الثورة». وهو خلافاً لرصانة مراسلي «الإيكونومست»، مثلاً، يستعين بالشائعات والخبريّات إذا توافقت مع أهوائه. لكن فيسك حزم أمره: فرفيق الحريري الذي عرض عليه نقله بطائرته الخاصة بعد تعرّضه لاعتداء في باكستان قبل سنوات يستحقّ الوفاء.
إن تحليل الوضع الإيراني المُلتهب يتطلّب بعض التمعّن في نظريّات الثورة: كيف تحدث الثورات ولماذا، ومتى تستنفد الثورة أغراضَها؟ ومتى يكتشف الناس زيف شعارات الثورة ومتى يهجر المثقفون الثورة (الثورة الصينيّة عزلت هذا العامل عبر استباقِه في «الثورة الثقافيّة»)؟ الثورة الإيرانيّة كانت واحدة من ثورات قليلة في العالم النامي (كوبا، المكسيك، الصين، ونيكاراغوا)، وخصوصاً في العالم العربي (وهي لفحت بـ«ريحـ»ها عدداً كبيراً من المثقفين العرب). يمكن الحديث عن ثورات مناهضة للاستعمار أو عن ثورات فاشلة أو مضادة، لكن في العالم العربي عَوّضَ الاستسهال اللفظي لكلمة ثورة (وهي محبّة، كما أخبرنا ميشال عفلق في مؤلفه الوحيد، مع أن المواطن يجهد لتلمّس المحبّة في الأنظمة البعثيّة التي رعاها «الأستاذ») عن الثورة الحقيقيّة، وربما عن قصد لحماية الأنظمة من الثورات. ما معنى الثورة في العالم العربي عندما تصبح الهمروجة الطائفيّة في لبنان «ثورة الأرز»؟ يحاول جون فوران في كتابه عن «تنظير الثورات»، وهو لم يترجم إلى العربيّة، أن ينسّق أصناف الثورات في العالم ويصل إلى خلاصة لا مناص منها: صعوبة الثورات في العالم النامي، وهو يعزو ذلك إلى عوامل مختلفة بما فيها التبعيّة التنمويّة والتدخّل الخارجي وتشتّت المعارضة. والثورات تؤرّخ لمرحلة جديدة، أو لفصل قاطع مع النظام البائد، كما حلّل «كرين برنتون» في كتابه المرجعي عن «تشريح الثورات»، مع أنه ركّز على ثورات أربع لا غير: الأميركيّة والبريطانيّة والفرنسيّة والروسيّة. المفكرّ الفرنسي ألكسي دو توكفيل لا يأخذ بنظريّة القطع الفاصل: لقد رأى في الثورة الفرنسيّة إكمالاً لتراث ملكي في تفعيل مركزيّة الدولة في عمادها. لكن الثورة الإيرانيّة حظيت باهتمام بالغ ليس فقط لتأثيرها الهائل على السياسة الدوليّة بل لندرة الثورة «الإسلاميّة»، مما يفسّر الإفراط في التحليل الثقافي ــــ الديني للثورة على حساب الأسباب السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. هناك من السمات ما تشاطر به الثورة الإسلاميّة ثورات عالميّة أخرى وهناك ما تختصّ به هي. ولعلّ سماتها الثوريّة الخاصة هي التي أوقعتها في المأزق.
الثورة الإيرانيّة وعدت بقطع فاصل مع ماض لم تقطع معه بالكامل. لعلّ الأزمة العميقة التي يعانيها النظام في إيران اليوم تنبع من مشاهد قمع التظاهرات السلميّة: ذكّرت بالتظاهرات ضد الشاه التي تراكمت لتحيله عاجزاً أمام تنامي الحركة الشعبيّة. والمعضلة التي تواجه النظام تكمن في حاجته للدفاع عن بقائه: كلما لجأ إلى القوة لفرض نفسه، تناقصت شرعيّته الثوريّة وأضعفت قدرته التاريخيّة على الاستمرار في الحكم. طبعاً، يستطيع النظام أن يفرض نفسه بالقوّة المفرطة وسفك الدماء المتزايد، لكنه يعجز عندها في الاعتماد على غير القوّة للبقاء: أي أنه يفقد السلطة الحقيقيّة كلّما استعان بالعنف، كما نظّرت حنة أرندت من قبل. لهذا، فإن النظام أصيب بالارتباك. لم يعتد معارضة شعبيّة بهذا الحجم. واتهام الغرب بالتدخّل ــــ والغرب يتدخّل في كل شؤون العالم الثالث، وحتى في تأليف اللوائح في المتن ــــ لا يفي بالغرض. النظام لا يستطيع أن يخفي حقيقة المعارضة وحقيقة تناقص الشرعيّة الثوريّة. فالثورة دخلت في مرحلة ترهّل وتكلّس نابعة من شعارات الثورة نفسها.
