نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


يهود اسطنبول ....خصوصية تاريخية حفظتها التعددية





كانت إسطنبول في السابق مركزًا لحياة يهودية، وفي يومنا هذا ما يزال يعيش في عاصمة مضيق البوسفور عشرون ألف يهودي من اليهود الشرقيين. ومن يهود إسطنبول الكاتب ماريو ليفي الذي تجسد كتاباته الإرث الثقافي للأقلية اليهودية في هذا البلد. كاي شتريتماتر يرصد أوضاع الأقلية اليهودية من اسطنبول.




كانت إسطنبول في السابق مركزًا لحياة يهودية، وفي يومنا هذا ما يزال يعيش في عاصمة مضيق البوسفور عشرون ألف يهودي من اليهود الشرقيين. ومن يهود إسطنبول الكاتب ماريو ليفي الذي تجسد كتاباته الإرث الثقافي للأقلية اليهودية في هذا البلد. كاي شتريتماتر يرصد أوضاع الأقلية اليهودية من اسطنبول.


لا تسير الأمور مثلما يشتهي الحالمون. وهذا أمر طبيعي. وما يزال هذا المكان - مثلما يقول الكاتب - المكان الأفضل في العالم. ومن الصعب الاعتراض على ذلك في هذا المساء في شارع طواحين الهواء وفي دار "بيرن شتاين شلايفر" Bernsteinschleifer، ومع احتساء القهوة الساخنة؛ في شرفة في الطابق الرابع تطلّ على البحر؛ البحر الذي يتوسّط المدينة والذي منح في صباح هذا اليوم بعض الأشخاص السعداء فرصة رؤية مجموعة من دلافين كانت تلهو وتلعب.

وهناك على الضفة الأخرى تقع أوروبا التي يشاهدها المرء في ضوء الشمس الآخذة بالغروب. هذه هي إسطنبول. وماريو ليفي Mario Levi يتساءل ساخرًا، كيف يمكنه فعل ذلك؟ كيف يمكنه ترك هذه المدينة؟ كيف؟ ويتابع قائلاً: "أنا أعيش في مدينة تقدِّم لي مجموعة لا تفنى من القصص، بحيث أنَّني لن أتوقَّف أبدا عن كتابتها".

وماريو ليفي يقول في قصصه عن إسطنبول إنَّ كلَّ من لديه صعوبات يرتاح فيها ويندمج. الأمر الذي يجعل من هذه المدينة ومن هذا البلد منبعًا لا ينضب. فهي مدينته وهذا البلد هو بلده، بيد أنَّه يشعر من وقت إلى آخر بأنَّه غريب.

وماريو ليفي واحد ممن يعيشون على الهامش. وهذا يتعلَّق بطبيعته ولكن كذلك بأصوله. ويقول ماريو ليفي البالغ من العمر خمسين عامًا إنَّ ذلك يعجبه، ثم يتابع قائلاً: "أنا سعيد بحزني الذي أعتبره هبة أنعم بها. فلو كنت إنسانًا سعيدًا، لما كنت سأصبح كاتبًا". وكذلك لم يمض وقت طويلاً على تلك الحادثة، عندما أتت إليه بعد محاضرة في بلد أجنبي فتاة تركية وطلبت منه باللغة الإنكليزية الإمضاء على غلاف كتاب، وعندما عرَّف نفسه بأنَّه من إسطنبول هتفت الفتاة منذعرة: "أنت تركي؟ هذا مستحيل. لماذا اسمك ماريو ليفي؟ فهذا الاسم ليس اسمًا تركيًا".

اليهود العثمانيون كانوا اليهود الأثرى من بين يهود الشتات

إذن لماذا يحمل هذا الاسم؟ ليفي هو ابن النبي يعقوب في العهد القديم، ولاوي في الأصل هو أبو سبط من أسباط اليهود. أما ماريو فهو اسم إسباني. وماريو ليفي يحمل هذا الاسم لأنَّه واحد من اليهود الذين تعود أصولهم إلى إسبانيا، أي اليهود السفرديم (اليهود الشرقيين). فهو واحد من أولئك الذين يعيشون هنا منذ أكثر من خمسمائة عام.

