في ردها على اتهامها بأنها وحشية وخطيرة، ردت تقول: «أنا أتكلم الحقيقة والحقيقة هي وحشية وخطيرة»، لكنها تكلمت رحمها الله في عالم يكره الحقيقة، في بقعة من الأرض تكنس الآلام والمآسي، خصوصاً تلك الخاصة بالمرأة، أسفل سجادة الستر. نحن مجتمعات تحمد تكريم المرأة في أعرافها صباحاً، وتهينها وتضربها وتغتصبها وتعبث بغريزتها وتكسر كرامتها ليلاً. المهم السمعة، طالما بقينا نكرر المرأة مكرمة، والمرأة جوهرة، وهي «الأم والأخت والزوجة»، هذه الجملة الكريهة ذات الرائحة البائتة، فنحن بخير ولا نحتاج لفتح الملفات، كل ما نحتاجه هو أن ندسها أسفل السجادة، وكأنها لم تكن.
لكن السعداوي فتحت الملفات، السعداوي ناقشت المحظور، السعداوي وضعت الآلام والمعاناة والصرخات والانتهاكات في بؤبؤ العين، فلم يحتمل هذا العالم العربي «الرقيق»، لم تتحمل كرامات الرجال ولم تتماسك مشاعر النساء، فانصب جام غضبهم، ليس على المعتدي أو المنتهك أو المغتصب، ليس على القوانين الجائرة والأعراف البائدة والقراءات الدينية القديمة، ولكن على نوال، تستاهل، لماذا ذكرتنا؟ من يطرق الباب يأته الجواب، هكذا يقول لها شرقنا الأوسط المريض. وكأني بها رحمها الله، لا تزال وقد غادرتنا روحها، تطرق الأبواب، رغم كل الإجابات الرديئة، بلا كلل ولا ملل.
ولأنها رحمها الله تلجم الأفواه بصراحتها وبحدة نقدها وبإلحاح المواضيع التي تطرحها، ولأنه لا ردود منطقية أو عقلانية تناهض طرحها، تحول المجتمع مؤخراً إلى تهمة جديدة: مساندة النظام. نوال السعداوي التي عانت الأمرين تحت الأنظمة المصرية المتلاحقة، التي سُجنت في عصر السادات، وهُجِّرت في عصر مبارك، ونزلت في عمر الثمانين لميدان التحرير مشاركة في الثورة، يدعي اليوم كارهوها مساندتها للنظام، بل إن من التعليقات التي وصلت على وسائل التواصل أنها أيدت الكشف عن عذرية المتظاهرات في ادعاءات رخيصة متواصلة لا هدف منها سوى تشويه صورة امرأة قالت لهم الحقيقة في وجوههم القبيحة.
وها هو مقال السعداوي الذي يناهض عملية الكشف البشعة تلك، بل إن السعداوي من أقوى المناهضات لفكرة العذرية الأسطورية أصلاً، ولها من الأحاديث حول غشاء البكارة ما لم يجرؤ على قوله أعتى فحول الشرق الأوسط، فكيف يتم الكذب على هذه المناضلة بهذه الأريحية المريضة؟ ولأن السعداوي ظهرت في مقابلة ترفض الحديث عن السيسي أو مصر سلباً بعد شعورها أن المذيعة تقسرها على هذا الاتجاه، ولأنها في مقابلة أخرى قالت إن النظام الحالي أفضل من سابقيه في تعامله مع قضايا المرأة، ولأنها في مقابلة ثالثة قالت إن ما حدث في يونيو لم يكن انقلاباً، اتهمت مباشرة بأنها مع النظام، رغم وضوح موقفها كما هو مبين في هذه المقابلة، وتحديداً في آخر ثوان منها، ليس فقط تجاه النظام الحالي، بل تجاه أي نظام حاكم بالعموم حيث علقت: «أنا شخصية ما بتمشيش مع القطيع».