أولاً، لم تنجح شعارات الثورة في السياسة الخارجيّة في إعطاء المواطن أملاً أو سبباً بتأييدها في الأعوام الأخيرة. والذين يصدّقون مزاعم النظام عن عمق فكرة التضامن الإسلامي في إيران هم في سذاجة (أو غباء) من صدّق مزاعم الأنظمة الشيوعيّة عن عمق فكرة التضامن الأممي في دول أوروبا الشرقيّة. ما إن سقطت تلك الأنظمة حتى زالت تلك الأفكار، والشعب الروسي اليوم لا علاقة له البتة في أكثره بنضال شعوب العالم الثالث. ويخطئ من يظن أن صعود الجمهوريّة الإسلاميّة قضى على فكرة القوميّة الإيرانيّة: المؤرّخ ريشتارد كوتام درس التاريخ الإيراني من زاوية تاريخ الفكرة القوميّة الإيرانيّة، مثل الذين درسوا الاتحاد السوفياتي من منظار التاريخ الروسي (لا الشيوعي). القوميّة الإيرانيّة تزاوجت مع الهويّة الإسلاميّة للثورة، لكن العزلة التي عانتها إيران، بالإضافة إلى العقوبات المتزايدة (التي أثرت على مبيعات ملك الفستق الإيراني، هاشمي رفسنجاني، رمز الفساد في الثورة، وهو أغنى إيراني على الإطلاق، كما أنه كان بطل فضيحة إيران ــــ كونترا التي شهدت غزلاً إسرائيليّاً إيرانيّاً) التي تزامنت مع هبوط حاد في أسعار النفط. لا يمكن الركون إلى نظريّات تعمد إلى ترويج شعبيّة الدور الإيراني في دعم حركات المقاومة (أو دعم حركات المقاومة الإسلاميّة فقط لأن إيران لم تدعم حركات مقاومة يساريّة مثلاً). قد يكون المشروع النووي الإيراني (كمثيله في الهند وباكستان) فوق الصراعات الإيديولوجيّة، لأنه عنوان للفخر القومي الإيراني مع أنه يحمي النظام الحالي، لكن ثمنه السياسي والاقتصادي فاق توقّعات النظام ومؤيّديه.
المرشّح الخاسر مير حسين موسوي (أرشيف ــ رويترز)ثانياً، يمكن الخوض في تفاصيل عمليّة الانتخاب وتحليل سمات الاقتراع في مختلف المناطق، مع أن النظام اعترف بعدد من ملايين الأصوات الفائضة بناءً على تفحص نحو 10% من الأصوات فقط، لكن من الأكيد أن هناك انقساماً ليس فقط في أوساط العامّة في إيران بل في أوساط النخبة الحاكمة. والانتخابات الرئاسيّة في إيران تعبير عن خلافات ليس على شرعيّة النظام بل على وجهة النظام الاقتصاديّة والسياسيّة. فمير حسين موسوي مثّل نمطاً أكثر اشتراكيّة في الاقتصاد منذ الثمانينيات، فيما مثّل أحمدي نجاد نمطاً محافظاً أو يمينيّاً في الاقتصاد (وقد فاخر بالخصخصة أثناء المناظرات الانتخابيّة). الانتخابات المحليّة عام 2007 عبّرت عن امتعاض شعبي من سياسات الرئيس الإيراني. ولكن في المقابل، القول بتعميمات عن حتميّة التزوير في كل مكان لا تزال تحتاج إلى إثباتات. فالقول بعدم إمكان إحراز أحمدي نجاد نجاحاً في مناطق آذريّة لأن موسوي من أصل آذري يحتاج إلى دليل إضافي، لأن أحمدي نجاد زاد من شعبيّته عند الآذريّين عبر برامج تربويّة جامعيّة أعطتهم مزيداً من الحقوق. والقول بفصل طبقي أو مناطقي بين المرشّحيْن يحتاج لإثبات هو الآخر، مع أن الخبير الإيراني، حميد دباشي، ينفي الأمر من أساسه. الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (أرشيف ــ أ ف ب)والتصويت في طهران كان متقارباً بفارق يقلّ عن خمسة في المئة من الأصوات، مما يعني أن هناك سمات مناطقيّة أو شبه طبقيّة في الاقتراع.