ومنذ العام 1492 عندما وضع ملكا إسبانيا، فرديناند وإزابيلا جميع اليهود الذين كانوا يعيشون في مملكتهما أمام خيار اعتناق المسيحية أو الهرب، اختار اليهود الخيار الثاني وهربوا جميعهم. ومعظمهم هربوا إلى الدولة العثمانية التي كانت حديثة التأسيس، "حيث يعيش كلّ واحد منهم في سلام في ظلِّ كرمة أو شجرة تين"، مثلما وصف حاخام مدينة أدِرنة Edirne حياة اليهود فيها محمِّسًا أبناء دينه. والسلطان بايزيد دعاهم إلى الدولة العثمانية لأنَّه كان راغبًا في علومهم، وبعد فترة قصيرة أصبح اليهود العثمانيون اليهود الأثرى من بين يهود الشتات.

وكان اليهود يشكِّلون في مدينة سالونيك في مطلع القرن التاسع عشر أغلبية السكَّان، كما أنَّهم جعلوا من منطقة بلات Balat في إسطنبول أكبر تجمع لليهود في أوروبا. وما يزال يعيش عشرون ألف يهودي شرقي في إسطنبول، في حين كان يعيش في جميع أرجاء البلاد قبل مائة عام مائتي ألف يهودي. وهؤلاء اليهود حافظوا على لغة جلبوها معهم في السابق من وطنهم. وكذلك يستطيع من ينتبه لهم سماع لغتهم؛ في فصل الصيف على الجزر الأميرية أو في المقاهي الممتدة على ضفاف مضيق البوسفور، حيث تلتقي سيدات مسنّات ونشيطات من أجل احتساء الشاي ولعب الورق وينتقلن فجأة من الحديث باللغة التركية إلى تلك اللهجة الإسبانية المدهشة التي حافظوا عليها من العصور الوسطى والتي يطلقون عليها اسم لادينو Ladino. ولكن على الرغم من ذلك هناك شباب أتراك لا يعرفون عن ذلك أي شيء.

إسطنبول مدينة مجروحة

وهذا أيضًا هو السبب الذي يجعل ماريو ليفي يمارس الكتابة؛ "لكي تنتقل القصص من جيل إلى آخر". ومن أجل سدّ الثغرات التي انفتحت في الذاكرة والتي انفتحت أيضًا في وجه هذه المدينة التي ما تزال مليئة بإرث الماضي، بنقوش مكتوبة على جدران بعض المباني والكنائس والكنس اليهودية - نقوش تبدو حروفها في يومنا هذا مثل شيفرات غريبة، وذلك على الرغم من أنَّ اليهود واليونانيين والأرمن كانوا يعيشون قبل عهد قريب هنا في وطنهم.

وهذه المدينة مليئة بخرائب تحكي قصة إسطنبول بلغات غريبة، تحكي عن بيوت خشبية آيلة إلى السقوط وما تزال تسكنها روح إسطنبول القديمة ولا تُقدم على هدمها حتى يومنا هذا أي جرّافة. ربما بسبب الشعور بالذنب؟ فإسطنبول مدينة مجروحة.

ومن المناسب أيضًا أن تشارك دار نشر سروكامب Suhrkamp الألمانية برواية ماريو ليفي في معرض فرانكفورت للكتاب الذي أقيم مؤخرًا. ويبدو أنَّ الزمن اختلف، وذلك لأنَّ تركيا تريد للجميع أن يبرزوا قوميتهم التركية، إذ إنَّ وزير الثقافة التركي، إرتوغل غوناي قال قبل سفره إلى فرانكفورت إنَّ رجاءه عرض التنوّع العرقي والديني الموجود في بلده. وهذه لهجة جديدة بالنسبة لهذا البلد الذي كثيرًا ما يبدو متمزّقًا ومصابًا بالهذيان.

ماريو ليفني: "إسطنبول كانت أسطورة"

أطلق ماريو ليفني عنوان "إسطنبول كانت أسطورة" على كتابه الذي يحاول فيه المرء البحث هباءً عن السحر والجاذبية. وهذا الكتاب عبارة عن سرد مستخلص من كتب كثيرة لا تنتهي. وفي هذا الكتاب نقرأ أنَّ "البحث عن نيكولاوس يعني البحث عن حياة مفقودة"؛ ونيكولاوس هو حائك سُتَر كان يسقي قطّه العجوز العرق في كلِّ مساء، إلى أن دفعه غوغائيو عام 1955 إلى المنفى.

