نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


أربع نصائح قبل أن تركب سيارة الترحيلات




كان المشهد أمام مستشفى الجلاء للولادة بشارع الجلاء جديدا تماما. مظاهرة طازجة احتجاجا على إبادة الفلسطينيين في غزة. طبيعي أن تنبت المظاهرات في الجامعات والميادين وحول مثلث الرعب «نقابتي الصحفيين والمحامين ونادي القضاة» في وسط البلد. لكن شارع الجلاء ـ الذي فيه يولد فيه الناس، وفيه يقتلون ـ لا عهد له بالمظاهرات، بالذات أمام مستشفى تعودنا أن تولد أمامه سيارات الأجرة والفوضى والتلوث والزحام. قلت لبهاء حسين متفائلا: لا غزة ستموت، ولا الأمل هنا.


كنا قادمين من اتحاد الكتاب، بعد المشاركة في وقفة احتجاجية صامتة، لا يحتمل حي الزمالك إلا مثلها من فرط هشاشته وأرستقراطيته. سلمت على بهاء طاهر وقاسم عليوة الذي قال لي بأسى إنه رأى في ميدان التحرير، قبل ساعتين، عناصر الشرطة تضرب فتاتين، وتدفعهما بالقوة إلى داخل سياراة الترحيلات. لم أتخيل أن يزج بي في سيارة مماثلة بعد دقائق.
فبعد عبور شارع الجلاء بسلام الله، بلغنا شارع رمسيس، وشاهدنا مظاهرات نوعية، تحدث في مصر لأول مرة، شبيهة بما يدور في حروب العصابات، في فيتنام في الستينيات، وجنوب لبنان 2000 و2006، وغزة 2008 و2009. يتظاهر عشرون مواطنا أو أقل، فيحيط بهم العشرات من جنود الشرطة، يطبقون على أنفاسهم، يعتصرونهم عصرا. يختنقون ويخرجون نافضين رؤوسهم باحثين عن بعض الأوكسجين، ويهتف أحدهم بحياة فلسطين، فينضم إليه عابرون، ويكون آخرون من الناجين من معصرة الشرطة قد هتفوا، بلا اتفاق، في مكان آخر، فيجذبون إليهم مواطنين، وتنقسم المظاهرة الأولى الصغيرة إلى مظاهرات عنقودية تتوالد تلقائيا، بإبداع يعجز عن ملاحقته خيال ضباط الشرطة، وسوف أحدثك عن هذا الخيال المنقوص.
حاولت دخول شارع عبد الخالق ثروت. قال لي ضابط كبير «ممنوع»، لم يكن لدي وقت لأفهمه أن حظر التجول في هذا الشارع غير قانوني ولا دستوري، لا المقام يسمح، ولا مرارتي تحتمل، ولا هو مستعد. قلت له إنني أريد دخول «نقابتي»، حين جاء لواء شرطة، مزهوا بصقرين وأربعة سيوف متقاطعة على كتفيه، قلت مرة أخرى إنني ذاهب إلى النقابة، ولكن ماذا تقول لمن حرمه الله نعمة الخيال، وسلبه البصيرة، حتى إنه يخاف أن يقوم كاتب، أو صحفي، أو مواطن عابر، بإشعال فتيل مظاهرة أمام نقابة الصحفيين، في شارع يخلو من أي مخلوق. لو افترضنا أن هذا الإنسان سيء النية، وأن نفسه الأمارة بالتظاهر سولت له ارتكاب فعل الصراخ في الشارع، فلن يسمعه أحد، سيرهقه الهتاف، ثم يلجأ إلى النقابة، أو يأوي إلي ركن شديد.
أقترح ألا يتخرج أحد في كلية الشرطة إلا بعد النجاح بتفوق في مادة الخيال. ما الجريمة التي يمكن أن يرتكبها عشرات المواطنين في معرض الكتاب مثلا، داخل أسوار عالية، لكي تحاط أرض المعارض بعشرات المصفحات، وتصطف داخل المعرض 21 سيارة مصفحة، وتضخ في المكان مئات أو آلاف من الجنود، كأننا مقبلون على حرب، قل هذا الكلام فيما يخص الجامعات والنقابات. لو تمتع صاحب السعادة والصحة الوافرة اللواء المتين ببعض الخيال لسمح لي بالمرور، بدلا من مشادة وشجار انتهى بانصرافه هو وأكثر من عشرة من ضباطه عن «واجبهم المقدس» تجاه متظاهرين مسالمين، لينفسوا عن بعض ما يعانونه من كبت.
