وأمر مؤسف أيضاً أن ينشغل كثير اليوم بمخاطر تلوح في الأفق، وكأننا أمام حرب طائفية، أو أهلية ـ لمن يريد تخفيف وقع الكلمات ـ بعد أزيد من خمسين عاماً على حكم حمل خطاباً فوق طائفي، وفوق وطني وقطري.. إلى ما اعتبر مشروع التوحيد والتحرر والحداثة والعصرنة، وإذ بمدّعيه، ومغتصبيه، ومفترسيه التاليين حملة حقيقيين له، ومستثمرين من النوع الجشع والمتخلف والدموي، والذي لا يقيم أي اعتبار لوحدة وطنية، أو للصدق في أدنى الشعارات التي يضجّ بها حتى التقيؤ، رغم تلك الطبقة الكثيفة من الطلاء الكاذب، والازدواج في الخطاب ..
لا يتسع المجال لفتح ملف الطائفية وتطورها في بلدنا سورية، لكن الأكيد أن الطاغية الأكبر، مؤسس نظام الطغمة لعب بها، واستثمرها في مشروعه الخاص، وحينما ينزنق داخلياً كان يلجأ إليها وقد قام قبلها بكل عمليات الحقن والتجييش والموضعة، وصنع وتضخيم البعبع من آخر(أكثري) سيقتل على الهوية، وسيعيد تاريخاً طالما عمل أصحاب المصالح الطوائفية على تركيزه وتوريمه، وتقديمه كزاد معرفي في بيئات شعبوية مناسبة لم تفكفك عرى أفكار الملة، والطوائف إلى ما يسمى الوطن، والمواطنة، والمشتركات المجتمعية العامة القائمة على أسس أفقية وليست عمودية، فنامت تلك الثقافة الشعبوية في قاع الذاكرة، حتى إذا ما أخفق المشروع النهضوي عن تحقيق ألف باءاته في إقامة الدولة الحديثة، وفي تأسيس المواطنة المتساوية، أو الشعارات الأكبر في التحرر والتوحيد والحرية، وحتى إذا ما حصل الارتداد الشامل(وهو هنا بنيوي ومنهّج)، وتمّ تشويه وتسميم وقتل تلك الشعارات تحت راياتها، وممارسة عكسها في خطاب ازدواجي منفر، ومفضوح.. انبعثت وانتعشت تلك الموضعات السابقة، محاولة الإطلالة بمشروعية باطنية أو ظاهرة في المجتمع .
ولأن الموضوع متسع، سأحاول التوقف عند بعض المرتكزات والمظاهر التي تلوح اليوم في أفق الواقع السوري، والتي يجري العمل بقوة من قبل الطغمة، وأطراف أخرى لتصديرها ودفعها إلى قلب الثورة السورية، ومحاولات تشويهها، أو إغراقها فيها :
1 ـ إن المذاهب، أو المكونات(كما هي اليوم اللغة الدارجة في الخطاب السياسي) نتاج تاريخي طويل لسلسلة من التباينات والاجتهادات والخلافات السياسية والتفسيرية التي عرفتها الأديان عموماً، والإسلام بوجه الخصوص، وهذا النتاج، وبغض النظر عن رؤية الطرف الآخر له(فقهياً) حقيقة واقعة في المجتمع السوري لا يمكن، ولا يجوز لأحد شطبه، أو تصور اجتثاثه، أو القفز فوقه قسرياً . على العكس من ذلك فإن ألف باءات الحريات الديمقراطية، وأساس التعددية الاعتراف بجميع المكونات القومية والسياسية والدينية والفكرية وغيرها، وتكريس الاعتراف حقوقاً في حرية الاعتقاد وممارسته بالطريقة التي تصون الوحدة الوطنية ولا تشكل اعتداء على حريات الآخرين ومعتقداتهم، ووفق ما ينصّ عليه دستور الدولة المدنية الديمقراطية الذي لا بدّ وأن يكرّس المواطنة أساس الانتماء، وحرية التعبير والاعتقاد(وغيرهما) لحمته وسداه، وبما يعني أن جميع مكونات مجتمعنا الطبقية والفكرية والسياسية والدينية والقومية والإثنية والمذهبية هي على قدم المساواة في ممارسة حقوقها، وأداء واجباتها : مواطنين أحرار في دولة الحريات التعددية .
