ترفض السلمية العقدية العنف بكل أشكاله، بما فيه العنف اللفظي. وهو ما يتجسد بالفعل في سلوك الشيخ نفسه. وكان بعض أبنائه وزملائهم شاركوا في مظاهرات خرجت في دمشق أيام الحرب الأميركية على العراق 2003، رافعين شعارات تدعو إلى السلم ورفض العنف بتاتا.
كان لهذا التوجه حضور لافت في داريا قرب دمشق. في السنوات الأولى من حكم بشار الأسد نشط شبان من تلامذة الشيخ من داريا، طلاب في الجامعة أو متخرجون حديثا، لتنظيف بلدتهم ودعوة الناس إلى القراءة وعدم الارتشاء ومكافحة التدخين. اعتقلوا عام 2003، ونالوا من محكمة الأمن الدولة العليا أحكاما بسنوات في السجن.
لم يكن الشهيد غياث مطر من داريا من مريدي الشيخ جودت، لكن لعله لم يكن غريبا عن هذا الجو. معلوم أنه صاحب مبادرة تقديم وردود وقناني الماء إلى جنود النظام.
غياث قتل تحت التعذيب في خريف 2011.
هناك صيغة علمانية من السلمية المبدئية، تحشد حججا من مؤلفين غربيين، بخاصة جين شارب الذي يشغل كتابه "سياسة الحراك السلمي" عند هذا التيار الفرعي من السلميين موقعا يشبه كتاب لينين "ما العمل؟" عند المناضلين الشيوعيين في زمن مضى.
الشكل الثاني للنزعة السلمية براغماتي أو عملي، يسوِّغ دعوته بأن العنف ملعب النظام، وأننا ننجر إلى ملعب يرجح أن نخسر فيه إذا حملنا السلاح. كنتُ شخصيا طورت حججا من هذا النوع قبل الثورة السورية (في سياق التفكير في الشأن الفلسطيني في الواقع)، واسترجعتها في شهور الثورة الأولى.
عدا أن حمل السلاح يعني الانجرار إلى ملعب يتفوق فيه النظام، كانت الحجة الثانية أن حمل السلاح نخبوي، يُهمِّش حتما النساء والصغار وكبار والسن، وعموم غير المقاتلين، لمصلحة حملة السلاح من الشبان وأصحاب العضلات.
ويبدو أن سير الثورة السورية ذاتها يدعم الخيار السلمي بحجة ثالثة: هناك تناسب عكسي بين حمل السلاح وحمل القيم، والصراعات المسلحة أقل قدرة على حمل قيم العدالة والحرية من الصراعات السلمية. بعبارة أخرى، ليس العنف أداة محايدة في الصراعات الاجتماعية والسياسية. إنه بذاته يحمل قيما أنسب للطغيان مما للحرية والديمقراطية.
وكما هو ظاهر، يتعلق الأمر هنا بتشكك في جدوى العنف، وليس بحماس عقدي للنزعة السلمية، أو بعداء عقدي للعنف.
الصنف الثالث من النزعة السلمية طفيلي وكيدي. نتكلم هنا على السلمية كإيديولوجية تتيح لأصحابها منازعة غيرهم، وليس بنظام قيم متسق يراعونه في كل حال. نتكلم على سلمية كيدية لأن دعاة هذا الضرب من السلمية محاربون إيديولوجيون عنيفون، لا يمتنعون عن عنف لفظي أو رمزي حيال خصومهم. النزعة السلمية هنا سلاح إيديولوجي منفصل عما يفترض أنها السلّة القيمية والسلوكية الخاصة بنزعة سلمية متسقة.
والخصوم النوعيون هنا هم أساسا معارضون ومثقفون مع الثورة.
يتميز هذا التيار أيضا بتحويل المشكلات الاجتماعية والسياسية الفعلية إلى منازعات إيديولوجية مجردة. وتبدو قضايا السلمية والحربية خيارات حرة لأفراد أحرار من الطبقة الوسطى، ولو حصل أن اخترنا السلمية وانتقدنا الحربية لما تعسكرت الثورة ولكانت الأمور بخير. ولأن بعضنا لم يفعلوا، ينصرف أشد انفعال السلميين الكيديين إلى مواجهتهم.
نتكلم على سلمية كيدية أو طفيلية لأن حياة تفكير ونقاش هذا التيار لا تعتمد على فاعليته الخاصة، أو على مساهمة فعلية من جانبه في الصراع الفعلي، بل هو يعتاش على المواقف المتكونة من هذا الصراع.
ولذلك لا يبدو أن هذا الضرب من النزعة السلمية مرشح للزوال مثل الضربين السابقين.
الطفيلي لا يموت إلا بموت الكائن الذي يتعيش عليه.
كان لهذا التوجه حضور لافت في داريا قرب دمشق. في السنوات الأولى من حكم بشار الأسد نشط شبان من تلامذة الشيخ من داريا، طلاب في الجامعة أو متخرجون حديثا، لتنظيف بلدتهم ودعوة الناس إلى القراءة وعدم الارتشاء ومكافحة التدخين. اعتقلوا عام 2003، ونالوا من محكمة الأمن الدولة العليا أحكاما بسنوات في السجن.
لم يكن الشهيد غياث مطر من داريا من مريدي الشيخ جودت، لكن لعله لم يكن غريبا عن هذا الجو. معلوم أنه صاحب مبادرة تقديم وردود وقناني الماء إلى جنود النظام.
غياث قتل تحت التعذيب في خريف 2011.
هناك صيغة علمانية من السلمية المبدئية، تحشد حججا من مؤلفين غربيين، بخاصة جين شارب الذي يشغل كتابه "سياسة الحراك السلمي" عند هذا التيار الفرعي من السلميين موقعا يشبه كتاب لينين "ما العمل؟" عند المناضلين الشيوعيين في زمن مضى.
الشكل الثاني للنزعة السلمية براغماتي أو عملي، يسوِّغ دعوته بأن العنف ملعب النظام، وأننا ننجر إلى ملعب يرجح أن نخسر فيه إذا حملنا السلاح. كنتُ شخصيا طورت حججا من هذا النوع قبل الثورة السورية (في سياق التفكير في الشأن الفلسطيني في الواقع)، واسترجعتها في شهور الثورة الأولى.
عدا أن حمل السلاح يعني الانجرار إلى ملعب يتفوق فيه النظام، كانت الحجة الثانية أن حمل السلاح نخبوي، يُهمِّش حتما النساء والصغار وكبار والسن، وعموم غير المقاتلين، لمصلحة حملة السلاح من الشبان وأصحاب العضلات.
ويبدو أن سير الثورة السورية ذاتها يدعم الخيار السلمي بحجة ثالثة: هناك تناسب عكسي بين حمل السلاح وحمل القيم، والصراعات المسلحة أقل قدرة على حمل قيم العدالة والحرية من الصراعات السلمية. بعبارة أخرى، ليس العنف أداة محايدة في الصراعات الاجتماعية والسياسية. إنه بذاته يحمل قيما أنسب للطغيان مما للحرية والديمقراطية.
وكما هو ظاهر، يتعلق الأمر هنا بتشكك في جدوى العنف، وليس بحماس عقدي للنزعة السلمية، أو بعداء عقدي للعنف.
الصنف الثالث من النزعة السلمية طفيلي وكيدي. نتكلم هنا على السلمية كإيديولوجية تتيح لأصحابها منازعة غيرهم، وليس بنظام قيم متسق يراعونه في كل حال. نتكلم على سلمية كيدية لأن دعاة هذا الضرب من السلمية محاربون إيديولوجيون عنيفون، لا يمتنعون عن عنف لفظي أو رمزي حيال خصومهم. النزعة السلمية هنا سلاح إيديولوجي منفصل عما يفترض أنها السلّة القيمية والسلوكية الخاصة بنزعة سلمية متسقة.
والخصوم النوعيون هنا هم أساسا معارضون ومثقفون مع الثورة.
يتميز هذا التيار أيضا بتحويل المشكلات الاجتماعية والسياسية الفعلية إلى منازعات إيديولوجية مجردة. وتبدو قضايا السلمية والحربية خيارات حرة لأفراد أحرار من الطبقة الوسطى، ولو حصل أن اخترنا السلمية وانتقدنا الحربية لما تعسكرت الثورة ولكانت الأمور بخير. ولأن بعضنا لم يفعلوا، ينصرف أشد انفعال السلميين الكيديين إلى مواجهتهم.
نتكلم على سلمية كيدية أو طفيلية لأن حياة تفكير ونقاش هذا التيار لا تعتمد على فاعليته الخاصة، أو على مساهمة فعلية من جانبه في الصراع الفعلي، بل هو يعتاش على المواقف المتكونة من هذا الصراع.
ولذلك لا يبدو أن هذا الضرب من النزعة السلمية مرشح للزوال مثل الضربين السابقين.
الطفيلي لا يموت إلا بموت الكائن الذي يتعيش عليه.