لو أنك مكاني، وأحاطك الضرب من كل جانب، فسوف تحاول أن تحمي رأسك بيديك، وتوسع زاوية ساقيك لتتفادى السقوط على الرصيف. فماذا تفعل حين تفاجأ بضربة حذاء غبية من ضابط أكثر غباء في «محاشمك». بتلقائية وضغت يدي بين فخذي، فجاءت الضربة التالية في الوجه، وسقطت النظارة، وفي ضباب الرؤية، كان زجاج العدستين يتناثر على الأسفلت.
بعد خروجنا من اتحاد الكتاب، قلت لبهاء حسين إنني أود الذهاب إلى الحمام، نصحني بالعودة إلى الاتحاد ففيه منافع للناس، وراهنت على سرعة وصولنا إلى وسط البلد، ولو كنت أعلم خاتمتي ما كنت رفضت؛ إذ ظللت أكثر من أربع ساعات تالية أعاني. وهذه أولى النصائح لأي مواطن في مصر:
«لا تؤجل دخول الحمام»
فلا يعلم إلا الله أي سيارة ترحيلات يمكن أن يدفع بك إليها، ولا متى يفتح بابها ليسمح لك بالتبول بجوارها، على مسؤولية ضابط رحيم، لا يملك لك غير هذا الكرم. كان شعار الشرطة لسنوات: «الشرطة في خدمة الشعب»، وبعد بولسة الدولة صار الشعار: «الشرطة والشعب في خدمة الوطن» يعني الحاكم وحده لا شريك له، وأقترح أن يستبدل بهذا الشعار الأخير شعار جديد: «تبول يا أخي قبل القبض عليك».
لحظة جذبني شرطيان يرتديان الملابس المدنية، لعنت كل شيء.. الفلسفة والتاريخ والرواية والقانون والصحافة، وفقيها دستوريا تحمس لحكم العسكر فكان أول ضحاياهم وضربوه بالحذاء عام 1954، والدستور الذي يداس بالحذاء، والضابط الذي ضربني في موضع الرجولة، وآخرين «نقطوا في الفرح» مجاملة للواء، وكسروا النظارة وضلوعي. مشهد يتطابق لقطة بلقطة مع ما تراه كل أسبوع في القدس، بين جنود الاحتلال الصهيوني وقاصدي المسجد الأقصى لصلاة الجمعة، فمتى احتل هؤلاء الناس بلادي؟ تذكرت أن اليوم هو الأربعاء 31 ديسمبر 2008، وأنه قبل خمسين عاما بالضبط، استقبلت المعتقلات عشرات من المفكرين، احتفلوا ببشائر 1959 في سجون لم يغادروها إلا بعد سنوات. تذكرت أنني وعدت أصدقاء عرب في هولندا أن أهاجر إليهم إذا آلت السلطة، غصبا أو طواعية، لجمال مبارك، وقلت لنفسي: ربما جاءت الحجة للرحيل عن بلد ليس فيه رجاء، فلامني صلاح جاهين، وراهنني على أن أغادر مصر:
أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء
باحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب
وباحبها وهي مرمية جريحة حرب
باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء
واكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء
واسيبها واطفش في درب وتبقى هي ف درب
وتلتفت تلقيني جنبها في الكرب
والنبض ينفض عروقي بألف نغمة وضرب
على اسم مصر.