ويبدو أنَّ ماريو ليفي أراد جمعهم كلّهم بقدر الإمكان، جمع كلِّ ذوي الحيوات المفقودة، من دون أن يترك أحد منهم؛ ولا حتى أولغا Olga الأنيقة والتعيسة والتي هربت أسرتها من ريغا، ولا حتى إبراهيم لص الفضة، أو العم الأرمني كركور الذي كان يقضي الوقت في لعب الطاولة مع موسنيور جاك. وفي ذلك الزمن "لم يكن أحد يستطيع تحديد اللغة التي تتحدث بها إسطنبول". حيث كان المرء يسمع في شوارع المدينة وحول برج غلاطة Galataturm اللغة الييدية وكذلك اليونانية والأرمنية والفرنسية والعربية. وكثيرًا ما كان يعتبر يهود إسطنبول في مطلع القرن العشرين من صغار المواطنين من تجار وحرفيين.

وإذا كانت إسطنبول هذه أسطورة فالسبب هو أنَّ نَفَس من يروي قصصها لا ينقطع بعد ألف ليلة وليلة. وماريو ليفي معني بما كان يجب أن يحدث، لو قدِّر لإسطنبول تجنّب "النهضة المفزعة" (حسب وصف ليفي) أثناء النشوة القومية التي عاشتها جمهورية تركيا في السنين الأولى من تأسيسها.

إسحاق ألاتون: "الانتقام بطريقة إيجابية"

ما الذي كان يجب أن يحدث؟ وهذه الفكرة تحرّك أيضًا إسحاق ألاتون Ishak Alaton الذي يبلغ عمره الآن واحدًا وثمانين عامًا. لقد كان عمره سبعة عشر عامًا عندما أقسم أنَّه سوف "ينتقم بطريقة إيجابية"؛ من النظام الذي دمَّر والده. وكان والده يحبّ مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، كما أنَّه أمر أفراد أسرته أن لا يتحدَّثوا في البيت بغير اللغة التركية. وقد جنى والده ثروة متواضعة من خلال استيراد المنسوجات من إنكلترا؛ إلى أن أتت سنة 1942.

وفي تلك السنة انتقم القومويون الأتراك دفعة واحدة من كلِّ الذين لم يكونوا أتراكًا وكانت أوضاعهم على الرغم من ذلك جيدة. لقد خسر الأتراك دولة متعددة الشعوب وأسسوا جمهورية؛ في زمن أخرج وزير عدل أنذر المقيمين في تركيا من غير الأتراك بأنَّهم لا يحقّ لهم "سوى أن يكونوا عبيدًا".

لقد كان ذلك الزمن زمن التناقضات؛ فمن ناحية استقبلت الدولة التركية لاجئين يهود هربوا من ألمانيا النازية، كما فرضت من ناحية أخرى في عام 1942 ضريبة على الأملاك لم تكن تهدف إلاَّ إلى القضاء على حالة الرفاه لدى جميع الأتراك غير المسلمين. وكان يتم حكم من لم يكن قادرًا على تسديد الديون المترتبة عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة. إذ كان والد إسحاق ألاتون يعمل في مقلع للحجارة في منطقة إرزوروم في شرق الأناضول، سوية مع ألفي شخص يهودي ويوناني وأرمني آخرين. ومن بينهم ثلاثون شخصًا ماتوا من البرد. أما والد إسحاق ألاتون فقد عاد إلى أهله - رجلاً مكسور النفس. وأقسم الابن على أنَّه سوف يصبح شخصًا مشهورًا وثريًا: "كنت أريد أن أحملهم على التفكير. يجب أن يشاهد الجميع كم كان القضاء على هذا العدد من الناس الطيبين أمرًا سيئًا".

وإسحاق ألاتون سافر إلى السويد، حيث تعلّم مهنة اللحام وأصبح ديمقراطيا اشتراكيا. وثم عاد إلى تركيا، وأسس فيما بعد مع شريك له شركة ألاركو Alarko. وهو في يومنا هذا رجل ثري جدًا، كما أنَّه يعتبر أشهر رجل أعمال يهودي في تركيا، يعمل في قطاعات العقارات والبناء والسياحة. وما يزال ديمقراطيا اشتراكيا، كما أنَّّه يأخذ على الطائفة اليهودية في تركيا هذا المأخذ: "كانوا في السابق لا يرغبون في الشهرة على الإطلاق. وكان هذا أمرًا مزعجًا بالنسبة لي". وإسحاق ألاتون أسس معامل فكرية سياسية وكان يدعو للديمقراطية.

