القصة التالية تقدم عِبْرَة لما كان يجري في الداخل السوري، حيث أشاعت مخابرات الأكاديمية الشيطانية يوماً طُرفَةً بطلها "محمود الزعبي" رئيس وزراء سوري أسبق، انتحر بخمس رصاصات، بأنه حَلَمَ في طفولته يوماً أن يأخذ الشهادة الثانوية، ويحصل على منحة دراسية، ويصبح مهندساً زراعياً -بحكم أنه من حوران- فتحقق حلمه. عاد وحلم في شبابه بأن يتسلَّم مشروعاً كبيراً، فتحقق حلمه، وأصبح مديراً لمشروع الغاب الزراعي. ثم حلم بالدخول إلى عالم السياسة، فأصبح عضو مجلس شعب. ورفع حلمه قليلاً، فأصبح رئيساً لمجلس الشعب. وعندها تجرأ، وحلم بأن يصبح رئيساً لمجلس الوزراء، فتحقق حلمه؛ فقال لنفسه (بعد صفنة): "والله ما بقي قدامي إلا صير نبي". هكذا تسير رواية المخابرات التي لم تمرره بالدرجة التي تلي رئاسة الوزراء ارتفاعاً، أي "رئاسة الجمهورية"، بل قفّزته إلى الحلم بالنبوة. أي أنها لم تسمح له بالتفكير أو حتى الحلم بها. وأكْمَلَت الرواية وكادت أن توصله إلى النبوة، ولكن بسخرية؛ حتى يتكامل احتقارها لكل سوري مهما ارتفعت مرتبته. تقول روايتهم: إن الزعبي وهو في طريقه إلى درعا بسيارته، أراد التوقف لقضاء حاجة؛ فوقف عند ساتر؛ وإذ بصوت يأتيه من الخلف يقول: "اِقرَأْ…"؛ فما كان منه، حسب طُرْفتهم، إلا أن قال: "… ما أنا بقارئ" -وهذا اعتداء واحتقار للقرآن الكريم ولنبي الله محمد (ص)- وفي متابعة الرواية، يقولون إن الصوت القادم من الخلف كرر أمره: "اِقرَأْ.."؛ وعندها قال الزعبي: "والله أجت، فعلاً رح صير نبي". وفجأة يتلقَّى صفعة على عنقه؛ وصوتاً يقول له: "اقرأ يا حمار «ممنوع التبوّل»".
لم يقتصر فعل الأكاديمية على هذا النوع من البرمجة الدماغية للعقل الجمعي السوري، بحيث تشلّه ويتحول إلى أداة طيّعة يسهل سحقها أو التحكم بها أبدياً؛ بل وسّع طيفها خارجياً لحماية وتحصين أبدية منظومته.
يشهد التاريخ لحافظ الأسد أنه أتقن لعبة الاستخبارات العالمية، وأسس لأكاديمية استخباراتية قيل عنها: إن "الشيطان يتعلم من أحاييلها". إنها مدرسة تفتقر إلى أدنى المستويات الأخلاقية كمن "يقتل القتيل ويمشي بجنازته". حيث جَمَعَ معالمها من مدارس عدة؛ فقد راقب بدقة كيف تعامل عبد الناصر مع خصومه السياسيين، وكيف انقلب على أقرب المقرَّبين من رفاقه؛ ليقوم هو أيضاً باستخدام نفس منهجية الإقصاء ضد رفاقه، مدعياً أنه بذلك يصحح طريق الضالين عن "الثورة ". كما أنه حفظ عن ظهر قلب دروس المخابرات السوفيتية ومخابرات دول الكتلة الشيوعية السابقة؛ والمعروف عنها أن النفاق وقهر الإنسان هو دَيْدَنها .
نستذكر أيضاً مسرحية دخول لبنان بالاتفاق المباشر مع الولايات المتحدة كوكيل حصري للكيان الصهيوني؛ متعهداً بالالتزام بقواعد اللعبة المتمثلة بمنع الفلسطينيين وأنصارهم من اللبنانيين من تهديد حدود إسرائيل الشمالية مقابل إطلاق يد جيشه كي يمارس الفساد وزرع الفتن الطائفية بين اللبنانيين ولينتقص من قِيَم الحرية التي كان ينعم بها الشعب اللبناني منذ استقلال دولته ،، ولكن الانفصامية والشيطانية في هذا السلوك المشين تتجليان بأن ذلك كان يتم تحت يافطة "الممانعة والمقاومة" التي تروج لها ماكينته الإعلامية الغوبلزية .
وفي فن التشبيك بين المتناقضات واللعب عليها، لم يعرف العصر الحديث نظاماً قمعياً أجادها كما فعل نظام الأسد: يختطف الرهائن الغربيين في لبنان ليبدأ بازار الابتزاز القذر تحت الطاولة مع الأجهزة الأمنية الغربية؛ الأمر الذي يقتضي الحصول على المال والاعتراف الغربي بمشروعية عسف منظومة الاستبداد ضد شعبه، ولكن فوق الطاولة هناك الرشق الإعلامي ضد الإمبريالية وعملائها في الداخل والخارج منفذاً بذلك وصية ميكيافيلي الأولى: "كن مستعدا لتقديم تنازلات أخلاقية ...فدائماً ستجد أن هناك المستعد لتقبل الخداع".
لقد أتقنت منظومة الاستبداد المزاوجة بين انتهازية رخيصة ومفضوحة لاقتناص الفرص في الوقت المناسب مع منهجية المزاودة برفع شعارات الإنسانية والوطنية. إن الرسالة التي وجهها حافظ الأسد إلى صدام حسين قُبَيل بَدْء حرب تحرير الكويت بيومين فقط خير مثال على سلوك الزندقة لمنظومة الاستبداد؛ فقد وجَّه حافظ الأسد الدعوة إلى صدام للانسحاب من الكويت متعهداً له بوضع الجيش السوري تحت إمرة صدام إذا دخلت القوات الأمريكية الأراضي العراقية، ولكن بنفس التوقيت كانت الفرقة الخامسة من الجيش السوري تنضم إلى التحالف الدولي المحتشد في "حفر الباطن" ضد العراق.
لا يعلم إلا الله ماذا حصل في الخلوات السرية بينه وبين كيسنجر؛ ونكاد نقول جازمين إنه أقسم على التوراة للمحافظة على أمن إسرائيل وعدم المساس بوجودها مقابل تعهُّد كيسنجر بضمان سلامة صولجانه وأولاده من بعده؛ وتشهد الأيام الخوالي منذ عام 1974 كيف بقيت جبهة الجولان هادئة، وبالمقابل وعرفاناً بالجميل، جاءت زيارات كيسنجر المتكررة إلى ديار بوتين، عندما أوشكت الانتفاضة السورية أن تُؤتي أُكُلها، ليرجوه التدخل للمحافظة على إرث "آل الأسد" الأوفياء لأولاد عمومتهم، دون أن يعبأ ثعلب السياسة الأمريكية بما اقترفت هذه العائلة من جرائم بحق الشعب السوري، ملتزماً بقاعدة الغرب الذهبية: "نحمي الطاغية الذي يحمي إسرائيل، ولتذهب ثورة الشعب السوري إلى الجحيم".
إن السبب الرئيسي للمأساة السورية خلال السنوات العشر الماضية هو أن حافظ الأسد أسس لدولته الشخصية في سورية، حيث امتهن كرامة الإنسان لعبادته كفرد مطلق دون أن يعبأ بمستقبل هذا الوطن، الذي كان يجب أن يُبنَى استناداً لقواعد وسيادة القانون، ثم قام بتوريث هذه الإقطاعية إلى ولده موصياً إياه أن يتذكر قول "شكسبير: في تاجر البندقية: (لاحظ يا "بسانيو" كيف أن بوسع الشيطان أن يستشهد بالكتاب المقدس لدعم أغراضه). وما زالت سورية تحصد زرع ذلك الشيطان الرجيم حتى اللحظة؛ ولكنها رغم كل ذلك، وبعكس كل التوقعات، انتفضَتْ لتستعيد حُرِّيتها وكَرامَتها وإِنْسانيَّتها؛ وستعود.
------------
نداء بوست