ثالثاً، تمرّ الثورة الإيرانيّة في أزمة اختبار الشرعيّة، وليس من المؤكّد أنها ستجتازها بنجاح. نظريّة ولاية الفقيه لم تكن يوماً محلّ إجماع فقهي عند أئمّة الشيعة، مما دفع الخميني إلى وضع عدد من آيات الله الذين يفوقونه مرتبة في الإقامة الجبريّة. ونظريّة ولاية الفقيه المطلقة ملتبسة على أكثر من صعيد، وخاصة أنها تفترض تواصلاً مع الإمام... الغائب. أما قول حسن نصر الله إن ولاية الفقيه هي جزء من العقيدة الدينيّة فهذا صحيح في ما يعني حزب الله فقط، لا في ما يعني الشيعة عامةً، مما يعني أنها جزء من أيديولوجيا الحزب، وهذا حقّه. وتتناقض النظريّة في قبولها بتعيين الفقيه (الخميني لنفسه، وخامنئي من جانب الخميني) مع التراث الشيعي في صعود الفقيه ــــ المرجع عفويّاً وديموقراطياً في وسط العامّة من دون تعيين أو تأثير من الدولة أو حتى من المؤسّسات الدينيّة. وكم حاول صدّام وكم حاول الاحتلال الأميركي أن يؤثّر على صعود الفقيه لكن حسّ العامة كان منيعاً في هذا الشأن. وصعود خامنئي إلى مركز المُرشد الأعلى لم يتماشَ مع الاختيار الشعبي العفوي للمرجعيّة. والنقاش الطويل بين المدرسة الأصوليّة والمدرسة الإخباريّة في القرن الثامن عشر في إيران والذي أدّى إلى انتصار الأصوليّة (والكلمة هنا هي بغير معناها المتدوال عن الأصوليّة كترجمة لمصطلح سُكّ في بداية القرن العشرين للإشارة إلى فرقة بروتستانتيّة أميركيّة) أنتج تنوّعاً في اختيار المجتهدين الشيعة.
رابعاً، إن حسم الصراع بين الفريقيْن المُتنازعيْن في إيران لن يكون على قضايا تهمنا نحن العرب، بل على قضايا محض إيرانيّة. والتخفيف التحليلي من تأثير النزعة القوميّة الإيرانيّة يتجاهل تاريخاً طويلاً في تلك البلاد. وموقع أحمدي نجاد سيزداد ضعفاً، وقد يؤدّي إلى نسق إسلامي لشعار ستالين عن «الاشتراكيّة في بلد واحد». وهذا التقوقع سيزداد حدّة إذا انهارت أسعار النفط مرّة أخرى. والشعب الإيراني ــــ مثله مثل شعب لبنان غير العظيم في الانتخابات الأخيرة ــــ يتأثّر بالتهديد والوعيد والحصار والتوبيخ من الخارج، وخاصة أن الغرب يتعامل مع الانتخابات في الدول النامية كفرصة للتأثير.
خامساً، وقع النظام الإيراني في الورطة نفسها التي وقع فيها النظام الشيوعي السوفياتي في عهد غورباتشوف. النظام الإيراني ليس ديموقراطياً ولكنه ليس منغلقاً إلى درجة الأنظمة التسلّطيّة العربيّة التي لا تسمح باختيار القادة بصورة جديّة وإن مقيّدة. النظام الإيراني نظام تسلّطي ديني، لكنه يسمح بدرجة من الاختيار المُقيّد لبعض المناصب، بما فيها منصب الرئاسة. غير أن التناقض يقع بين تقييد الاختيار ونزوع الناس نحو المزيد من حريّة الاختيار. أي أن قدرة النظام، أي نظام، على كسب شرعيّة انتخابيّة تتناقص مع ازدياد التوقع الشعبي لحريّات اختياريّة أكبر. لا يستطيع النظام التمتّع بشرعيّة، وإن محدودة، من العمليّة الانتخابيّة، إذا لم يطوِّر هذا النظام حريّات التعبير والاختيار الشعبيِّيْن، وخصوصاً أن عائدات النفط لم تسمح بكسب شرعيّة اقتصاديّة أو نفعيّة ــــ تكسّبيّة على طريقة أنظمة الخليج.