قد نتمنى على هذه المناضلة الثمانينية في وقتها أن تكون أعلى صوتاً في نقد النظام أو أوضح تصويراً لما حدث في يوليو، لكن رأيها المعلن، وإن كان استحيائياً، لا يضعها في خانة موالاة النظام مطلقاً. هي ذكرت له بعض ما اعتقدته حسنات في رأيها، لكنها وقفت مناهضة للنظام ولكل نظام بوضوح في الواقع. ويبقى أن هذه المعركة السياسية ليست معركتها أصلاً، هي معركتها نسوية حقوقية، فإن كان لها موقف سياسي متوار، في عمرها المتقدم الذي شاركت به ورغماً عنه في ثورة يناير، فهو لا يمحو نضالاتها الطويلة التي يجب أن يتصدر الامتنان لها أي كلمة تقال عنها اليوم.
هذا هو مصير كل امرأة تتحدث بوضوح وصراحة عما أسفل سجادة الستر، أن تطعن حية وميتة، أن يتناولها الناس لحماً ويرمونها عظماً. المطلوب أن تبقى بنات جنسنا تعاني بصمت أو يتم الدعوة علينا أن نحشر معاً بعد الموت. لعله الخلاص من دمامة نفاق هذا المجتمع ومن فقر علمه وتفكيره أن نحشر بعيداً عنه، في جنة العدل والإنسانية مع نوال بعيداً عن نار النفاق والجبن والتخاذل.
رحمك الله أيتها المناضلة، نوال السعداوي، وأحسن مأواك.
---------
القدس العربي
ترجمات ودراسات
الجهات الأربع
|
عيون المقالات
حلقة برباغندا إيران انتهت مدة صلاحيتها
26/11/2024
- د. منى فياض
الفرصة التي صنعناها في بروكسل
26/11/2024
- موفق نيربية
(هواجس إيران في سوريا: زحمة موفدين…)
24/11/2024
- محمد قواص
مستقبل لبنان بعهدة شيعته!
23/11/2024
- فارس خشان
هل تخشى إيران من الأسد أم عليه؟
23/11/2024
- ضياء عودة
المهمة الفاشلة لهوكستين
23/11/2024
- حازم الأمين
نظام الأسد وحرب النأي بالنفس عن الحرب
21/11/2024
- بكر صدقي
الأسد الحائر أمام الخيارات المُرّة
17/11/2024
- مالك داغستاني
العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب
17/11/2024
- العميد الركن مصطفى الشيخ
إنّه سلام ما بعده سلام!
17/11/2024
- سمير التقي
تعيينات ترامب تزلزل إيران ورسالة خامنئي للأسد تتعلق بالحرب التي لم تأتِ بعد
17/11/2024
- عقيل حسين
هذا التوجس التركي من اجتياح إسرائيلي لدمشق
16/11/2024
- عبد الجبار عكيدي
السوريات في الحياة الأوروبية والتجارب السياسية
15/11/2024
- ملك توما
هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟
13/11/2024
- أمين قمورية
بشـار الأسـد بين علي عبدالله صـالـح وحسـن نصر الله
13/11/2024
- فراس علاوي
“وقف الحروب” اختبارٌ لترامب “المختلف”
13/11/2024
- عبد الوهاب بدرخان
( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )
13/11/2024
- عبد الباسط سيدا*
قنبلة “بهتشلي”.. ماذا يحدث مع الأكراد في تركيا؟
13/11/2024
- كمال أوزتورك
طرابلس "المضطهدة" بين زمنين
13/11/2024
- د.محيي الدين اللاذقاني
حين تمتحن سورية تلك النبوءات كلّّها
12/11/2024
- ايمن الشوفي
|
أمة تأكل نساءها
«ليحشرك الله معها»، هكذا كتب «لوبي الدفاع عن الدين» على وسائل التواصل رداً على تعزيتي في المناضلة نوال السعداوي، وهكذا سيكون مصير كل النساء العربيات اللواتي يتجرأن فيتناولن التابوهات المحتكرة، ممارسة ونقداً وتداولاً، على الرجال. هكذا سيؤبننا هذا الشرق الأوسط الحاقد على نسائه، أن إلى النار وبئس المصير.
|
|