"كان الآخرون يخفون أصلهم؛ أما أنا فذهبت إلى التلفزة وهتفت قائلاً »أنا يهودي«". وذات مرّة قبل عشرة أعوام هتف أحد المشاهدين في ندوة على الهواء وكان يريد أن يعرف، إن كان إسحاق ألاتون يشعر على العموم بأنَّه تركي. فأجابه إسحاق ألاتون قائلاً: "عائلتي تعيش هنا منذ خمسمائة عام"، ثم سأله: "وماذا عن عائلتك؟"

"معاداة السامية غير منتشرة بين الأتراك"

ولكن لم يتحتَّم على اليهود هنا مكابدة حملة تهجير واضطهاد عنيفة مثلما كانت الحال مع اليونانيين والأرمن. فقد هاجر الكثيرون إلى إسرائيل. وأما الباقون فقد أثبتوا ولاءهم لتركيا؛ إذ ما تزال تتم حتى يوما هذا قراءة دعاء لرئيس الدولة في كلِّ الصلوات والشعائر الدينية اليهودية.

وتعدّ الطائفة اليهودية التركية بمثابة لوبي يهودي يعمل أفراده لصالح تركيا لدى إخوتهم في الدين ذوي النفوذ الواسع من اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية وفي إسرائيل. "وهذا يعود علينا بنقطة إيجابية"، حسب قول دافيد أوجالفو David Ojalvo الذي يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا ويعمل لصالح صحيفة "شالوم" الخاصة بالطائفة اليهودية، كما أنَّّه يشرف هناك على صفحة الآراء. وهو يقول: "لا يوجد لدينا رأي سياسي. فنحن لا نتدخّل في شؤون السياسة". ويتحتَّم على من يذهب لزيارة مقر تحرير هذه الصحيفة الكائن في حيّ تسويقيه Tesvikiye الشعبي البسيط أن ينتظر أمام عدسة كاميرا وأمام باب مسلّح بقضبان حديدية. وذلك بسبب وقوع اعتداءات على كنائس يهودية؛ ففي عام 1986 قُتل إثنان وعشرون شخصًا يهوديًا وفي عام 2003 قتل ستة أشخاص يهود.

ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ دافيد أوجالفو الذي يعتبر أفضل أصدقائه من المسلمين، يقول إنَّ إسحاق ألاتون على حقّ عندما يقول إنَّ معاداة السامية غير منتشرة بين الأتراك، و"لكن المشكلة تكمن في التمييز الذي نتعرَّض له من قبل الدولة". وإسحاق ألاتون ينتقد الدولة قائلاً إنَّها تستخدم من ناحية تسامحها وسخائها المزعومين تجاه اليهود من أجل الدعاية في الخارج، وتصدر من ناحية أخرى قرارات تقضي بمصادرة أراضٍ تملكها الطائفة اليهودية، كما أنَّ أبناء الأقليّات لا يستطيعون حتى الآن الارتقاء إلى مناصب وزارية أو الحصول على رتب عسكرية عالية. "ولكن يا ترى مَنْ يريد هذه المناصب؟" يتساءل الكاتب ماريو ليفي ويتابع مازحًا: "أنا لا أريدها". وإسحاق ألاتون يتحدَّث في هذا الصد بلهجة أكثر جدّية: "أريد أن يقدِّم الأتراك اعتذارًا".

ويبلغ في يومنا هذا عمر صحيفة شالوم واحدًا وستين عامًا، كما أنَّ حجم طبعتها يصل تقريبًا إلى خمسمائة عدد. والمحرّرون الخمسة عشر في هذه الصحيفة لا يتقاضون رواتب، إذ إنَّ دافيد أوجالفو يدرس الطبّ. ويُقلقه أنَّ الكثيرين من اليهود الشباب يفقدون اهتمامهم بالطائفة اليهودية عندما يبلغ أحدهم سنّ الثامنة عشر. وهكذا صارت السلسلة تنقطع؛ كما أصبحت الأعمدة التي حافظت على بقاء هذه الطائفة خلال قرون من الزمن، مهدَّدة بالانهيار. وعلى سبيل المثال "اللادينو" - لغة الأجداد. ففي الأعوام الخالية كانت تتم كتابة أكثر المقالات في صحيفة شالوم بالغة اللادينو، بينما لم تعد لغة اللادينو تحتل في يومنا هذا سوى صفحة واحدة من ثمان صفحات.

