يصادف ، 3 أبريل/ نيسان، ذكرى وفاة الشاعر والأديب السوري محمد الماغوط أحد أهم شعراء قصيدة النثر في الوطن العربي
وبهذه المناسبة صدر قبل أيام، الطبعة الثانية من الكتاب السردي المميز “رسائل الجوع والخوف في حياة محمد الماغوط” من تأليف شقيقه الأصغر عيسى الماغوط وهو عبارة عن مذكرات للشقيقين عن حياتهما الاجتماعية والعائلية والأدبية.
الميل إلى العنف ورفض الواقع
يكشف عيسى الماغوط عن جوانب خفية ومهمة من سيرة أخيه الأكبر، وعن الظروف القاسية التي أحاطت بطفولته وصباه المبكر، إذ تظهر في هذا الكتاب الخلفية الاجتماعية البائسة لحياة الشاعر، الذي اضطر بسبب العوز الشديد للعائلة إلى ترك مقاعد الدراسة للالتحاق بأحد المدارس الزراعية، دون أن تمكنّه موهبته الشعرية والنثرية من الانتقال إلى ضفة الثراء والرفاهية. وإذ يحرص المؤلف على إظهار الجانب القاسي من سلوك الماغوط الذي اتسم منذ الطفولة بالميل إلى العنف والعراك مع الآخرين، فإنه يحرص بالقدر نفسه على ربط ذلك السلوك برفض أخيه الأكبر الواقع الصعب والمهين الذي عاشه منذ صغره، وهو ما دفع به إلى الثأر لكرامته المجروحة، لا عبر شعره “البري” المتفرد فحسب، بل عبر قدر غير قليل من المزاج المتقلب حنوّاً وعصفاً، ومن فائض العنف الذي كانت علاقته بزوجته أبرز ضحاياه.سبعون عاماً من الجوع!
يقسم عيسى الماغوط كتابه إلى قسمين، أولهما يسرد فيه بلغة رشيقة وأسلوب مشوق قصة طفولته مع أخيه، ومن ثم انقطاعه عنه لسنين طويلة وعودته “ممرضاً” ومعتنياً بشقيقه الكهل.في الكتاب العديد من الرسائل التي كان الماغوط يرسلها إلى شقيقه في السلمية. وهو كتابٌ ممتعٌ يقدم صورةً حية لكاتبٍ وشاعرٍ ومسرحيّ مثّل عصره ومجتمعه أفضل تمثيل.
يقول عيسى إنه بعد أكثر من سبعين عاماً من الجوع والخوف، لا عطايا التكريمات والجوائز أشبعته، ولا حنو أهل الأمن عليه جعله آمنًا، وكان يتذكر زكريا تامر عندما خاطب قطته وهو يصب لها مرق الفاصوليا على الأرض، لا تجوعي مثلنا يا بلهاء!
في عام ١٩٥٧ أرسل الماغوط إلى شقيقه عيسى الرسالة التالية:
هل قرأت قصيدتي الأخيرة يا عيسى؟ جفاف النهر؟
لقد قُرئِت بصوت عالٍ في المقاهي وقالوا عنها رائعة.
كلمة واحدة والطبول الكبيرة تقرع لما يجهضه الأقزام والمشوّهون وكان
لا نجوم أمامي
الكلمة الحمراء الشديدة هي مخدعي وحقولي
كنت أود أن أكتب شيئا عن الاستعمار والتسكع
عن بلادي التي تسير كالريح إلى الوراء!
كتابات الشباب الأولى
كتاباته يوم كان في العشرين لم يعد يجيد إعادة كتابتها، ولا أحد يجيد كتابة مثلها. ولكنها لم تكن تقدم له مدفأة في الشتاء أو كأس عصير في الصيف.
مات عند الغروب وهو يغني:
من قديم الزمان وأنا أرضع التبغ والعار
أحب الخمر والشتائم
والشفاه التي تقبّل ماري
ماري التي كان اسمها أمي
حارّة كالجنوب
سمراء كيوم طويل غائم
أحبها وأكره لحمها
المشبع بالهمجية والعطر
والشفاه المقرورة الخائفة
تنهمر عليها كالجراد
لتأكل ماري
الأفران مطفأة في آسيا
والطيور الجبلية البيضاء
ترحل دونما عودة
في البراري القاحلة
ويعود عيسى الماغوط إلى كتابات شقيقه محمد القديمة أيام كان في العشرين، فيرى أن هذه الكتابات لها قيمة خاصة، فهي التي تقومه وتعطيه حجمه الأدبي، وليس الغناء على المسرح أو السخرية السياسية. في هذه الكتابات قصيدته وطني:
وطني
أيها الجرس المعلق في فمي
أيها البدوي المشعث الشعر
قضى الماغوط عمره وهو يشعر أن الجوع ينبض في أحشائه كالجنين.
ورغم أطنان الطعام والطناجر والصحون فقد بقي جائعاً.
قال لشقيقه مرة: إنه لم يشم رائحة طعام يطبخ في بيته قط، وأنه يبحث عن ثيابه فلا يجدها.. ويزيد عدد البدلات، ويزيد عدد القمصان، ويزيد عدد الأحذية، والجوارب وعندما يبحث في شيء ما لا يجده.
قلت لها: عطشان يا دمشق
قالت: اشرب دموعك
قلت لها: جوعان يا دمشق
قالت: كل حذائي
ما من باب فتح لي ذات مرة وقال: أيها الغريب
أضربوها بالسياط
أطردوها من الأبواب والكتب والحانات والأعراس والمآتم
وأغلقوا في وجهها كل أبواب العالم
لتظل وحيدة كالريح
ولكن اسملوا عيني قبل أن تفعلوا ذلك
لأنني أحبها يا رجال
ولن أخونها ولو ذرفت الكسور الدورية للدموع!
مادة للدارسين والباحثين
يرفق عيسى الماغوط كتابه عن شقيقه برسائل كان الماغوط قد أرسلها إليه في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي، وبخاصة عندما كان يؤدي خدمة العلم في الجيش السوري. تمتاز هذه الرسائل بنفس أدبي واضح، وفيها ينقل الماغوط إلى شقيقه صورة عن حياته، وهي رسائل تؤلف مادة للدارسين والباحثين في سيرته وفي أدبه على السواء.كما يرفق الكتاب بصور فوتوغرافية للماغوط وأفراد أسرته. والكتاب بوجه عام عبارة عن مستند بالغ الأهمية لكاتب مسرحي وشاعر يعتبره الكثيرون من أبرز شعراء وأدباء سوريا في النصف الثاني من القرن العشرين.