سادساً، لا شك بأن هناك عاملاً شخصيّاً في الصراع بين أحمدي نجاد وموسوي، وبين الأخير والمُرشد الأعلى. فموسوي وخامنئي تنازعا في الثمانينيات عهد الخميني، وكان الأخير كثيراً ما يناصر الموسوي في النزاع. لهذا، فإن محاولة الإعلام الغربي الليبرالي تصوير موسوي مناضلاً ديموقراطياً (أو تصوير رمز الفساد، رفسنجاني، إصلاحياً) تجافي تاريخ الرجل وحاضره. وشعاراته الانتخابيّة كانت تشدِّد على ضرورة العودة إلى تعاليم الخميني نفسه، كما أنه اختار شعار «الله أكبر» عنواناً لاحتجاجاتِه ووعد بأن معارضته تهدف إلى إعلاء شأن الإسلام في العالم. كما أن تاريخ موسوي لا ينبئ بالديموقراطيّة أو الليبراليّة على الإطلاق، إذ إن عهده شهد عمليّة تطهير فظيعة في الجامعات على أسس دينيّة وسياسيّة (وساهم فيها المفكر الإيراني الفوكوي حديثاً، عبد الكريم سروش). طبعاً، تدين عمليّة الانفتاح النسبي في إيران لا إلى موسوي ولا إلى أحمدي نجاد بل إلى الشعب الإيراني الذي يعطي شعوب الجوار دروساً في الشجاعة والديناميكيّة والزخم السياسي. وقد تكون الأزمة الحالية عمليّة تسديد حساب من المرشد الأعلى ضد موسوي لما حصل بينهما قبل عقديْن من الزمن. ولا يمكن التشديد على عنصر الصراع الطبقي (عبر القول إن مصالح الفقراء تتمثّل بأحمدي نجاد)، إذ إن الأخير بطل التخصيص الاقتصادي بينما تنزع سياسات موسوي الاقتصاديّة نحو نمط أقل رأسماليّة.
سابعاً، لعبت المناظرات السياسيّة الحرّة دوراً كبيراً في تحديد المسار السياسي الإيراني. المشهد لا يمكن أن يمرّ على شاشات الدول العربيّة الخاضعة لرقابة مزدوجة: من الحكومات ومن عربسات ونايلسات، حتى لا نعدّ الحظر الغربي على ما يضرّ بمصلحة إسرائيل. وتعامل أحمدي نجاد بخفّة وثقة زائدة بالنفس مع الخصوم أثناء الحملة الانتخابيّة: قبل بعدد من المناظرات التي سمحت لخصمه اللّدود بنقد ليس فقط سياساته الاقتصاديّة بل أيضاً مصداقيّته. اتهمه مير حسين موسوي بالكذب من دون أن يستعمل الكلمة. بدا أحمدي نجاد في المناظرة الأخيرة مشدوهاً بقدرة خصمه على تناوله بتلك الجرأة والفعاليّة. وقد تكون الثقة بالنفس دفعت النظام إلى طبخ نتائج الانتخابات وإعلان نتائجها قبل أن يكتمل العدّ.
