أهم النقاط التي اغفلتها السياسة الأردنية، أظهرت أن التعامل مع تحولات الداخل الأردني لم يأخذ بعين الاعتبار ضرورة التأسيس لنهج مشاركة الشعب في صنع القرار من جهة، وضرورة استحداث برامج تنمية محلية حقيقية تساعد على انخراط الشباب في تطوير اماكنهم ومحافظاتهم من جهة أخرى. عدم استيعاب شكل التحول هذا جعل من عقلية صناعة القرار الأردني مرتهنة في سياساتها لامرين اثنين: الاول: حاجة الولايات المتحدة للنظام الأردني، خصوصاً مع اشتعال الأزمة في سوريا. ثانياً: رسم سياسة التعامل مع الداخل الأردني عبر قراءة سطحية لاعداد المعتصمين المحدودة في الشارع والتي حسباً لوجهة نظر مقربين من دائرة صنع القرار- لا يمكن ان تفرض التغيير بالقوة. نسيت هذه السياسة ان انهيار صورة اي نظام سياسي خصوصاً 'مملكة مطلقة' لا يقاس بعدد المعتصمين في الشوارع فقط، بل يقاس بالمناخ العام وطبيعته. حالة الاستياء لم تقتصر على فئة شعبية معينة بل شملت جميع الفئات دون استثناء من عسكرية الى بيروقراطية تقليدية.
الانتخابات الأردنية... ما الهدف؟ أظهر الملك عبد الله اصراراً في السنة الأخيرة على ضرورة اجراء الانتخابات البرلمانية قبل نهاية العام الحالي. اصرار الملك هذا لاقى استغراب قطاعات واسعة رأت في اللجوء الى خيار الانتخابات خطوة متسرعة نظراً لسببين رئيسيين:
السبب الأول: الأجواء المحتقنة التي تسود الداخل الأردني الناتجة عن الفشل في التعامل مع ملفات الفساد، وعدم رضا قطاع واسع من الشارع الأردني عن مسار ونتائج عملية الاصلاح مما يجعل المناخ السياسي الأردني غير مهيأ للدخول في مرحلة سياسية قد تكون مفصلية في تاريخ الدولة الأردنية.
السبب الثاني: عدم الاستقرار وحساسية الاوضاع السياسية التي تمر بها المنطقة والتداعيات الأمنية الخطيرة المرتبطة بالأزمة السورية وانعكاساتها على الداخل الأردني.
الحقيقة أن بعض التفسيرات اعتبرت ان المراد من سرعة اجراء الانتخابات هو ارسال رسالة للمجتمع الدولي بان الاردن 'بادراته الحالية' قادر على ادارة انتخابات نزيهة وشفافة لو لمرة واحدة على الاقل. اصحاب وجهة النظر هذه اعتمدوا على حقيقة أن أغلبية رسائل الملك الأردني الأخيرة المتعلقة بالانتخابات لم توجه الى الداخل الأردني، فأحاديث الملك عن الانتخابات اقتصرت على القنوات العالمية وممثلي الدبلوماسية والسياسة الدولية.
