انعقد مؤتمر بغداد الإقليمي بصيغة مبتكرة تحت عنوان: “الشراكة والتعاون” بحضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورؤساء وملوك وأمراء ووزراء من الدول المجاورة للعراق باستثناء سورية ولبنان. وكان غموض الأجندة قد ميّز التحضيرات لهذا الحدث ورأى البعض فيه مبادرة من رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لتجاوُز صورة العراق المأزوم داخلياً والأسير للتجاذبات الخارجية، والقفز لاستعادة دور العراق الإقليمي والإسهام في التهدئة والتنمية الإقليمية وتنظيم الخلافات بين الأطراف المتنازعة.
بغض النظر عن نتائج هذه المناسبة ومخرجاتها، خطف هذا الحدث الأضواء في زمن تغييب الأدوار العربية، وكانت مشاركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لافتة، وأتت -حسب أوساطه- من أجل دعم السياسة الخارجية العراقية في المنطقة. وهذه هي الزيارة الثانية لماكرون إلى بغداد حيث سبق له أن زار العراق في سبتمبر ٢٠٢٠ ، وحينها دعم مبادرة السيادة العراقية ودور العراق في محاربة الإرهاب.
وهذا الاهتمام الفرنسي بالعراق ليس بالجديد، لأن هذا البلد كان من المرتكزات الإستراتيجية للسياسة الفرنسية في الشرق الأوسط خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وفي الفترة الأخيرة تعززت العلاقة الثنائية “الفرنسية – العراقية” على عدة أصعدة، وأخذت باريس تهتم بتطوير البنية التحتية العراقية وتطوير العلاقات الثقافية والعسكرية والاقتصادية والسياسية. ومن هنا كان اختيار الكاظمي للرئيس الفرنسي كي يترأس إلى جانبه المؤتمر الإقليمي، وفي ذلك مكافأة للدور الفرنسي الوسيط في منطقة حسّاسة تشهد الآن تراجُع الولايات المتحدة واختراق روسيا واهتمام الصين.
وإذا كان البعض ركز على مراقبة تشكيلة الوفدين الإيراني والسعودي وأفق الحوار بينهما، إلا أن سقوط كابول في أيدي طالبان في موازاة الانسحاب الأمريكي، أوجد مناخاً جديداً للنقاش في سياق فك الارتباط العسكري الأمريكي عن الشرق الأوسط، وتزايد التساؤلات حول رغبة واشنطن في الاستمرار في لعب دور الضامن للأمن الإقليمي.
يجدر التذكير أن الولايات المتحدة خفضت في عهد ترامب من التزامها تجاه العراق إلى 2500 جندي – من أجل الإبقاء على جهد في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية. لكن لا يمكن مقارنة العراق وأفغانستان، ولذا شدد ماكرون، بعد لقائه برئيس الوزراء الكاظمي، على بقاء القوات الفرنسية ما دامت بغداد ترغب بذلك، وأكد تمسُّكه باستقرار العراق، الأمر الذي يتطلب استمرار القتال ضد داعش وإعادة الإعمار وبناء الدولة. واللافت كان الحضور البارز في المؤتمر الإقليمي للرئيس المصري والعاهل الأردني (الشريكين في محور الاعتدال العربي للعراق) وأمير قطر وكذلك رئيسَا الحكومة الكويتي والإماراتي ووزراء خارجية المملكة العربية السعودية وإيران وتركيا إضافة إلى ممثلي الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي.
من خلال هذه المشاركة الإقليمية الواسعة والحضور الفرنسي على أعلى مستوى، تراهن باريس على العراق وأهمية تحصينه ودوره الإقليمي.
يأتي هذا الرهان الفرنسي على العراق كي يتجاوز حبسه في قفص التقاطع أو التجاذب “الأمريكي – الإيراني” كما الحال منذ ٢٠٠٣. والملاحظ أن واشنطن لم ترحب ولم تسعَ لتقويض المؤتمر، بينما اقتصر الحضور الإيراني على وزير الخارجية الجديد حسين أمير عبد اللهيان وفي ذلك إشارة واضحة لانزعاج من عودة العراق بقوة إلى الساحتين الإقليمية والدولية. وكان من اللافت خلال المؤتمر انتقال وزير خارجية إيران من مكانه المخصص له بين الوزراء في الصف الثاني إلى الخط الأول المخصص للملوك والأمراء والرؤساء بطريقة تشبه تماماً سلوك بلده في الداخل العراقي وقفزها المستمر على السيادة والأعراف والقوانين العراقية، كأن طهران تنظر إلى العراق دوماً كدولة فاقدة للسيادة.
