الخطاب الدولي العام الآن حول الصراع في أوكرانيا بات يستحضر جرائم بوتين في الشيشان وحلب كنموذجين مأساويين لما يمكن أن يعانيه الشعب الاوكراني في حال انتصار بوتين، وهذا له دلالة على عدالة القضية السورية، ويدحض كل الأكاذيب والذرائع الروسية حول محاربة الإرهاب، ويعيدنا بالذاكرة إلى مقال نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية في شباط/فبراير 2016، إبان العدوان الروسي الغاشم على مدينة حلب قالت فيه: "إذا سقطت حلب فإن الحرب الشرسة في سوريا ستأخذ منعطفاً جديداً تماماً، فسقوطها سيؤدي إلى عواقب سيئة بعيدة المدى، لن تنعكس فقط على المنطقة، بل على أوربا أيضاً"، منذ ذلك الحين لم تعد استباحة الدم السوري من جانب الروس تثير أي إشكالية بالنسبة إلى الإدارة الأميركية والغرب عموماً.
طموحات الروس لم تكن تنظر إلى سوريا على أنها بؤرة مصالح اقتصادية وعسكرية فحسب، بل مساحة جديدة يمكن لبوتين أن ينطلق منها لمواجهة الغرب، فالروس يتطلعون إلى دور أكبر من سوريا، وربما ما يجمع بين المسالتين السورية والأوكرانية بالنسبة إلى روسيا هو أن المنطقتين تُعتبران ساحة صراع يمكن الانطلاق منها لمواجهة خصم أكبر، ذلك أن مواجهة هذا الخصم (أميركا) تستدعي بالضرورة وفقاً للروس إيجاد مناطق نفوذ واسعة في العالم توازي طوح بوتين الذي لا يرمي للارتقاء بروسيا الاتحادية كدولة ذات نفوذ قوي في المنطقة فحسب، بل ربما بات طموحه يسترد من مخيلته كل الصور الموروثة عن الإمبراطورية الروسية السابقة (الاتحاد السوفياتي).
الغزو الروسي لأوكرانيا، أدى إلى خلط الأوراق في المشهد الدولي ودخول العلاقات الدولية في أزمة سياسية مع روسيا، سيكون لها تأثير كبير على إعادة فرز المواقف والتحالفات الإقليمية والدولية، ولا شك أنه سيكون لها تداعيات على القضية السورية من جوانب عديدة أهمها:
أولاً، أن تطورات الحدث الاوكراني وما سيؤدي اليه الغزو الروسي سواء من حيث نجاحه في تحقيق أهدافه أو حال فشله، سيكون له ارتدادات كبيرة على الدور الروسي في سوريا، بمعنى أن نجاح الروس في فرض واقع جديد في أوكرانيا وشرق أوروبا سيمنحهم المزيد من أوراق القوة المتعلقة بسياساتهم الحالية والمستقبلية تجاه سوريا، بالمقابل فإنه في حال فشل روسيا وإخفاقها في مواجهة الدول الرافضة لتدخلها في أوكرانيا أو محاصرتها بحزمة العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة عليها سيؤدي ذلك إلى ضعف قوة تأثيرها في الورقة السورية.
ثانياً، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا والمتغيرات الدولية والإقليمية التي ستنجم عنه سنرى متغيرات ذات صلة بالوضع السوري بحكم اختلاف مواقف الفاعلين الدوليين والإقليميين المعنيين بالملف السوري تجاه هذا الغزو، وهذا يضعنا أمام تساؤلات جديدة حول مدى استمرار التفاهمات الروسية التركية من جهة، والتفاهمات الأميركية الروسية الإسرائيلية من جهة أخرى.
ثالثاً، يكشف الصراع القائم الآن بين روسيا والغرب عن إمكانية تبلور فرضيات جديدة سيكون لها تأثيرات مباشرة على علاقة هذه الأطراف بالملف السوري وبالعملية السياسية التي تشكل روسيا أحد مفاتيحها الأساسية، ولذلك علينا توقع عدة سيناريوهات في هذا السياق:
- استمرار استعصاء العملية السياسية وممانعة الدور الروسي الضاغط لإنجاز حل سياسي يحقق مصالح روسيا ويُبقي على نظام الأسد، وهذا السيناريو سيتوقف على كيفية تعامل الغرب مع الحدث الأوكراني، فكلما كانت المواقف حازمة وصلبة تجاه روسيا فإن هذا يمكن أن يكون عامل إضعاف للدور الروسي في سوريا.
- السيناريو الآخر، الوصول إلى تفاهمات وتسويات جديدة مع روسيا يكون ثمنها إطلاق اليد الروسية في سوريا مقابل ضبط الدور الروسي في شرق أوروبا والبلقان.