في ظل اصرار الدولة الأردنية هذا على المضي قدماً في اجراء الانتخابات النيابية، بقي مكون سياسي رئيسي هو 'جماعة الاخوان المسلمين' يصر على قرار المقاطعة. تعنت الاخوان المسلمين قد يكون ناتجا عن ربط الجماعة لسياستها الداخلية في الأردن بقراءة اقليمية تمثلت بوصول قوى اخوانية للحكم في عدة دول والاعتقاد بحتمية سقوط النظام السوري. الا أن عدم سقوط النظام في سوريا شكل نقطة تحول رئيسية في شكل المسار السياسي في المنطقة. اما الوصول الى التسوية السياسية في سوريا يشير ان حلم وصول الاسلاميين الى السلطة في دمشق والانفراد بها قد تبدد. حتى الولايات المتحدة أرسلت رسائل واضحة مؤخراً بضرورة الحفاظ على التمثيل المسيحي والبعثي في المكون السياسي القادم في سوريا لضمان عدم السقوط في فخ الفوضى. اذاً 'لا لتكرار التجربة المصرية'. هذه التحولات أقتضت أن يعيد الاخوان المسلمين تموضعهم في الداخل الأردني، فجاء رد الجماعة بضرورة الاحتكام الى الشارع لفرض التغيير بقوة الضغط الشعبي. دعت الحركة الاسلامية الى مسيرة ضخمة تضم كافة قوى التغيير والاصلاح. استخدمت الجماعة بروباغندا اعلامية هدفت الى التأسيس لفكرة 'الطوفان البشري' الذي سيجتاح شوارع عمان بمسيرة يتجاوز عددها الخمسين الفاً. أهداف الاخوان المسلمين من تلك المسيرة كانت متعددة الا أن الرسالة الأهم كانت لفت نظر المجتمع الدولي الى 'القوة الاخوانية على الأرض' حيث ان القناعة المترسخة لدى الحركة الاسلامية مؤخراً تشير الى تعاظم المخاوف لدى الحركة من تغير موقف الولايات المتحدة المتعلق بحقيقة امتلاك الاخوان المسلمين للحاضنة الشرعية الاكبر لتولي السلطة في الاردن. لهذا فان النجاح في انتخابات برلمانية ينظمها النظام الأردني دون تعديل لمواد رئيسية في الدستور تجرد الملك من سلطاته سيكون بمثابة انتصار للنظام وضياع الفرصة الأكبر على الأخوان.
النظام والاخوان: 'صراع مكتسبات وحرب على السلطة'؟'داخلياً، اعتادت الحركة الاسلامية على ابقاء الدولة الاردنية لباب الخروج من الازمة (المتمثل بالملك) مفتوحاً. فالصدام عادة ما كان يقع بين الحركة الاسلامية والحكومة، وفي الحالات الاكثر تعقيداً يظهر الخلاف مرتبطاً بدائرة المخابرات العامة. ما حدث اليوم يختلف تماماً، باب الملك بقي موصداً، وفرص المناورة السياسية بددها حديث الملك المتعلق بالانتخابات. جاءت رمزية الحديث الملكي مع محطة اميركية لتشير ان نبرة التحدي لا تقتصر على مخاطبة الداخل بل سعت الى وضع حد لفكرة الاستقواء بالخارج. الحقيقة أيضاً أن الملك عبد الله وفي مقابلة مع وكالة فرانس برس كان قد ارسل رسالة صريحة للاخوان، فهو لم يوجه اي دعوة لهم للمشاركة في الانتخابات بل قال: ''اقول للاخوان المسلمين انهم يسيئون تقدير حساباتهم بشكل كبير' عبر اعلانهم مقاطعة الانتخابات النيابية'. الملك وفي نفس المقابلة خير الاخوان بين خيارين لا ثالث لهما:' 'أقول للاخوان المسلمين: هناك خياران أمامكم، إما أن تبقوا في الشارع أو تساهموا في بناء أردن ديمقراطي جديد'
تطورات الأحداث السياسية على الساحة الأردنية تشير الى ان كثيراً من التحولات الفكرية والتغيرات باتت تطرأ على مواقف وخيارات كثير من 'الشخوص' و'التيارات السياسية' وحتى بعض القوى في الدولة. حديث الساعة اليوم -و بلا شك- يتعلق بالتساؤلات المتعلقة في مستقبل الاخوان المسلمين في الأردن وبقدرتهم على الوصول الى دفة الحكم واللحاق بنماذج اخوانهم في الدول العربية الأخرى. في مواجهة التيار الاخواني اليوم يظهر تيار الدولة الأردنية المتمثل 'بالملك شخصياً' والذي يسعى الى ابقاء مفاتيح اللعبة السياسة بيده. المشهد في حقيقته يبدو صراعاً ظاهراً بين فريقين تحالفوا في حقب زمنية سابقة لمواجهة تيارات علمانية ويسارية وحتى وطنية أردنية، وكأن الانقسام بين الفريقين هو انقسام ناتج عن رغبة فريق بالتمسك بحجم السلطة ومكتسباتها وفريق اخر يعتقد ان رياح التغيير الحالية تقدم المناخ المناسب له للظهور وتوسيع قاعدة مكتسباته وبالتالي حصته من السلطة.
اذاً، الداخل الأردني ينقسم الى فريقين، فريق رافض لكل ما هو قادم من الدولة بحجة انعدام الثقة والمصداقية، وفريق تقليدي يصر على ادارة المشهد باسلوب يمتاز بالعناد والتحدي، منصباً نفسه الوصي على الوطن والوحيد القادر على ترجمة مفاهيم الولاء والانتماء. بين هذين الفريقين تظهر فئة مستقلة، تأخذ بعين الاعتبار حساسية المرحلة والمسؤولية الوطنية، وترفض في نفس الوقت الانحياز لحالتي الفراغ الجذري والعقم السياسي. هذا التيار المتشكل من قوى 'علمانية، تقدمية،وطنية وبيروقراطية' قد يجد طريقه بقوة للدخول الى مسرح السياسة الأردنية وكسر حالة ثنائية القوى المتمثلة بالاخوان ونظام الملك. هذا التيار يرى أن حالة الصراع السياسي في الأردن هي في حقيقتها معارك للاستئثار بالسلطة لا اكثر، يهدف كل طرف منها الى الظهور بصورة صاحب الشرعية القادر على ترجمة وجهة النظر الأمريكية المتعلقة بالتسوية السياسية القادمة في الاردن.
بعد هبة تشرين: الملك يحاول تبني نهج انقلابي جديد.
مع انطلاق الاحتجاجات في الأردن التي عرفت باسم 'هبة تشرين'، تغيرت المعادلة داخلياً واقليمياً وحتى عالمياً. الداخل الاردني اثبت اته قادر على فرض التغيير، اقليمياً تحول مسار القوى بعد حرب غزة (مؤقتاً) ليصب في مصلحة التيار البراغماتي الاسلامي المدعوم من قبل المحور (المصري، التركي، القطري) بقيادة خالد مشعل، والذي تصدر مشهد السياسة الفلسطينية. اما ردود الفعل العالمية على الاحتجاجات في الأردن فكان قاسياً نوعاً ما بحق شخص الملك والذي بدا واضحاً ان هناك من يسعى لاختزال الأزمة في الأردن بشخص الملك، المر الذي دفع صحيفة بحجم نيورك تايمز أن تنشر مقالاً تشخص فيه حلم التغيير الأردني بتغيير الملك عبد الله بأخيه غير الشقيق الأمير حمزة.
ردود فعل الملك الأردني جاءت مرتبطة بالتحولات الثلاثة:
على صعيد القضية الفلسطينية: أثار وجود مطبخ مصري قطري لحل القضية الفلسطينية رعباً لدى طرفين أساسيين، الملك الأردني والرئيس الفلسطيني. جاء اللقاء في رام الله بين العاهل الأردني ومحمود عباس ليعيد رسم التحالفات في المنطقة. يشير هذا التحول الى ان هناك تيارا يتشكل بصورة سريعة لمواجهة استحقاق التسوية الفلسطينية القادمة، لهذا بدأ الحديث عن الكونفدرالية بين فلسطين والأردن. المشروع تستفيد منه الأطراف المتضررة من الربيع العربي.
ما هي فائدة الطرفين من هذا المشروع؟
أولاً: الملك الأردني، يعيد انتاج دوره الداخلي عبر دور اقليمي مرتبط بحل القضية الفلسطينية.
ثانياً: الرئيس عباس والذي يعتقد ان نجاحه بالدخول في هذا المشروع سيبقي عليه لاعباً أساسياً في الملعب الفلسطيني.
ثالثاُ: تضرر تيار مشعل هو فائدة للطرفين، فالمتضرر الأكبر هو خالد مشعل وتياره الاسلامي، ونجاح مشروع الكونفدرالية سينهي مشروعه السياسي المدعوم قطرياً وينهي آمال وصوله الى الرئاسة الفلسطينية.
على صعيد الداخل الأردني: الخطوة الثانية التي ترتبت على هذه التحولات، هو تحول الملك الأردني الى سياسة بناء التحالفات الداخلية، عبر لقاءات ودية وحميمية مع اطراف من المعارضة السياسية. تهدف هذه اللقاءات الى محاولة الالتفاف على التحالفات الاقليمية والتي هاجمهما الملك الأردني في أكثر من جلسة (مصر، قطر، تركيا)، وشركائها الاسلاميين. الملك الأردني يسعى جاهداً الى انتاج تحالف متعدد الاقطاب مع ساحته الداخلية، من يسار، الى بيروقراطية تقليدية ومتقاعدي المؤسسة العسكرية. هذه المحاولات تهدف الى عزل الاسلاميين عن الداخل الأردني، ووضعهم في خانة العدو المستقوي بالخارج (كما جاء في تصريح الملك الأخير في خطابه بالجامعة الأردنية)
على الصعيد الأقليمي: جاءت زيارة الملك الأردني الى لندن كأول خروج للملك الأردني بعد امتحان هبة تشرين. سعى الملك لهذا اللقاء للحديث في ثلاث نقاط أساسية: 1- مشروع الكونفدرالية والسعي للحصول على دعم بريطاني لهذه الخطوة. 2-: محاولة تقديم بعض الخدمات لاحتواء المعارضة السورية، ومنها غطاء اعلامي سياسي في الداخل الأردني، وبهذا يواكب الأردن الرغبة الأمريكية وفي نفس الوقت ينأى بنفسه في هذه المرحلة على الأقل- عن الدخول في أي نزاع عسكري قد ينعكس على ساحته الداخلية. ثالثاً: الحديث بضرورة الحصول على الدعم البريطاني في مواجهة المشروع (التركي، القطري، المصري) عبر انتاج تحالفات جديدة رافضة لفكرة وصول الاسلاميين الى السلطة مثل (الأردن، الكويت، الامارات العربية، السلطة الفلسطينية).
اذاً، التطورات القادمة في المنطقة قد تفضي الى تحديات جديدة ومواجهات قادمة بين التيارات المتشكلة. الأردن، يجب أن يستعد، أولاً، لمواجهة تداعيات التسوية السورية القادمة، وثانياً، مواجهة تداعيات التموضع في خانة العدو مع التيار القطري التركي المصري. ثالثاً، هو التعامل مع الهزات الارتدادية الخطيرة التي قد يجلبها المضي قدماً في موضوع الكونفدرالية سواء على الداخل الأردني او الفلسطيني. في النهاية لابد من التأكيد على أن الامتحان الأردني الحقيقي هو امتحان اعادة ترتيب البيت الأردني وانتاج نهج سياسي جديد تنتهي فيه صورة الملك المطلق. حسب رؤية الكثيرين، هذه المحاولات هي مهمة شبه مستحيلة، وهي لا تعدو عن كونها زيارات بروتوكولية غير قادرة على انتاج حالة تحول حقيقية واسكات الشارع الأردني عن مطالبه باستعادة مقدراته ومكافحة الفساد والمضي قدما في عملية الاصلاح السياسي. فالنظام السياسي الأردني مازال نظاما متخبطا ولا يملك اجندة اصلاحية حقيقية، وان كل ما يقوم به هو عبارة عن ردود فعل للأحداث والتطورات اليومية. وان كل ما نمر به اليوم هو عبارة عن فتح مزاد البقاء في المنطقة. شخوص وأنظمة تعتقد ان بقاءها يرتبط بتقديم الخدمات والتنازلات، لهذا ما تشهده المنطقة الآن هو عبارة عن مزاد من الخدمات والتنازلات يدخل بها 'قادة المنطقة'.