ومعذرة لك على كتابة لا منهجية، وبها أتقصَّد إيذاء مسامع من أسميتهم ذات يوم: "جهابذة الحوار الأكاديمي"، فهم آباء المطبعين الحاليين، والآن مجلس أعيانهم. لقد قام هؤلاء بمهمتهم كلبراليين متغربنين، وصاروا قادة أكاديميا وأنجزة، واليوم يُشغِّلون من تحتهم اشلاء يسار يتفاخر بأن لغتنا نحن رافضي التطبيع خشبية. لو تسأل محمد كناعنة ماذا قال له قائد كبير في مؤتمر "توحيد اليسار"!
نعم، ليس للوعي المشتبك مكاناً إذ نسيته الحكاية الرسمية. أما الحكاية الشعبية فيخدرها الألم، لكنها لا تنسى، وبما هي ممتدة في فلسطين زماناً ومكاناً لا تموت. قد ترجم الحلاج، لكنها تتذكره. فالجمهور الهجري الذي رجم الحجاج هو الذي ولد الانتفاضة، وثورة جنوب اليمن المغتالة، وهو نفسه الذي أصر على ناصر البقاء رغم الهزيمة. أما الحكاية الرسمية، فهي أولا ليست رسمية، وإن كنت مثلك أخطىء حتى بتسميتها المجازية. فالدولة القطرية، وأصغر منها شأناً الحكم الذاتي ليس شيئاً رسمياً. المؤسسة الشعبية قومية أولاً وأخيراً، سيادية أولا واخيرا، منتمية اولأً وأخيراًً. نعم نحن نفتقر إلى المؤسسة الرسمية حتى بشكلها القمعي. حين تكون الدولة القطرية عدوة الأمة، فهي ليست رسمية، هي طارئة حتى لو امتد الزمان لأن المكان يبغضها. وهي تماماً كالمستوطنات في فلسطين، وجوه عاهرات معظم وزنهن مساحيقاً على جسد قديسة. يذكرني بباريس، أول مرةٍ دخلتها شعرت بعدائية المكان لا عبقريته، عام 1977، كنت مشاركاً في مؤتمر لقوى يسارية كانت أول من أطلق النار في ثورة الطلاب 1968، : كنا نسير في الساحة التي بها قوس النصر وهناك حتى الآن لوحات نحاسية عديدة باسماء فاتكي وضواري حروب ومذايح وًضعت تقديراً لهم على ما قتلوا، على خدمتهم لتاج فرنسا الذي هو باريس! قلت حينها: " تبدو هذه المدينة مثل عاهرة رغبة في العهر فقط قد تخلى عنها جمالها" لأنني رأيت فيها ماضٍ وحاضر استعماري ينزف منه الدم وتحتفي. كتبت ذلك حينها إلى روح ناظم حكمت وإلى تارنتابابو التي مضى بها زمن الهزيمة.
ولأن الخطة، والخطة مجموع شبكة من المؤامرات، مصممة ويعاد تصميمها وتجديدها، لمسح الوعي الشعبي، وتجريد الفقراء من ذاكرتهم، وحشوها بأوحال اللذة حتى البطنية قبل الجنسية، وبالسيارات الجديدة بدل صندل في اسفله (شسعه) بعض المسامير التي تنخز كعب ابناء المخيمات والقرى أمثالي، وحسابات بنكية هي ثمن أنهار من الدماء، وفجور جنس من خلف الأسرة، وجلسات تطبيع للجسد قبل الروح وقبل الذاكرة، لأن الخطة هكذا واوسع، لا بد من القتال بين الجميع، وربما مع الجميع، ولو وحيداً! وحتى لو تخلى عنك من تحب إما خوفاً، وإما جهلاً وإما لهول المذبحة وهو يعلم أنك هالك لا محالة. قد يدفعك هذا أن تبكي، لكنه لا يردعك.
في مسلسل حياتي الجميل اعتقلت عام 1965 مع أبطال العودة. بين اعتقال وآخر، قال لي إبراهيم (أبي): يا أخي إنت مالك ومال فلسطين، أي اللاجيين مش سائلين عنها؟". دار رأسي الشقي سريعاً لأجيب الرجل الذي كان أعلى من مترين، وكفه بمساحة نصف دونم. "لكن لنا ارض في الكُنيْسة" وهي أرض كان جدي قد اشتراها عام 1936 في ضواحي مدينة اللد. كان قد عاد من هندوراس للمرة الثانية آنذاك. طبعا هندوراس الآن تدخل المفرمة الأميريكية. كان والدي جزءاً من الحكاية الشعبية المطلوب شطبها. بعدها بأيام اعتقلت ثانية، ورحل وهو يبحث عني. هل تعرف ماذا قالت الذاكرة بل الحكاية الشعبية عني حينها: " قتل اباه"!
لم يسعفني الزمن، حتى الآن على الأقل، لأكتب في مشروع لا بد منه، وأتمنى لو يأخذه عني أحد هو: "دور القطرية العربية في بناء إسرائيل". يمر الزمان، ويصبح هذا العنوان هو الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والكاشف الحقيقي للدولة القطرية. هل تدرِ لماذا لا يموت، لأن الدولة القطرية تحمي هذا الكيان، وقريباً سترى في المذبحة المقبلة في غزة، أن هذه الدول القطرية ستمارس الذبح وتقدم القرابين لجميلة الموساد تسيفي ليفني!
هل اتفقت معي الآن لماذا يجب امتطاء مغامرة مواجهة المطبعين...؟
أنت متفق من اصلك، ولكنك تتالم وأحياناً نتألم تحت التعذيب، لكن ذلك ليس استنكاراً. وحيداً نعم. يكفيك فخراً أن ترى جيوشاً من الثرثارين يوصوصون مثل صغار الكتاكيت، ويلعنوا أمثالنا، وينصحون تلامذتهم بأن المغامرة ليست السبيل العقلي السليم، لا بد من "قيس قبل تغيص ووعى من الندم"، أو بعلم الإقتصاد السياسي البرجوازي، الذي تعلمته ولم أفهمه، يستخدمون: دراسات الجدوى الاقتصادية" كل شيىء تُدرس جدواه، كل شيء في النهاية مال، حتى في ازمة انفجار الفقاعة المالية، والعلاقة بالوطن مال، مقدار دخل، والعلاقة بمن يغتصبون الوطن، مال أيضاً، بل فلوساً كثيرات، ولذا لا بد من التطبيع! لأن التطبيع "أموال" وحينها، لا بد من اغتيال الوعي المشتبك، فهو شقي، فلماذا لا نقتله، نعم نقتله، لأننا نشفق عليه، فنريحه!
دعني أنتقل إلى مركز كل ما يحصل. لم يخالطني اي شك، أن الاحتلال والاستيطان في فلسطين ليس من أجل هيكل عظمي، ولا من أجل هذه الأمتار القليلة، أكثرها جبلي، وليس فيها سوى هواها. لكن الهوى يا رفيقي إكسير الحياة. ألم تقل ميسون الكلبية:
لبيت تخفق الأرياح فيه أحب إليَّ من قصر منيفِ
هذا المكان اختير لا للتوراة ولا لأية رواية لاتاريخية أخرى ولا لأية اسطورة أخرى. أختير هذا المكان لضرب مكان ومكانة أخريين.
اختبر لضرب المكان العربي. واختير لتقويض المكانة العربية، لإخراج العرب من التاريخ. هم يعرفون جيداً ما يريدون، ونحن نقتل منا من يعرف! ولأن الهدف هو راس الأمة العربية فإنني دوماً استصغر قصداً ولأهداف وطنية وقومية كل المؤسسات التي تتلطى بالفلسطنة! فمن المقاومة، أن تقل لمن يرى في نفسه أكبر منها: "مكانك تُحدمي أو تستريحي".
أرسل صديقنا مفيد قسوم أطروحته إلى مركز دراسات الوحدة العربية. والأطروحة تقوم على تحليل مادي اقتصادي قومي اشتراكي للصراع العربي الصهيوني. (طبعاً انت تعرف أن هناك اليوم من يقزِّم الصراع على أنه "فلسطيني/إسرائيلي"، وإذا عشنا، سنقرأ خطاباً بأنه بين مختار قريتنا والكيان الصهيوني). جاء رد المركز على لسان احد المقيِّمين أو المحكمين (طبعاً هذه الأكاديميا متحكِّمة) بأن الصراع ديني. ولأن عقلي لئيم اكتشفت المحكَّم من طريقة كتابته وعرفته وأرسلت لهم رسالة مطولة بأن المحكم قد تحكم فلم يقرأ الجانب النظري في الأطروحة وهو أكثر من نصفها، ولم يجيبوا. المهم أن المحكم، هذا السيد كان قطباً يسارياً، وما زال يزعم ذلك. وهو على حق، لأن اليسار لا يعني قط حالة فكرية عميقة ولا انتماء، هو قشرة الاشتراكية والشيوعية الحقيقية، ولكي لا استفزك وأنت لا شك جاهز، لا أقصد شيوعية من مات على فراش المرحلة الوثير، إميل حبيبي، إنهم يصلون اليوم في محرابه التطبيعي.
هذا الغرب الراسمالي مركوب بحقيقة لا بهاجس أن هذه الأمة هي خصمه. دع المتغربنين يقولون، أن هذه أحلام ومبالغات، فهم لا شك خُتم على قلوبهم، وعقولهم، وأجزاء أخرى. ولم يزرع هذه المستوطنة كي تبقى وحسب، بل كي تصبح هي المركز والوطن محيطها. والصورة اليوم منشورة على الفضائيات غارقة بالدم. لقد بدأوا يتسابقون إلى المجيىء العلني إليها، أما السري، فعلمه عند الموساد. قبل ايام جاء وفد بحريني إلى تل ابيب بحجة "إنقاذ – بل تشويه" بضعة رجال اعتقلتهم دولة الكيان، اي سيدة الدول القطرية العربية؟ أليس هذا المجيىء تحيُّناً للفرص كي يقدموا أختام الطاعة والركوع! لا بد أن أرغمك على الضحك حفاظاً على قلبك الجميل، وإن كان تطيُّرك من المرحلة يخفي ذلك. قبل بضعة سنين قال حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، أنصح الفلسطينيين أن لا يرتجوا من العرب شيئاً عليهم أن يتجهوا إلى أميركا. واليوم هو القاضي بين المقاومة وأمريكيي لبنان. وأمس كانت تسيفي ليفني وبيرس هناك.