ومن الواضح أن عدم دعوة سورية إلى المؤتمر يعتبر فشلاً لإيران، لكنها اضطرت للتسليم به إذ إن الرئيس الفرنسي ربط مشاركته بعدم حضور الرئيس السوري الذي “لا ينفذ قرارات الأمم المتحدة ولا يقبل الحل السياسي” وبالرغم من ضغط “الحشد الشعبي” في العراق، لم يشأ مصطفى الكاظمي جعل بلده معبراً لإعادة تأهيل الأسد دبلوماسياً وهو الذي يعرف مدى الانعكاسات عليه وعلى دور العراق، ولأنه من خلال عمله سابقاً في المخابرات العراقية يعلم جيداً الدور السلبي لنظام دمشق ضد بلاده على مر السنين. وتمثل هذه النكسة للنظام السوري ضربة لجهود عمان والقاهرة وموسكو في هذا الإطار، وتؤكد على أن واشنطن والعواصم الأوروبية سيصعب عليها التطبيع مع الأسد لأنها لن تحافظ إطلاقاً على ماء الوجه نتيجة سجل النظام وانتهاكاته المستمرة. بيد أن هذه المعطيات لم تقنع المعسكر الموالي لإيران الذي يبيت “عقاب الكاظمي” في الانتخابات القادمة بسبب هذا “الخطأ الجسيم”. وفي نفس السياق دفع لبنان ثمن ربطه بالمحور الإيراني وشكَّل غيابه عن مؤتمر بغداد (الأرجح أن الكاظمي تجنَّب دعوة بيروت وربط ذلك بعدم دعوة دمشق) درساً قاسياً للحكم اللبناني الحالي الذي تسبَّب سلوكه بإبعاد لبنان عن هذا المنتدى الإقليمي المهم.
واليوم مع مؤتمر بغداد وبعد انتفاضة أكتوبر الوطنية يؤمل بتراجع مشروع إيران الاستحواذي السياسي والاقتصادي والقاضي بتحويل “بلاد الرافدين” امتداداً اقتصادياً وإستراتيجياً للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وأخذت تظهر في المقابل علامات إحياء دور العراق العربي وفق مشروع وطني إنقاذي يسمح لبغداد بأن تكون يوماً نقطة تقاطُع وتوازُن بين العالم العربي وجوارَيْهِ الإيراني والتركي وفي القلب من مشروع نهضوي تنموي عربي طال انتظاره.
-----------
نداء بوست
عيون المقالات
حلقة برباغندا إيران انتهت مدة صلاحيتها
26/11/2024
- د. منى فياض
الفرصة التي صنعناها في بروكسل
26/11/2024
- موفق نيربية
(هواجس إيران في سوريا: زحمة موفدين…)
24/11/2024
- محمد قواص
مستقبل لبنان بعهدة شيعته!
23/11/2024
- فارس خشان
هل تخشى إيران من الأسد أم عليه؟
23/11/2024
- ضياء عودة
المهمة الفاشلة لهوكستين
23/11/2024
- حازم الأمين
نظام الأسد وحرب النأي بالنفس عن الحرب
21/11/2024
- بكر صدقي
الأسد الحائر أمام الخيارات المُرّة
17/11/2024
- مالك داغستاني
العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب
17/11/2024
- العميد الركن مصطفى الشيخ
إنّه سلام ما بعده سلام!
17/11/2024
- سمير التقي
تعيينات ترامب تزلزل إيران ورسالة خامنئي للأسد تتعلق بالحرب التي لم تأتِ بعد
17/11/2024
- عقيل حسين
هذا التوجس التركي من اجتياح إسرائيلي لدمشق
16/11/2024
- عبد الجبار عكيدي
السوريات في الحياة الأوروبية والتجارب السياسية
15/11/2024
- ملك توما
هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟
13/11/2024
- أمين قمورية
بشـار الأسـد بين علي عبدالله صـالـح وحسـن نصر الله
13/11/2024
- فراس علاوي
“وقف الحروب” اختبارٌ لترامب “المختلف”
13/11/2024
- عبد الوهاب بدرخان
( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )
13/11/2024
- عبد الباسط سيدا*
قنبلة “بهتشلي”.. ماذا يحدث مع الأكراد في تركيا؟
13/11/2024
- كمال أوزتورك
طرابلس "المضطهدة" بين زمنين
13/11/2024
- د.محيي الدين اللاذقاني
حين تمتحن سورية تلك النبوءات كلّّها
12/11/2024
- ايمن الشوفي
|
إشارات وخُلاصات مؤتمر بغداد الإقليمي
|
|
|