ثامناً، لا يستطيع النظام أن يعزو بسهولة ما يجري داخل إيران إلى مؤامرة خارجيّة. طبعاً، من حق الشعب الإيراني الذي عانى عبر تاريخه مؤامرات خارجيّة متشعّبة أن يحذر من نوايا الخارج ومؤامراته. ولا شك بأن إسرائيل وأعوانها من العرب والغرب تعمل على إثارة القلاقل في إيران منذ أعوام عدّة. وكتاب «كل رجال الشاه» الذي اعتمد على وثائق نُشرت من محفوظات الحكومة الأميركيّة، يصف بدقّة كيف دبّرت الاستخبارات الأميركيّة الانقلاب على مصدّق وكيف رتّبت التظاهرات وكيف عزّزت الفوضى ورسمت ملامح تحرّك أرادته أن يبدو عفويّاً. يستطيع كاتب على موقع «المنار» الإلكتروني أن يرى في ما جرى في إيران مؤامرة خارجيّة خبيثة فقط، ويستطيع المرشد الأعلى أن يصبّ جام غضبه على بريطانيا (وهي تستحق التنديد لتاريخها وحاضرها الاستعماري الذي لم تنكفئ عنه رغم غياب الشمس والقمر عنها)، لكن الواقع أن أسباب أحداث إيران هي داخليّة أساساً وحتى لو تعرّضت للاستغلال من الخارج، حكوماتٍ ووسائل إعلام وأمماً متحدة (والأخيرة جهاز في يد الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة، وخصوصاً في عهدة الأمين العام الحالي، وله من سحر الشخصيّة ما لنجيب ميقاتي). والتعامل مع أحداث إيران على أنها من صنع الخارج سيزيد بسرعة من شيخوخة الثورة، لأن الثورة تموت عندما تفقد الرؤية وعندما تقلّد النظام البائد (الشاه رأى في ما حصل له مؤامرة ما بعدها مؤامرة، مع أن نظامه الظالم تمتّع بتأييد غربي وإسرائيلي وخليجي منقطع النظير). إن القول بعدم وجود مؤامرة خارجيّة ضد النظام في إيران هو بمثل جهل القول بأن لا أسباب داخليّة للأزمة في إيران.
تاسعاً، لا يجوز التعميم على الحركة الشعبيّة في إيران: فهي تراوح بين من يريد العودة إلى «نقاء» الثورة وبين من يريد أن يربط إيران بالغرب وبين فرق من اليسار ومن الليبراليّة ومن الأصوليّة والنفعيّة الخ. هناك من يختبئ وراء الشعارات لغايات خبيثة أو لغايات نبيلة أو لغايات مبهمة.
الثورات تشيخ وتذبل وتتعرّض للسقوط. المسألة مسألة وقت فقط. والثورات تليها ثورات مضادة، والإرث الثوري إما يدفع نحو بريق ثوري في أنظمة حكم متوالية كما حصل في فرنسا، أو يؤدّي إلى جمود دستوري كما حصل في أميركا، أو إلى طلاق مع الثورة كما حصل في روسيا. الثورة الصينيّة لم تحزم أمرها بعد: تطلّق الماضي في خطوة وتحتفظ به في خطوة أخرى، مع أن المسار يبدو شبيهاً بالمسار الروسي، مع قرار بالحفاظ على سيطرة الحزب (مقابل سيطرة الاحتكارات الماليّة المتحالفة مع بوتين في روسيا). هناك معالم واضحة للشيخوخة في الثورة الإيرانيّة: التفكّك أو الانقسام حتى لا نقول الخلاف التام في أوساط طبقة الملالي واضح للعيان: لم يتقدّم واحد من آيات الله العظمى التسعة عشر في إيران بدعم فوري وعلني للانتخابات المشكوك بصحّتها.
لكن الحكومات العربيّة تراوح بين التهليل العلني والقلق الباطني. إعلام آل سعود (وخصوصاً في محطة صهر الملك فهد «العربيّة» وفي جريدة الأمير سلمان «الشرق الأوسط») يهلّل ويتصرّف كأنه أم العروس. إعلام الدولة التي لا تسمح حتى بالانتخابات الشكليّة الفارغة على طريقة مصر والأردن وسوريا، يطالب بانتخابات حرّة ونزيهة في إيران. ينعدم حسّ المفارقة عند آل سعود. لكن لا يمكن إلا أن تُصاب الأنظمة العربيّة بالقلق والهلع في السرّ من المشاهد الإيرانيّة. يخشى هؤلاء من امتداد ديناميكيّة الشارع إلى عواصمهم التي تعاني ظلماً وتسلّطاً يفوقان ما يعانيه الإيرانيّون والإيرانيّات. وحمّى التظاهرات الشعبيّة يمكن أن تصيب شعوب المنطقة كلّها: وهي تخيف الأنظمة أكثر من حمّى الخنازير. وحكامنا يفضّلون أن يصابوا بحمّى الخنازير ألف مرّة على أن تصاب شعوبهم بحمّى الثورات مرّة واحدة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا