سألني صحفي للتو: هل تعتقد ان الأسد امام هذا الوضع سوف يدرك ان المعركة حسمت ويبدأ التصرف بطريقة عقلانية، على الأقل من أجل إنقاذ نفسه؟
قلت كل شيء ممكن. لكنني اعتقد انه سوف يستمر في القتال. فقد اختار المواجهة منذ البداية إلى النهاية، ولم يفتح أي نافذة على الحلول السياسية، مهما كانت صغيرة، في أي وقت، قبل الثورة وبعدها. كل ما كان يقوم به هو المراوغة والخداع من اجل كسب الوقت والقضاء على المعارضة أو الاحتجاج وعلى الثورة اليوم، بالحديد والنار.
فسياسة النظام الذي عاش عمره المديد كاملا، أي ما يقارب نصف قرن، محاصرا، أو بشعور المحاصر، من شعب رافض له وغير معترف بشرعيته، كانت دائما الهرب إلى الأمام ، أي إلى المزيد من استخدام العنف وتكبيل الشعب وتقييد حرياته وانتهاك حقوقه حتى تحولت سورية إلى أسوأ سجن في الوجود. وحتى أصبح من غير الممكن فتح دكان أو استئجار شقة أو بيع أو شراء، من دون موافقة مسبقة من "الأمن"، أمن النظام. وكان الرفض الصارم والمتعجرف رده الدائم على مطالب الشعب، مهما كانت قليلة أو محدودة، حتى صار سلوكه تجاه الشعب السوري شبيها بسلوك اسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، أي الرد بمزيد من الاقصاء والتهميش والإذلال كما ترد اسرائيل بمزيد من الاستيطان والتضييق والقتل على أي مقاومة يبديها الفلسطينيون لسياسات الانكار والقهر والتنكيل التي تمارسها سلطات الاحتلال، أي ألى مزيد من الاحتلال. وهكذا تحول النظام السوري أيضا إلى نظام احتلال. فقد حكم سورية ويحكمها حتى الآن خلال نصف قرن بالقوة والعنف لا بالسياسة ولا بالثقافة ولا بالاقتصاد ولا باي إلانجاز.
والسبب في هذا الاختيار لا يرجع فقط لطبيعة النظام الذي رفض هو نفسه ان يبني شرعيته بأي شكل كان، وقرر أن يبقى انقلابا دائما على القانون والشرعية، وأن يحكم بالقوة وارهاب السكان.
وهكذا بنى استقراره على الخوف الذي زرعه في صدور السوريين كبارا وصغارا، نساءا ورجالا. وترجم هذا الحكم بسيطرة أجهزة الأمن التي تمارس كل صنوف العسف والتقسيم والتمزيق والتمييز والإهانة، حتى اصبح السوري يعتقد أن ما يعيشه بلاء، لا قدرة له على رده، ولا مهرب من الخضوع له والتعامل معه. وصار النظام أو رجاله يؤمنون بالفعل أن سورية هي سورية الأسد، أي ملكه الصافي، وان الأسد باق إلى الأبد، أي أنه إله.
كنت أقول، وقد كتبته خلال فترة ربيع دمشق، ردا على نفس السؤال: إن في النظام جناحا انتحاريا لا يقبل أي حوار، وهو مستعد لأي احتمال، ولا يهمه إلى اين يصل بالبلاد نتيجة سياسته الخرقاء الرافضة لأي حوار أو تنازل أو إصلاح. وكان يجسد هذه السياسة في مخيلتي الأخ الأصغر للاسد لما اشيع عنه من أنه لا يتوانى عن ارتكاب اي حماقة، أي جريمة، مهما كانت كبيرة، من أجل الدفاع عن إرث الوالد وإغلاق لنظام . الآن، بعد ما يقارب السنتين على المواجهة المسلحة مع الشعب اصبح النظام كله انتحاريا لا يفكر سوى برد التحدي والانتقام. ومن الممكن بالفعل ان يجره هذا الموقف إلى ارتكاب أكبر الحماقات المحتملة، بما في ذلك اللجوء إلى الأسلحة الكيماوية، من اجل ان يعطي لنهايته السوداء الأبهة التي افتقدها أو عجز عن تحقيق حلمها في بداياته الخرقاء.
بشار الأسد، والنظام الذي أصبح على شاكلته، ليس شخصا سويا. إنه مزيج من الشعور بالضعة والنقص واللاشرعية واغتصاب السلطة ومن مشاعر العظمة والتأله والعلو والغطرسة التي ورثها عن أبيه السلطان. واختلاط الشعور بالضألة والتأله في الوقت ذاته يشكل مزيجا متفجرا من العواطف المتناقضة يصعب معها على فرد مثله ان يسيطر على نفسه. فتألهه وشعوره المتضخم بالعظمة والقوة التي تؤمنها له أجهزة الأمن المتفشية في كل مكان يزيد من غطرسته، ويدفع به الى التطلع إلى غايات مستحيلة، وهي ان يركع له الناس ويبجلوه ويتعبدون له ويقدسوه، وهو ما حاوله منذ سنته الأولى في الحكم. وضألته الانسانية والأخلاقية تزين له كل أفعاله ولا تقيه من اللجوء إلى أدنأ الوسائل وأخسها لتحقيقها. إنه مسخ برأسيين يصعب معهما السيطرة على نفسه وعلى الواقع.
وهو في كل ذلك ضحية النظام نفسه الذي صنع من أجل أن يكون رمزه وسيده وضحيته معا. فالنظام الذي لا يمكن استمراره من دون الإقصاء الكامل للشعب، وبالتالي بناء شبكة المرتزقة وميليشيات القمع والإذلال والقتل، لردع الشعب وإخضاعه، يحتاج دائما إلى رئيس مرفوع إلى مرتبة إله، يبرر بإلهامه قتل التفكير وإسكات الاصوات، ويغطي بعظمته وجلاله على وضاعة أساليب الابتزاز والقمع التي تقوم عليها علاقات السلطة والمجتمع داخل هذا النظام .
وأكاد أقول إن ما يقوله الروس صحيح هو أنهم غير قادرين على إقناعه بالتخلي عن الحكم. لكن خطأهم يكمن في أنهم، باستمرارهم في تقديم العون المالي والتسليحي له، يعززون شعوره بأنه فوق الهزيمة وأن بإمكانه دائما الانتصار.
لن يترك بشار الحكم من تلقاء نفسه مهما زادت الضغوط. فهو لا يفكر ولا يمكن أن يضع نفسه في وضع التفكير. إنه كالمسخ الجريح الذي يدافع عن نفسه أي عن صورته عن نفسه، أو كطفل أخرق انتزعت منه لعبته المفضلة. وهذه اللعبة هي سورية، هي نحن