وبالعودة إلى السؤال المحوري الذي لا يفارق أذهان السوريين: هل سيكون لما يجري في أوكرانيا ارتدادات مباشرة على القضية السورية؟
يمكن التأكيد على أن مسعى الروس في سوريا وأوكرانيا قد يتقاطع في جانب مهم وهو أن المسالتين بالنسبة إلى روسيا هي جولة من معركة طويلة مع الغرب وتعتبر فصلاً من فصول الصراع معه وليس الصراع كله، ومن هنا يمكن التساؤل هل بمقدور الولايات المتحدة ومن خلفها أوروبا إجبار روسيا على إعادة النظر باستراتيجيتها في هاتين المسألتين؟ وهل ستنجح واشنطن في تقويض الطموح البوتيني في استعادة امجاد القوة السوفياتية. وهذا بالطبع يتوقف على استراتيجية الردع لدى واشنطن وحلفائها الغربيين.
بالنظر إلى المعطيات الراهنة وكذلك بالاستناد إلى المواقف المعلنة لكل العواصم الغربية يتبين أن كل أساليب الردع المزمع اتخاذها ضد بوتين لا تتجاوز العقوبات الاقتصادية بشتى أشكالها، مع التأكيد على استبعاد الجانب العسكري في مواجهة روسيا، ولكن اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا قد وضع العالم الغربي بمجمله أمام امتحان استراتيجي، ربما يجعله أمام خيارات وتحديات أخرى في حال لم يجد جدوى ملموسة لهذه العقوبات، ربما تكون الأرض السورية أحد هذه الخيارات، وساحة مناسبة للجم التمرد الروسي، ومجالاً لمواجهة غربية له من جديد، حيث أن إمكانية هذه المواجهة ما تزال متاحة إذا ارادت واشنطن استثمارها وعلى أكثر من مستوى.
فعلى المستوى العسكري، الأمر لا يحتاج سوى إعادة الدعم لفصائل الجيش الحر وتزويده ببعض الأسلحة النوعية المضادة للطيران (ستنغر)، والدروع (تاو)، والطائرات المسيرة، وصواريخ غراد، لإمطار قاعدة حميميم التي تعتبر نقطة ضعف أكثر منها قوة، والواقعة ضمن المدى المجدي لمدفعية وصواريخ الجيش الحر، ما يساعد على ذلك جغرافية المنطقة وتضاريسها الجبلية التي تسهل عملية الوصول اليها.
وعلى مستوى النفوذ الجغرافي، فان واشنطن تضع يدها على بقع من الجغرافيا السورية تعتبر الأغنى اقتصاديا بل هي غلة الاقتصاد السوري، فهي تسيطر على النفط والمياه والسلة الغذائية.
وعلى الصعيد الإقليمي، بإمكان واشنطن تمتين أواصر علاقاتها مع أنقرة التي لها مناطق نفوذ واسعة في الشمال السوري، وتعزيز علاقاتهما التقليدية وابعادها عن الابتزاز الروسي.
وعلى الصعيد السياسي، يمكن للولايات المتحدة وحليفها التركي أن تمارس تأثيراً كبيراً على كيانات المعارضة السورية السياسية والعسكرية ونسف كل ما بناه الروس سواء على مسار أستانة وسوتشي، أو مسار اللجنة الدستورية، وبالتالي تستطيع الولايات المتحدة إن أرادت أن تجعل روسيا هي المحاصرة في سوريا، وأن تجعلها تعيد التفكير جدياً بكيفية الخروج من المستنقع السوري.
اليوم وبعد أن دمر الدب الروسي سوريا، وغضّ العالم الطرف عن جرائمه التي راح ضحيتها عشرات الآلاف وملايين المهجرين والنازحين، ها هو المجتمع الدولي يدفع ثمن صمته وتواطؤ البعض منه مع روسيا، ولو كان هناك موقف دولي حازم من تدخله في سوريا لما تجرأ بوتين على مجرد التفكير بغزو أوكرانيا.
ولعل الأزمة الأوكرانية الراهنة تثير في أذهان الإدارة الأميركية نزعة نحو مراجعة مواقفها السابقة وخصوصاً بما يتعلق بالمسالة السورية، لتعيد السؤال: هل النأي عن القضية السورية كان صائباً؟ ألم يكن إفساح المجال لبوتين ليجعل من الأرض السورية ميداناً لتجريب صناعاته الحربية وتدريب عشرات الالاف من جنوده وطياريه، في قتل الشعب السوري، خطأً استراتيجياً فادحاً، أدى الى جموح بوتين الجنوني؟
----------
المدن
----------
المدن