هل توافقني الآن على مقارعة التطبيع وحيداً؟
وحين رفضت قبل ربما عامين الظهور على شاشة الجزيرة لامني من يبحثون عن ثغرة ليدخلوا مطهر التطبيع.
هل تعرف كم يركزون في الجامعات البريطانية على تفكيك القومية العربية؟ كم يدرسوا ويعيدوا دراسة ما يسمونه بالفسيفسائية المجتمعية وخاصة في المشرق العربي؟ في حين أن بريطانيا نفسها المسماة "بريطانيا العظمى" أو المملكة المتحدة بأن أكثرية سكانها ليسوا منها اصلا، متنوعين اكثر منا. أما الكيان فهو أمم متحدة بلا مواربة، كل شخص من أمة، وتعترف بهم الدولة القطرية كأمة وقومية، وتنكر القومية العربية!
وهذا ينقلني إلى مسألة هامة أخرى، هي الاقتصاد السياسي. دون هذا المبضع اللئيم، لا يمكننا فهم العالم لنخدم واقعنا. بريطانيا متماسكة وأميركا متماسكة، أو تحديداً تمسك الطبقات الحاكمة/المالكة فيهما وفي غيرهما بأعناق الأكثرية الشعبية عبر الاقتصاد. هذا ما قدمه الاستعمار لهذه الدول، وهذا سر الإصرار على احتلال الوطن العربي لتتواصل تغذية التماسك الداخلي، المحلي. باقتصاد ضعيف تتفكك الدول، دونما حاجة إلى "تفكيكية" جاك ديريدا الذي ثار على اللغة والأدب والسياسة، وفي النهاية دعى للتصالح والتسامح وفي خلفية رأسه - دون أن يكتب ذلك بالنص - أن يقنعنا بالاعتراف بالكيان ونسيان حق العودة. وما أكثر مثقفينا الذين يقفزون لتجميع وترجمة حتى برازه. أليس هذا داعية تطبيع! ألم يتفكك الاتحاد السوفييتي بسبب الاقتصاد!
أعتقد أن التركيز على راس المال هو ما ينقص الكثير من كتاباتنا لنرى أن العامل المادي وراء هذا العراك المتواصل بيننا وبينهم، أي وراء حربهم المفتوحة علينا إلى أن نغلبهم. هذا مع أننا لا نشكل في الراهن خطراً عليهم، ولا ننافسهم، هم آتون إلينا ويحتلوننا. فهم اصحاب نظرية خير دفاع هو الهجوم. من هنا أرى التطبيع معهم، في كافة المستويات كالتطبيع مع الكيان وأخطر. في مشروعهم لتحطيم المشروع القومي العربي بدأو من مارتن لوثر، الذي قالوا لنا عنه مصلحاً دينياً، وهو إرهابي صهيوني بامتياز. هل تلاحظ كيف يعلموننا "غلط"! وكما ارى خطورة هذا المشروع، فإن تدمير تجربة محمد علي، وتجربة جمال عبد الناصر، وصدام حسين ليست سوى تفاصيل مقارنة مع ما هو آتٍ. هذه ايام إرهاصات المذبحة الكبرى، فلماذا لا تكون لنهضتنا إرهاصاتها؟
ارتكازاً على هذه الرؤية، وجدت أن السجال مع المطبعين ثقافياً هو نضال قومي لإنقاذ وتحريك ذاكرة الطبقات الشعبية كي تتصدى، والسجال مع راس المال الغربي ومع الكمبرادور القطري العربي هو نضال طبقي اشتراكي، والنضالان لا ينفصمان قط.
لا أُخفيك، ففي حياتي التي كلها، وهي حياة "بريَّةٍ" اكتشفت هذه الحقائق على جلدي، عبر الطريق الصعب، بل الصعب جداً. اكتشفت القومية العربية للطبقات الشعبية، واكتشفت أن قومية الكمبرادور والقطريات منافقة وخائنة حقاً، واكتشفت أنني اشتراكي أولا من أجل هذه الأمة، بل ان لا اشتراكية لا تبدأ بقومها. لقد اثار هذا عليَّ طفيليات تروتسكية عديدة في الكيان وفي اللحظات التي كنت أصل الخارج وخاصة فرنسا وبريطانيا وأميركا وكندا. ورغم سذاجتي القروية الشرقية، اكتشفت أن تحت نار الماركسية الحمراء لدى هؤلاء وغيرهم من الشيوعيين التحريفيين، هناك تحت هذه النار "طبخة" الدفاع عن الكيان الصهيوني. فلا أخطر على هؤلاء من مجرد ذكر الأمة العربية والقومية العربية. وكثيراً ما اثاروا ذلك الزعم الواهي بأن الاشتراكي لا يمكن أن يؤمن بالقومية، وكثيراً ما باعوا هذا الاستخفاف بالعقول لمثقفين وأكاديميين، وبقيت ايضاً وحدي، فالأممية لا تعني التخارج باي حال. لا أريد ان ابالغ بنفسي، ولكنني اكتشفت الأخطر، أن كل عربي مطلوب فتح راسه وإخراج الخلايا العربية منه، ومن ثم صهينته فكيف إذا كان فلسطينياً حيث فلسطين هي مسرح الموت والموتى.
لذا، فانحلال الوعي الوطني هنا الذي تحثت لي عنه، هو جزء صغير من تفكيك الوعي القومي العربي عامة. ولن يتوقفوا عن ذلك قط. وإلا فما معنى ذبح العراق بسكاكين الطائفية وبعقل صهيوني وبأيد أميركية، وما معنى ما يدور في السودان والصومال وضد لبنان؟ وما معنى هذا الخطر الوهابي المصنوع في لندن!
ولأن هذا الوعي مستهدف، اقول لك لا بد أن تبقى أجراس العودة تدق من أجل العودة إلى كنعان. ولا إخال هذا لا ينعش قلبك الموجوع كقلبي. ولا يخالطني اي شك أن هذا سيُجدي ويثمر وينجح. فالحب يا رفيقي لا يموت، يُقتل، لكنه لا يموت.
حتى اللحظة، نعم يخسر الوعي الواعي أمام الوعي المنسجم مع وعي المرحلة. ولكن الأيام دُول، والافتئات على التاريخ مؤقتاً، وإلا لكانت هذه الأرض تفرنجت منذ ألفية كاملة.
حين أكتب لشخص يعتبر التطبيع خرقاً للحصار الصهيوني على الأرض المحتلة 1967، ولولا وجوب الأدب البرجوازي الصغير الذي تعلمناه، لفعلت ما يفعل لينين في هذا الموقف وكتبت ما دار برأسي، حينها، أنا لا أكتب له. لذا، كان هو يصرخ ويتقلى، هو وغيره، والبعض ممن زعموا انهم اصدقائي، وحين يجد الجد، يصطفون هناك بعيداً. لكلٍ هواه! أنا اكتب بالضبط للجميع، إلا هو! فمن ارتكب معصية التطبيع، لن يكون جندياً مقاتلاً، هكذا يقول العساكر، بأن الجندي الأسير لا يُعاد الى الجيش، وحتى لو كان بطلاً عالمياً مثل جلعاد شاليط الذي يبكي عليه مطبعو فلسطين لأنه وقع بيد حماس!
اسمح لي أن اواصل لا منهجيتي. هل قال المطبعون كلمة عن مروة الشربيني؟ هل قالت كل أوروبا أم الديمقراطية والتسامح؟
مرة أخرى، لا أكتب للمطبعين بل أكتب عنهم، هم مطبعون حتى لو جاء الواحد كي يزور أمه. فهل ستة ملايين لاجىء بلا أمهات!
ما بك تثير لي ما يدفعني أن أكتب ليل نهار! يبدو أن خيالك الشعري لا يتوقف عن إثارتي، لذلك أوردت لي واقعة دعوة الشيوعيين الفلسطينيين إلى الوحدة بين العمال في الجانبين اليهودي والفلسطيني تحت مظلة الهستدروت؟ ربما كتبت لغيرك واقعة طريفة كهذه. حين عرضت أطروحتي للماجستير، على دار Zed Books في لندن لنشرها ـ وهي دار يسارية مشهورة أكثر من دار (عائلة أو حامولة) ابو كذا وكذا... الخ ـ وافقوا شريطة أن أغير الفصل الخامس الذي يتحدث عن إخضاع العمال الفلسطينيين للعمال اليهود، بحيث يصبح النص أن الطبقتين تعملان يدا بيد! سحبت الأطروحة وتأكدت ان الصهيونية تطاردنا اين كنا. فلا غرابة إذن أن يكون اليسار اليوم مجرد "لوحة إعلانات للتطبيع".
نعم جرت تصفية ناجي العلي، وهو كان علي يقين بذلك، قالها لي دوماً، ولكن هناك تصفيات تحمل الجوهر ولا تحمل الإسم. فقد جرت تصفية جورج حبش ايضاً، ولكن عبر فريق من الناس المطبعين الذين تخفيفاً عليهم أُسموا أصحاب "وجهة النظر"، وكانت النتيجة محاصرة الرجل وخطه إلى أن مات خنقاً. هل تعرف أن كثيرين من "الثوار" عولجوا مثلا في ألمانيا وبريطانيا من أمراض معيبة، أما جورج حبش فلم يلق علاجاً فرحل نظيفاً.
التطببيع أخبث من المرض الخبيث. لذا، لا بد للوعي الرافض أن يواجه الوعي القاتل. ليست هذه من جانبي بطولة ولا جرأة. ليست مغامرة كما يزعم وينعتني من خُلقوا خصياناً، بل هي موقف مع النفس، أن لا تكذب ما استطعت. أليست "الحياة وقفة عز" كما قالها الشهيد أنطون سعادة؟ من يتذكر الفئران التي قتلته سوى صانعي الأحذية.
كل ما أحاوله يا رفيقي هو تحريض الشرفاء المُوَقع بهم في دائرة التطبيع ومسح الذاكرة ليؤكدوا حقنا الكامل في فلسطين الكاملة، وحق الأمة العربية فيها، بل وعودتها إلى الوطن الأم. لذا، أحاول الكتابة لكل عربي بوسعه سماعي وسماعك وسماع امثالنا. لا بد من مطاردة التطبيع لنخرجه من الوعي، ولا تتم تصفية الوعي الدخيل بغير الوعي الأصيل، سيكون ذلك مكلفاً، لا بأس، فلا قيمة استعمالية لما لا شغل فيه، لا سيما الوطن، فهو لا يُباع ولا يوهب، وبالتأكيد يُدافع عنه.
نعم، ليس للوعي المشتبك مكاناً إذ نسيته الحكاية الرسمية. أما الحكاية الشعبية فيخدرها الألم، لكنها لا تنسى، وبما هي ممتدة في فلسطين زماناً ومكاناً لا تموت. قد ترجم الحلاج، لكنها تتذكره. فالجمهور الهجري الذي رجم الحجاج هو الذي ولد الانتفاضة، وثورة جنوب اليمن المغتالة، وهو نفسه الذي أصر على ناصر البقاء رغم الهزيمة. أما الحكاية الرسمية، فهي أولا ليست رسمية، وإن كنت مثلك أخطىء حتى بتسميتها المجازية. فالدولة القطرية، وأصغر منها شأناً الحكم الذاتي ليس شيئاً رسمياً. المؤسسة الشعبية قومية أولاً وأخيراً، سيادية أولا واخيرا، منتمية اولأً وأخيراًً. نعم نحن نفتقر إلى المؤسسة الرسمية حتى بشكلها القمعي. حين تكون الدولة القطرية عدوة الأمة، فهي ليست رسمية، هي طارئة حتى لو امتد الزمان لأن المكان يبغضها. وهي تماماً كالمستوطنات في فلسطين، وجوه عاهرات معظم وزنهن مساحيقاً على جسد قديسة. يذكرني بباريس، أول مرةٍ دخلتها شعرت بعدائية المكان لا عبقريته، عام 1977، كنت مشاركاً في مؤتمر لقوى يسارية كانت أول من أطلق النار في ثورة الطلاب 1968، : كنا نسير في الساحة التي بها قوس النصر وهناك حتى الآن لوحات نحاسية عديدة باسماء فاتكي وضواري حروب ومذايح وًضعت تقديراً لهم على ما قتلوا، على خدمتهم لتاج فرنسا الذي هو باريس! قلت حينها: " تبدو هذه المدينة مثل عاهرة رغبة في العهر فقط قد تخلى عنها جمالها" لأنني رأيت فيها ماضٍ وحاضر استعماري ينزف منه الدم وتحتفي. كتبت ذلك حينها إلى روح ناظم حكمت وإلى تارنتابابو التي مضى بها زمن الهزيمة.
ولأن الخطة، والخطة مجموع شبكة من المؤامرات، مصممة ويعاد تصميمها وتجديدها، لمسح الوعي الشعبي، وتجريد الفقراء من ذاكرتهم، وحشوها بأوحال اللذة حتى البطنية قبل الجنسية، وبالسيارات الجديدة بدل صندل في اسفله (شسعه) بعض المسامير التي تنخز كعب ابناء المخيمات والقرى أمثالي، وحسابات بنكية هي ثمن أنهار من الدماء، وفجور جنس من خلف الأسرة، وجلسات تطبيع للجسد قبل الروح وقبل الذاكرة، لأن الخطة هكذا واوسع، لا بد من القتال بين الجميع، وربما مع الجميع، ولو وحيداً! وحتى لو تخلى عنك من تحب إما خوفاً، وإما جهلاً وإما لهول المذبحة وهو يعلم أنك هالك لا محالة. قد يدفعك هذا أن تبكي، لكنه لا يردعك.
في مسلسل حياتي الجميل اعتقلت عام 1965 مع أبطال العودة. بين اعتقال وآخر، قال لي إبراهيم (أبي): يا أخي إنت مالك ومال فلسطين، أي اللاجيين مش سائلين عنها؟". دار رأسي الشقي سريعاً لأجيب الرجل الذي كان أعلى من مترين، وكفه بمساحة نصف دونم. "لكن لنا ارض في الكُنيْسة" وهي أرض كان جدي قد اشتراها عام 1936 في ضواحي مدينة اللد. كان قد عاد من هندوراس للمرة الثانية آنذاك. طبعا هندوراس الآن تدخل المفرمة الأميريكية. كان والدي جزءاً من الحكاية الشعبية المطلوب شطبها. بعدها بأيام اعتقلت ثانية، ورحل وهو يبحث عني. هل تعرف ماذا قالت الذاكرة بل الحكاية الشعبية عني حينها: " قتل اباه"!
لم يسعفني الزمن، حتى الآن على الأقل، لأكتب في مشروع لا بد منه، وأتمنى لو يأخذه عني أحد هو: "دور القطرية العربية في بناء إسرائيل". يمر الزمان، ويصبح هذا العنوان هو الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والكاشف الحقيقي للدولة القطرية. هل تدرِ لماذا لا يموت، لأن الدولة القطرية تحمي هذا الكيان، وقريباً سترى في المذبحة المقبلة في غزة، أن هذه الدول القطرية ستمارس الذبح وتقدم القرابين لجميلة الموساد تسيفي ليفني!
هل اتفقت معي الآن لماذا يجب امتطاء مغامرة مواجهة المطبعين...؟
أنت متفق من اصلك، ولكنك تتالم وأحياناً نتألم تحت التعذيب، لكن ذلك ليس استنكاراً. وحيداً نعم. يكفيك فخراً أن ترى جيوشاً من الثرثارين يوصوصون مثل صغار الكتاكيت، ويلعنوا أمثالنا، وينصحون تلامذتهم بأن المغامرة ليست السبيل العقلي السليم، لا بد من "قيس قبل تغيص ووعى من الندم"، أو بعلم الإقتصاد السياسي البرجوازي، الذي تعلمته ولم أفهمه، يستخدمون: دراسات الجدوى الاقتصادية" كل شيىء تُدرس جدواه، كل شيء في النهاية مال، حتى في ازمة انفجار الفقاعة المالية، والعلاقة بالوطن مال، مقدار دخل، والعلاقة بمن يغتصبون الوطن، مال أيضاً، بل فلوساً كثيرات، ولذا لا بد من التطبيع! لأن التطبيع "أموال" وحينها، لا بد من اغتيال الوعي المشتبك، فهو شقي، فلماذا لا نقتله، نعم نقتله، لأننا نشفق عليه، فنريحه!
دعني أنتقل إلى مركز كل ما يحصل. لم يخالطني اي شك، أن الاحتلال والاستيطان في فلسطين ليس من أجل هيكل عظمي، ولا من أجل هذه الأمتار القليلة، أكثرها جبلي، وليس فيها سوى هواها. لكن الهوى يا رفيقي إكسير الحياة. ألم تقل ميسون الكلبية:
لبيت تخفق الأرياح فيه أحب إليَّ من قصر منيفِ
هذا المكان اختير لا للتوراة ولا لأية رواية لاتاريخية أخرى ولا لأية اسطورة أخرى. أختير هذا المكان لضرب مكان ومكانة أخريين.
اختبر لضرب المكان العربي. واختير لتقويض المكانة العربية، لإخراج العرب من التاريخ. هم يعرفون جيداً ما يريدون، ونحن نقتل منا من يعرف! ولأن الهدف هو راس الأمة العربية فإنني دوماً استصغر قصداً ولأهداف وطنية وقومية كل المؤسسات التي تتلطى بالفلسطنة! فمن المقاومة، أن تقل لمن يرى في نفسه أكبر منها: "مكانك تُحدمي أو تستريحي".
أرسل صديقنا مفيد قسوم أطروحته إلى مركز دراسات الوحدة العربية. والأطروحة تقوم على تحليل مادي اقتصادي قومي اشتراكي للصراع العربي الصهيوني. (طبعاً انت تعرف أن هناك اليوم من يقزِّم الصراع على أنه "فلسطيني/إسرائيلي"، وإذا عشنا، سنقرأ خطاباً بأنه بين مختار قريتنا والكيان الصهيوني). جاء رد المركز على لسان احد المقيِّمين أو المحكمين (طبعاً هذه الأكاديميا متحكِّمة) بأن الصراع ديني. ولأن عقلي لئيم اكتشفت المحكَّم من طريقة كتابته وعرفته وأرسلت لهم رسالة مطولة بأن المحكم قد تحكم فلم يقرأ الجانب النظري في الأطروحة وهو أكثر من نصفها، ولم يجيبوا. المهم أن المحكم، هذا السيد كان قطباً يسارياً، وما زال يزعم ذلك. وهو على حق، لأن اليسار لا يعني قط حالة فكرية عميقة ولا انتماء، هو قشرة الاشتراكية والشيوعية الحقيقية، ولكي لا استفزك وأنت لا شك جاهز، لا أقصد شيوعية من مات على فراش المرحلة الوثير، إميل حبيبي، إنهم يصلون اليوم في محرابه التطبيعي.
هذا الغرب الراسمالي مركوب بحقيقة لا بهاجس أن هذه الأمة هي خصمه. دع المتغربنين يقولون، أن هذه أحلام ومبالغات، فهم لا شك خُتم على قلوبهم، وعقولهم، وأجزاء أخرى. ولم يزرع هذه المستوطنة كي تبقى وحسب، بل كي تصبح هي المركز والوطن محيطها. والصورة اليوم منشورة على الفضائيات غارقة بالدم. لقد بدأوا يتسابقون إلى المجيىء العلني إليها، أما السري، فعلمه عند الموساد. قبل ايام جاء وفد بحريني إلى تل ابيب بحجة "إنقاذ – بل تشويه" بضعة رجال اعتقلتهم دولة الكيان، اي سيدة الدول القطرية العربية؟ أليس هذا المجيىء تحيُّناً للفرص كي يقدموا أختام الطاعة والركوع! لا بد أن أرغمك على الضحك حفاظاً على قلبك الجميل، وإن كان تطيُّرك من المرحلة يخفي ذلك. قبل بضعة سنين قال حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، أنصح الفلسطينيين أن لا يرتجوا من العرب شيئاً عليهم أن يتجهوا إلى أميركا. واليوم هو القاضي بين المقاومة وأمريكيي لبنان. وأمس كانت تسيفي ليفني وبيرس هناك.
هل توافقني الآن على مقارعة التطبيع وحيداً؟
وحين رفضت قبل ربما عامين الظهور على شاشة الجزيرة لامني من يبحثون عن ثغرة ليدخلوا مطهر التطبيع.
هل تعرف كم يركزون في الجامعات البريطانية على تفكيك القومية العربية؟ كم يدرسوا ويعيدوا دراسة ما يسمونه بالفسيفسائية المجتمعية وخاصة في المشرق العربي؟ في حين أن بريطانيا نفسها المسماة "بريطانيا العظمى" أو المملكة المتحدة بأن أكثرية سكانها ليسوا منها اصلا، متنوعين اكثر منا. أما الكيان فهو أمم متحدة بلا مواربة، كل شخص من أمة، وتعترف بهم الدولة القطرية كأمة وقومية، وتنكر القومية العربية!
وهذا ينقلني إلى مسألة هامة أخرى، هي الاقتصاد السياسي. دون هذا المبضع اللئيم، لا يمكننا فهم العالم لنخدم واقعنا. بريطانيا متماسكة وأميركا متماسكة، أو تحديداً تمسك الطبقات الحاكمة/المالكة فيهما وفي غيرهما بأعناق الأكثرية الشعبية عبر الاقتصاد. هذا ما قدمه الاستعمار لهذه الدول، وهذا سر الإصرار على احتلال الوطن العربي لتتواصل تغذية التماسك الداخلي، المحلي. باقتصاد ضعيف تتفكك الدول، دونما حاجة إلى "تفكيكية" جاك ديريدا الذي ثار على اللغة والأدب والسياسة، وفي النهاية دعى للتصالح والتسامح وفي خلفية رأسه - دون أن يكتب ذلك بالنص - أن يقنعنا بالاعتراف بالكيان ونسيان حق العودة. وما أكثر مثقفينا الذين يقفزون لتجميع وترجمة حتى برازه. أليس هذا داعية تطبيع! ألم يتفكك الاتحاد السوفييتي بسبب الاقتصاد!
أعتقد أن التركيز على راس المال هو ما ينقص الكثير من كتاباتنا لنرى أن العامل المادي وراء هذا العراك المتواصل بيننا وبينهم، أي وراء حربهم المفتوحة علينا إلى أن نغلبهم. هذا مع أننا لا نشكل في الراهن خطراً عليهم، ولا ننافسهم، هم آتون إلينا ويحتلوننا. فهم اصحاب نظرية خير دفاع هو الهجوم. من هنا أرى التطبيع معهم، في كافة المستويات كالتطبيع مع الكيان وأخطر. في مشروعهم لتحطيم المشروع القومي العربي بدأو من مارتن لوثر، الذي قالوا لنا عنه مصلحاً دينياً، وهو إرهابي صهيوني بامتياز. هل تلاحظ كيف يعلموننا "غلط"! وكما ارى خطورة هذا المشروع، فإن تدمير تجربة محمد علي، وتجربة جمال عبد الناصر، وصدام حسين ليست سوى تفاصيل مقارنة مع ما هو آتٍ. هذه ايام إرهاصات المذبحة الكبرى، فلماذا لا تكون لنهضتنا إرهاصاتها؟
ارتكازاً على هذه الرؤية، وجدت أن السجال مع المطبعين ثقافياً هو نضال قومي لإنقاذ وتحريك ذاكرة الطبقات الشعبية كي تتصدى، والسجال مع راس المال الغربي ومع الكمبرادور القطري العربي هو نضال طبقي اشتراكي، والنضالان لا ينفصمان قط.
لا أُخفيك، ففي حياتي التي كلها، وهي حياة "بريَّةٍ" اكتشفت هذه الحقائق على جلدي، عبر الطريق الصعب، بل الصعب جداً. اكتشفت القومية العربية للطبقات الشعبية، واكتشفت أن قومية الكمبرادور والقطريات منافقة وخائنة حقاً، واكتشفت أنني اشتراكي أولا من أجل هذه الأمة، بل ان لا اشتراكية لا تبدأ بقومها. لقد اثار هذا عليَّ طفيليات تروتسكية عديدة في الكيان وفي اللحظات التي كنت أصل الخارج وخاصة فرنسا وبريطانيا وأميركا وكندا. ورغم سذاجتي القروية الشرقية، اكتشفت أن تحت نار الماركسية الحمراء لدى هؤلاء وغيرهم من الشيوعيين التحريفيين، هناك تحت هذه النار "طبخة" الدفاع عن الكيان الصهيوني. فلا أخطر على هؤلاء من مجرد ذكر الأمة العربية والقومية العربية. وكثيراً ما اثاروا ذلك الزعم الواهي بأن الاشتراكي لا يمكن أن يؤمن بالقومية، وكثيراً ما باعوا هذا الاستخفاف بالعقول لمثقفين وأكاديميين، وبقيت ايضاً وحدي، فالأممية لا تعني التخارج باي حال. لا أريد ان ابالغ بنفسي، ولكنني اكتشفت الأخطر، أن كل عربي مطلوب فتح راسه وإخراج الخلايا العربية منه، ومن ثم صهينته فكيف إذا كان فلسطينياً حيث فلسطين هي مسرح الموت والموتى.
لذا، فانحلال الوعي الوطني هنا الذي تحثت لي عنه، هو جزء صغير من تفكيك الوعي القومي العربي عامة. ولن يتوقفوا عن ذلك قط. وإلا فما معنى ذبح العراق بسكاكين الطائفية وبعقل صهيوني وبأيد أميركية، وما معنى ما يدور في السودان والصومال وضد لبنان؟ وما معنى هذا الخطر الوهابي المصنوع في لندن!
ولأن هذا الوعي مستهدف، اقول لك لا بد أن تبقى أجراس العودة تدق من أجل العودة إلى كنعان. ولا إخال هذا لا ينعش قلبك الموجوع كقلبي. ولا يخالطني اي شك أن هذا سيُجدي ويثمر وينجح. فالحب يا رفيقي لا يموت، يُقتل، لكنه لا يموت.
حتى اللحظة، نعم يخسر الوعي الواعي أمام الوعي المنسجم مع وعي المرحلة. ولكن الأيام دُول، والافتئات على التاريخ مؤقتاً، وإلا لكانت هذه الأرض تفرنجت منذ ألفية كاملة.
حين أكتب لشخص يعتبر التطبيع خرقاً للحصار الصهيوني على الأرض المحتلة 1967، ولولا وجوب الأدب البرجوازي الصغير الذي تعلمناه، لفعلت ما يفعل لينين في هذا الموقف وكتبت ما دار برأسي، حينها، أنا لا أكتب له. لذا، كان هو يصرخ ويتقلى، هو وغيره، والبعض ممن زعموا انهم اصدقائي، وحين يجد الجد، يصطفون هناك بعيداً. لكلٍ هواه! أنا اكتب بالضبط للجميع، إلا هو! فمن ارتكب معصية التطبيع، لن يكون جندياً مقاتلاً، هكذا يقول العساكر، بأن الجندي الأسير لا يُعاد الى الجيش، وحتى لو كان بطلاً عالمياً مثل جلعاد شاليط الذي يبكي عليه مطبعو فلسطين لأنه وقع بيد حماس!
اسمح لي أن اواصل لا منهجيتي. هل قال المطبعون كلمة عن مروة الشربيني؟ هل قالت كل أوروبا أم الديمقراطية والتسامح؟
مرة أخرى، لا أكتب للمطبعين بل أكتب عنهم، هم مطبعون حتى لو جاء الواحد كي يزور أمه. فهل ستة ملايين لاجىء بلا أمهات!
ما بك تثير لي ما يدفعني أن أكتب ليل نهار! يبدو أن خيالك الشعري لا يتوقف عن إثارتي، لذلك أوردت لي واقعة دعوة الشيوعيين الفلسطينيين إلى الوحدة بين العمال في الجانبين اليهودي والفلسطيني تحت مظلة الهستدروت؟ ربما كتبت لغيرك واقعة طريفة كهذه. حين عرضت أطروحتي للماجستير، على دار Zed Books في لندن لنشرها ـ وهي دار يسارية مشهورة أكثر من دار (عائلة أو حامولة) ابو كذا وكذا... الخ ـ وافقوا شريطة أن أغير الفصل الخامس الذي يتحدث عن إخضاع العمال الفلسطينيين للعمال اليهود، بحيث يصبح النص أن الطبقتين تعملان يدا بيد! سحبت الأطروحة وتأكدت ان الصهيونية تطاردنا اين كنا. فلا غرابة إذن أن يكون اليسار اليوم مجرد "لوحة إعلانات للتطبيع".
نعم جرت تصفية ناجي العلي، وهو كان علي يقين بذلك، قالها لي دوماً، ولكن هناك تصفيات تحمل الجوهر ولا تحمل الإسم. فقد جرت تصفية جورج حبش ايضاً، ولكن عبر فريق من الناس المطبعين الذين تخفيفاً عليهم أُسموا أصحاب "وجهة النظر"، وكانت النتيجة محاصرة الرجل وخطه إلى أن مات خنقاً. هل تعرف أن كثيرين من "الثوار" عولجوا مثلا في ألمانيا وبريطانيا من أمراض معيبة، أما جورج حبش فلم يلق علاجاً فرحل نظيفاً.
التطببيع أخبث من المرض الخبيث. لذا، لا بد للوعي الرافض أن يواجه الوعي القاتل. ليست هذه من جانبي بطولة ولا جرأة. ليست مغامرة كما يزعم وينعتني من خُلقوا خصياناً، بل هي موقف مع النفس، أن لا تكذب ما استطعت. أليست "الحياة وقفة عز" كما قالها الشهيد أنطون سعادة؟ من يتذكر الفئران التي قتلته سوى صانعي الأحذية.
كل ما أحاوله يا رفيقي هو تحريض الشرفاء المُوَقع بهم في دائرة التطبيع ومسح الذاكرة ليؤكدوا حقنا الكامل في فلسطين الكاملة، وحق الأمة العربية فيها، بل وعودتها إلى الوطن الأم. لذا، أحاول الكتابة لكل عربي بوسعه سماعي وسماعك وسماع امثالنا. لا بد من مطاردة التطبيع لنخرجه من الوعي، ولا تتم تصفية الوعي الدخيل بغير الوعي الأصيل، سيكون ذلك مكلفاً، لا بأس، فلا قيمة استعمالية لما لا شغل فيه، لا سيما الوطن، فهو لا يُباع ولا يوهب، وبالتأكيد يُدافع عنه.