لكن يبدو أنّ “عملية الإصلاح” هذه لم تمرّ بسلام، فقد صدر بيانٌ يعلن عن ظهور مجموعة تسمّي نفسها “الائتلاف الوطني السوري – تيار الإصلاح”، تداعى لتشكيلها “عدد من الشخصيات الوطنية وأعضاء حاليون وسابقون”، نتيجة ما وصفوه بـ”حالة الانقلاب التي تشهدها مؤسسة الائتلاف على يد فئة مرتهنة”. وبحسب البيان، يضع “تيار الإصلاح” في مقدّمة أولوياته “نزع الشرعية عن الفئة المتسلّقة على شؤون الائتلاف، وانتخاب قيادة وطنية جديدة، ووضع الشعب السوري في صورة ما يُحاك من دسائس عبر الفئة المرتهنة، وكشف محاولات فرض أجندات وتنازلات مريبة في المفاوضات”. تبع ذلك عدّة بيانات، توحي بأنّ مصدريها يسعون إلى النأي بأنفسهم عن كل مساوئ الائتلاف وعوراته، بعدما تستّروا عليها لسنوات حين كانت مصالحهم تقتضي ذلك.
ومما يثير السخرية، أنّ الأخطاء التي يُفترض في “الإصلاح” المزعوم معالجتها، سواء تحدّث عنه عرّابو “عملية الإصلاح” في قيادة الائتلاف الحالية، أو خصومهم الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية “تيار الإصلاح”، ما هي إلا نتائج لفشل متراكم ساهموا فيه جميعاً، ويجب أن يُحاسبوا عليه، قبل إعادة تدوير أنفسهم بوصفهم إصلاحيين حريصين على الشرعية والشفافية، وعلى القضيّة التي يزعمون تمثيلها. كما أنّ الكلام عن ضرورة التجديد و”ضخ الدماء الشابة” في الائتلاف، يفقد كثيراً من المصداقية حين يصدر عن أشخاص لم يكفّوا عن تولّي مهام ومواقع قيادية في الائتلاف، منذ تأسيسه وحتى اللحظة.
بعد كلّ الفشل الذي انتهى إليه الائتلاف، كان الأجدى بجميع المتنفذين فيه لو كانوا صادقين، من المسؤولين الحاليّين أو السابقين، أن يقدّموا “كشف حساب” مفصّل عن المراحل التي تولّوا فيها مهامهم، أين أصابوا وأين أخطأوا، وكيف، ولماذا..الخ. في ضوء ذلك تتبين أهلية كلّ منهم لتولي المسؤوليات (وهذا جزء من ثقافة سياسية جديدة لا يبدو أنّها نضجت لدى السوريين بعد)، لا أن ينتقلوا بهذه البساطة من شركاء في الفساد والفشل، إلى حملة لراية الإصلاح.
في كل الأحوال، ما يجري يشكّل مناسبة للتذكير بجملة تساؤلات لا بدّ منها. هل كانت تشكيلات المعارضة الرئيسية التي فُرضت على السوريين، بدءاً من تجربة “المجلس الوطني السوري”، ثم “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”، و”الحكومة المؤقتة” التابعة له، وصولاً إلى “الهيئة العليا للمفاوضات”، والآن “اللجنة الدستورية”، هل كانت فرادى أو مجتمعة على قدر المسؤوليات والتحدّيات الكبرى التي تطلّبتها الثورة السورية؟ وأي معنى لـ”عملية إصلاح” أو “تيار إصلاح”، ضمن مؤسسة لم تكن في المحصلة سوى إحدى أدوات الإفساد السياسي والمالي للقضية السورية؟
والكلام عن دور القوى الإقليمية والدولية في إفشال الائتلاف لا يكفي لتفسير بؤس أحواله أو يعفيه من تحمل قسطه من المسؤولية، أليست القضيّة قضيّته، كما يدّعي. ولو توفّرت مكوّنات الائتلاف وقواه المتنفّذة على قدرٍ من النزاهة والحس بالمسؤولية الوطنية عوض المطامع الفئوية، وأدركت أهمّية الحفاظ على الاستقلالية، لما انتهت إلى الارتماء في أحضان هذه الجهة الإقليمية أو تلك، وارتهنت لها على حساب دماء الشعب السوري وثورته المنكوبة.
اللافت بعد كل ما جرى ويجري، ورغم الانتقادات الواسعة له في الأوساط الشعبية السورية طيلة سنوات، والتساؤل المحقّ عن جدوى استمراره بعد فشله المزمن في تمثيل القضية السورية، وفضائح الفساد المالي والإداري فيه، أنّ أصحاب الائتلاف ورعاته ما زالوا يعدّونه “الممثل الشرعي” للمعارضة السورية. وفي معرض تبرير وجوده والتمسّك ببقائه، فإن أكثر ما يتردّد هو الحديث عن “غياب البديل”، ومن ثمّ “الفراغ السياسي” الذي سينجم عن حلّ الائتلاف، وفق قولهم، وأنّه بمثل ما لدى نظام الأسد عنوان معلوم، ينبغي أن يبقى للمعارضة السورية عنوانها أيضاً، ويقصدون الائتلاف طبعاً.
لقد فاتَ القائلين بهذا الرأي، أن حالة التفكّك والفساد والارتهان التي هيمنت على “مؤسسات” المعارضة (إذ صحّ أنها مؤسسات بالفعل)، وفي مقدّمتها ائتلاف اسطنبول وملحقاته، كانت من بين العوامل التي سهّلت على “المجتمع الدولي”، وعلى داعمي الأسد بطبيعة الحال، اجترار مقولة “غياب البديل عن النظام”، وأن “الأسد سيء، لكن ليس هناك بديل ناضج!”. ويظهر أن وقتاً طويلاً سيمضي، قبل أن تُطوى هذه الصفحة الكابوسية، ويُتاح للسوريين إنتاج بدائل عن نظام يفتك بهم، ومعارضة بائسة تتاجر بقضيّتهم.
---------------------
*كاتب وباحث سوري.