وهكذا تتعرّض لغة اللادينو للانقراض. وليس هناك أحد يعرف ذلك أفضل من الباحثة اللغوية، كارين غيرسون سرحون Karen Gerson Sarhon التي كتبت أطروحة تخرجها الجامعية حول انهيار لغة اللادينو. وهي تتولى كتابة الصفحة المكتوبة باللادينو في صحيفة شالوم - تهزّ كتفيها وتقول: "العصور تتغيَّر". وعندما كانت صغيرة السن، كانت تسخر مع أصدقائها في العروض المسرحية من والديها وجدّيها الذين كانوا يتكلمون لغة اللادينو. أما اليوم فهي تقوم برعاية مركز الدراسات الثقافية اليهودية الشرقية في إسطنبول، كما أنَّها تقدِّم أغاني بلغة اللادينو. وهنا تغني كارين سرحون التي تعد في عداد الجيل الأخير الذي ما يزال يتكلم لغة اللادينو. وبعد سؤالها عن الذين ما يزالون يقرأون صفحتها أجابت قائلة: "أعمار جميعهم فوق الخمسين".

وكارين سرحون الحازمة والنشيطة تنظر إلى ذلك ببرودة مدهشة، إذ تقول: لقد تم في الأعوام الماضية إجراء أبحاث جيدة عن هذه اللغة، أي لقد تم تقريبًا تحنيطها من أجل وضعها في المتحف، والآن شاء لها أن ترقد بسلام. ثم تقول سرحون إنَّ الأولين يحملون الذنب من دون شكّ: "لقد كانوا يتهرّبون دائمًا إلى اللغة الفرنسية وفيما وبعد إلى التركية. وكانت اللادينو بالنسبة لهم لغة على قدر غير كافٍ من الثقافة. وأمّي كانت تقول دائمًا إنَّ هذه ليست لغة، بل هي سَلَطة".

اللغة التركية باعتبارها وطن

ويقول ماريو ليفي إنَّ وطنه ليس مدينة وليس بلدًا، بل إنَّ وطنه هو اللغة التركية. والكتابة وحدها لا تكفي في تركيا حتى لإعالة عدد قليل من الناس، لذلك يعمل ماريو ليفي أيضًا في الجامعة مدرسًا لصياغة النصوص الدعائية. وفي نهاية الأسبوع يذهب إلى أستاد كرة القدم ليشاهد نادي فنربخشة Fenerbahce، أي النادي المفضَّل لدى الضباط وكذلك النادي الذي كان يفضِّله والد ماريو ليفي.

وأحيانًا عندما لا يكتمل عدد المتديِّنين اليهود في كنيس كاديكوي Kadiköy ليبلغ عشرة رجال، أي العدد المنصوص على اكتماله من أجل إقامة صلاة الجماعة، يتَّصلون به للحضور، فيسرع بالذهاب إلى الكنيس على الرغم من أنَّه فقد إيمانه بالله عندما كان شابًا واستبدله بفلسفة فولتير وجان جاك روسّو. وفي الراديو يقوم ببث برنامج، وأكثر ما يحبّ هو الحديث عن الأشياء التي يحبّ فعلها بصورة خاصة، أي الطهو والطعام. وفي الأسبوع الماضي جاء دور سمك المشط الأزرق (سمك البلطي). ويقول ماريو ليفي بصوت ملؤه التلذّذ: "أنا شخص شوفيني فيما يتعلَّق بإسطنبول؛ حيث لا توجد في أي مكان أسماك لذيذة المذاق مثل الأسماك التي يتم صيدها في مضيق البوسفور". وحتى إن كانت مياهه ملوّثة إلى هذا الحدّ.

وهذه المدينة وهذا البلد يطلبان أحيانًا الكثير من المرء. ففي العام الماضي اغتالت عصابة من القومويين صديق ماريو ليفي، الكاتب الصحفي التركي ذا الأصل الأرمني هرانت دينك. وماريو ليفي يقول إنَّ الأمور لا تسير مثلما يشتهي. وثم يضيف: "غير أنَّني متفائل؛ أريد أن أكون متفائلاً". وبعد استراحة يقول: "الأفضل لي أن أكون متفائلاً".



كايشتريتماتر - إسنطبول

كايشتريتماتر - قنطرة
السبت 25 أكتوبر 2008