أما نجيب سرور فرمقني غاضبا، وشاط حجرا فوق الرصيف فانفتق بوز حذائه، وبك الدم من إصبعه، وسألني: معك منديل؟ قلت إنهم أخذوا كل شيء كما ترى. قال: سيتنهي احتلال مليون شرطي لمصر، سيجند هؤلاء يوما في جيش مصر الطبيعي. انتحر أحسن لك من حكاية الهجرة، عايز تسيب مصر وهي محتلة؟ مصر «في الجغرافيا ما لها مثيل، وفي التاريخ عمرها ما كانت التانية». قلت له: عندك حق يا عم نجيب، سنبقى في هذا البلد، نحن أهله، ولسنا سكانا عابرين، سنظل مثل فلسطينيين يلتصقون بأشجار الزيتون، غير عابئين بالجرافات الإسرائيلية، سنطلق صيحة عمر المختار: «ننتصر أو نموت». لن أبرح هذه الأرض، حتى لو بقيت عضوا بالجالية المصرية في القاهرة.
دفعوني إلى ميكروباص بين اثنين أشداء يقبض كلاهما على ذراع، أشرت إلى الباب المغلق، مبديا حسن النية، لأتحسس موضع الضربة القاتلة، وأخذا التليفون والبطاقة، لثالث يجلس في مقدمة السيارة بجوار السائق، يسجل بياناتي الشخصية: عنواني وتاريخ ميلادي المجيد، وسألني عن مهنتي. لولا الألم بين فخذي، لضحكت كما لم يفعل عادل خيري وهو يجيب عن سؤال ماري منيب: «سواق يا هانم سواق»، فالبطاقة معه وفيها نوع المهنة. أجبت فسألني: أين أعمل. أضحك هذه المرة من الغباء، لا الأسى، لأن البطاقة فيها أنني أعمل في الأهرام.
تكررت هذا الاستجواب، بعد انطلاق الميكروباص، من شارع جانبي إلى شارع شامبليون، مرورا بالنقابة وشارع عبد الخالق ثروت، ليزج بي في سيارة الترحيلات، أعاني العطش، ومن الزحام يتصبب العرق، في عز البرد. والنصيحة الثانية:
«احتفظ دائما بزجاجة مياه في يدك»
فلا تعرف متى يفتح باب السيارة، كما أنها تفيدك في الدفاع عن نفسك، وإرباك شرطي جهول، ومرواغته في شارع جانبي، حتى تتمكن من الهرب، وإذا نجوت بها فهي زاد مهم في الطريق إلى المعسكر.
كانت سيارة الترحيلات أرحب من الوطن. قدرت أن تتزلزل الأرض، حين يعي كل منتم إلى مؤسسة أن الخطر قريب منه، وأنه ليس معصوما من مثل هذا المصير، وكان خيالي واسعا؛ فباستثناء اتصالات أجراها، بمحبة حقيقية، كثير من الأصدقاء والزملاء، لم يحدث شيء. كنت واهما حين ظننت أن ورائي مؤسسة تحميني، ونقابة تغار على أحد أبنائها، تغار على المهنة. تأكد لي أنه لا أحد كبيرا بموهبته وقدراته في هذا البلد، وحده اتصل بي محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب ليطمئن، بعد ساعة من مغادرة المعسكر.
فكرت في الجريمة، ولم أجد شيئا أعاقب عليه. لم أقطع شجرة، ولم ألوث ماء النيل، ولم أمزق صورة السيد الرئيس محمد أنور السادات بطل الحرب والسلام، ولا صورة السيد الرئيس محمد حسني مبارك بطل الحرب والحصار. ما تعرضت له جريمة في حق كل مؤسسة أنتمي إليها، على اتحاد الكتاب ونقابة الصحفيين مطالبة وزير الداخلية بالاعتذار، ولي أن أقبل أو أرفض. فكرت في اللجوء إلى القضاء. الرئيس مبارك، هو المسؤول، ولكني لن أختصمه، لأنه رجل مسن (81 عاما)، وليس من اللائق أن أتعبه في شيخوخته. ولن أختصم رئيس الوزراء، لأنه رجل طيب تورط في هذه المهمة، حين أسندوا إليه مناقصة رئاسة وزراء مصر بالأمر المباشر، ويومها صرح بأنه «مالوش في السياسة». ولن أختصم وزير الداخلية، ولا اللواء الذي أمر بضربي وأشرف على عملية «الصيد»، وأهان نقابة الصحفيين واتحاد كتاب مصر. لن أشرفه بأن يقترن اسمه باسمي. أنا باق والنظام نفسه زائل.. أعني النظام لا الحكومة. ما أكتبه الآن «كلام موزون وله معنى»، يصلح للقراءة اليوم وبعد خمسين سنة، أما اللواء فسيحال للتقاعد بعد شهر أو أشهر، وسيعاني مثل أي مواطن، ويحار في بعض الأمور، ولن يجد المفتش كورومبو ليحل له بعض الألغاز، وحين يضايقه موظف المعاشات سيكتب شكوى، للنشر في بريد القراء، ويمر من شارع عبد الخالق ثروت، ويحصره البول، ويمسح عرقه بورقة الشكوى، ويريد التماس بعض الراحة في الظل، سيكون أشعث أغبر، يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، ويمنعه موظف الأمن في النقابة، وهو يطيل الحوار مستمتعا بهواء بارد آت من الداخل، لكن البول يحصره. سأقول للموظف: دعه يدخل، الحاج في سن والدك، ولم يفعل شرا في حياته، ولا شهد هذا الأسفلت أذى شارك فيه وأشرف عليه. سأدخله وأطلب له «حاجة ساقعة»، ربما ينبهني إلى أنها محظورة عليه، وأن الشاي أفضل، سأدله على الزملاء المشرفين على أبواب شكاوى القراء، ولن أمنحه شرف المجالسة.
كانت سيارة الترحيلات أوسع من الوطن. السيارة، لا أركبكها الله، برزخ بين عالمين، قبر له باب مزدوج، باطنه فيه الرحمة حيث يوجد رفاق مثل الورد.. إخوان، ومدونون، ومدرسون، هي زنزانة متحركة مستحيل أن تفر منها إلا إليها، لها نوافذ صغيرة جدا تغلق من الخارج، وسط النافذة تتعامد قضبان حديدية، تحيط بها من الداخل والخارج ستارتان من حديد متقاطع، لا يسمح فقط إلا بمرور أنبوبة قلم جاف، أو ورقة مبرومة بعناية. كتبت رقم تليفون في ورقة وبرمتها ودفعتها للخارج فأبت السقوط في الشارع، ظلت معلقة في الهواء، وأنا أنادي العابرين: «يا كابتن، يا كابتن». كان في المساحة بين ستارتي الحديد أوراق تجمدت، وطمس المطر والرياح ما فيها من حروف وأرقام، كم من فصل مر على هذه الأوراق المطوية على أشواق مصريين أبرياء. فيما بعد لاحظت أن ارتفاع هذه النوافذ يزيد على المترين، وهذا سر عدم التفات أحد من المارة الذين لا يرون مصدر الصوت.
كنت أنادي أي أحد ليلتقط الورقة، وكان زميل ينادي الضابط: «الكوفية يا بيه»، وينادي آخر: «الجزمة»، إذ دفعوا به للسيارة بعد مطاردة انتهت بأن داس أحدهم قدمه، ولم يبالوا بأن يرتدي حذاءه المخلوع. قال لي إنه اشتراه بخمسة وستين جنيها قبل يومين. قلت له: يكفي أن معك فردة لتصنع منها نسخة. ضحك وضحكنا. والنصيحة الثالثة:
«احرص على حذائك حرصك على شرفك»
فلا تعرف متى يفرج عنك، ولا تضمن أن تتهم بالتحريض على رفع الحذاء في المظاهرة، فوق صورة كبير من الكبراء، ولن يعترفوا بأنهم سلبوه، كما أخذوا تليفون إحدى الصحفيات، ولم يكن هناك ما يثبت أنهم نشلوه. داخل السيارة لن تشعر بغربة، سوف تستعيد أناشيد حماسية للإخوان، هي نفسها التي كانوا يرددونها أيام الجامعة، ويردد آخرون أشعار مظفر النواب، وأغنيات سيد درويش والشيخ إمام ومحمد منير. يقول أحدهم «إنهم» ألغوا حفل محمد منير الليلة (رأس سنة 2009)، ليس تعاطفا مع ضحايا المجازر الإسرائيلية في غزة، بل خوفا من تحوله إلى مظاهرة مناهضة للنظام في دار الأوبرا، بدليل «أنهم» لم يلغوا حفل المغني الذي تهرب من أداء الخدمة العسكرية. والنصيحة الرابعة:
«احفظ بعض الأغنيات، تخفف بها عن نفسك، وتهزم مهزوما خارج السيارة»
تحولت السيارة إلى مركز اتصالات، إذ تمكن شاب، في الوغى، من الاحتفاظ بتليفونه، وقدمه لمن يريد من دون مقابل، حتى نفد الرصيد، فأتته أرصدة من حيث لا يحتسب، وتواصلت الاتصالات. تذكرت رقمي حمدي عبد الرحيم وأسامة عفيفي، أبلغتهما أنني في سيارة تتهادى في الشوارع، منذ أربع ساعات، ولا أعرف متى تصل، ولا إلى أين. ثم كانت المحطة الأخيرة في معسكر لتدريب الشرطة، في الرحاب أو طرة، ففي الظلام تتشابه الأماكن والملامح. بعد ساعة من الانتظار سمح بالهبوط، بجوار السيارة لقضاء الحاجة، فاصطف الجميع ليطفئوا الحرائق.
أما النصيحة الخامسة فهي ليست لك، إلا حين تصير رئيس دولة، وقتها يجب أن تحرص عليها، ليدوم عزك وعرشك. أعلم أن الرئيس مبارك لا يصبر في هذه السن على القرءة، وأن هذه السطور منشورة بخط صغير، لكن قراءتها مهمة، وأريد البدء بمدخل تاريخي؛ فحين استولى هولاكو على بغداد، (عام 1257 ميلادية، 655 هجرية) ذهب إلى قصر الخلافة، إلى المنطقة الخضراء، وسيق إليه الخليفة العباسي المستعصم، وأرشد الغزاة إلى خزائن الأموال وحوض مملوء بالذهب وسط القصر، لكن هولاكو لم يقنع بذلك، وأمر بحرمان المستعصم من الطعام حتى شعر بالجوع، فقدم إليه هولاكو طبقا مملوءا بالذهب. قال الخليفة: «كيف يمكن أن آكل الذهب؟»، فرد عليه هولاكو: «ما دمت تعرف أن الذهب لا يؤكل، فلم احتفظت به، ولم توزعه على جنودك، حتى يصونوا ملكك الموروث من هجمات هذا الجيش المغير؟ ولماذا لم تحول تلك الأبواب الحديدية إلى سهام، وتسرع إلى شاطئ نهر جيحون لتحول دون عبوري؟»، فقال الخليفة: «هكذا كان تقدير الله»، فرد عليه هولاكو: «وما سوف يجري عليك إنما هو كذلك تقدير الله»، وقتل الخليفة، وانتهى أمر الخلافة.
يمنعني الأدب أن أقول إن اعتقال الشعب كله لا يضمن دوام الملك، وإن مليونا من رجال الشرطة يجب أن يصونوا الشعب والملك من هجمات الجيش المغير، كما قال الهالك هولاكو في وصاياه.
والآن أريد أن أقص عليك حكاية، ليست تاريخية ولا هولاكية؛ فمنذ بدأت ابنتي «ملك» تعي، وهي تفاجئني بأسئلة عن أمور ظننتها بديهية أحيانا، وأحار في الإجابة عن بعضها. أحاول أمامها تجنب أي كلام مجرد، لأنها سوف تسألني مباشرة: «يعني ايه؟» عن شخص أو مكان أو موضوع. مصادفة سمعت «ملك» كلمة مصر، في نشرة تلفزيونية يوم 3/2/2006. كانت تقريبا قد أتمت أربعين شهرا، فسألتني:
ـ «يعني ايه مصر؟»

قلت لها:

ـ «مصر هي بلدنا، اللي احنا عايشين فيها»

فسألتني في براءة:

ـ «هي فين، أنا مش شايفاها»

سيادة الرئيس: ملك، ابنتي لا ترى مصر. أليست هذه مأساة تستحق الاهتمام؟!

ــــــــــــ
القاهرة - صوت الامة

سعد القرش
الاحد 15 مارس 2009