2 ـ وطالما أن مشروع الحداثة والنهوض، مشروع إقامة الدولة المدنية قد تقوّض على يد من ادعى حمله، ومن قايض به وعليه، وابتزه في عملية إنشاء مملكة الاستبداد المرعبة، الإخضاعية.. فإن نمو الظاهرات الماقبل وطنية وقومية أمر مفهوم، فكيف والحال أن النظام الفئوي قام عامداً وبتنهيج مريض على موضعة واضحة في الطائفة العلوية، ومحاولة استثمار ظرف تاريخي مليء بمشاعر البؤس والاضطهاد، والاستغلال(المركب) لتوظيفه في خدمة مشروع الطغمة الأسدية، وحقنه بالمزيد من التعبئات القديمة ـ الجديدة المصطنعة، وبالوقت نفسه تصديره لتحمل مسؤولية موبقات وجرائم الطغمة، وكأنها حاكمة فعلاً، وكأنها هي التي تقوم بتلك الممارسات، وكأن الوضع (الباطني) حكم، أو فرصة تاريخية لطائفة بعينها، وأن عليها أن تدافع عن النظام كنظام لها خلافاً للحقائق، ونسفاً لتاريخ هذه الطائفة ودور نخبها ومعارضيها الذين كانوا في مقدمة معارضي نظام الطغمة، والذين قدّم الكثير منهم حياته في المعتقلات وعلى مشارح التعذيب، أو في السجون والمنافي، والذين يعون ويعملون على صيانة الوحدة الوطنية القاسم المشترك للجميع، والشرط اللازم للعيش المشترك، ولوحدة الوطن.
3 ـ وبرغم مضي العقود لحكم الطاغية ووريثه، والذي يُفترض(وفقاً للشعارات والخطاب الديماغوجي) أن يكون قد أحدث تطورات مهمة في الارتقاء فوق الطوائفية، وتحديث بنى المجتمع، وصيانة الوحدة الوطنية، وعلى الأقل فكفكة مخاطرها فإن من يعود إلى خطاب الوريث في مجلس التهريج وهو يصف انتفاضة الشعب بالفتنة لا بدّ أن يتوقف طويلاً عند هذا الخزين الفئوي الذي لم يستطع السيطرة عليه، والذي ظهر فجّاً، وخطيراً، ومُشبعاً بالحقد، والتجييش، والدفع نحو مسار معين طالما يكون أصحاب القرار قد درسوه، وأعدّوا عدة دفعه إلى الواجهة لتشويه لبّ ما يحدث، وماهيته كثورة شعب يتوق للحرية والكرامة، وليس حرباً لطائفة ضد طائفة أخرى .
كان ذلك يعني، والنظام الفئوي يوغل بالحل الأمني ـ الدموي نهجاً وحيداً ـ أن هناك إرادة مصممة على دفع ثورة الشعب نحو مغطس يعتقد أنه الوحيد الذي يسمح له بالقتل والإبادة، وتجييش الأتباع بحمية المهدد بحياته إذا ما سقطت الطغمة، وإذا ما انتصر الشعب الموصوف بالطائفي. ونعرف أن الوجه الآخر لهذه العملة كان المؤامرة الخارجية للقيام بعملية خلط مزدوجة يركب فيها وعليها البعدين : الطائفي والوطني، ثم تطوير الحكاية إلى التهديدات الخارجية التي تستهدف الوطن(دمج النظام بالوطن، بل إسقاط الوطن عبر البقاء على النظام) .
وبناء على ذلك عرفت حالات التشبيح تعبئات ملحوظة لعناصر شعبية بسيطة حقنت بالحقد ضد الثوار، وسُلحت وقذف بكثيرها لتكون رأس الحربة في عمليات القتل والاغتصاب والتدمير، وفي جملة التجييش الذي يحدث، خصوصاً في المناطق التي تتعايش فيها مكونات مذهبية مختلفة، حتى إذا ما حدثت بعض ردود الأفعال، وبعض العمليات الدفاعية من قبل شباب، أو فئات محسوبة على الثورة بهذا الشكل أو ذاك، كبّرت، وضخّمت، وصوّرت على أنها الانتقال إلى العمل الطائفي، أو بدء الحرب الأهلية التي طالما بشّر بها النظام وعمل لها منذ الأيام الأولى للثورة .
4 ـ في هذا الجانب ما من أحد يستطيع إنكار كمّ الاحتقان المذهبي الذي عرفته السنوات الأخيرة بين السنة والشيعة، خاصة بعد احتلال العراق وتدمير دولته، وانفلات مخزون التعبئات المذهبية المتخلفة، والملغومة ، ودور إيران ومشروعها القومي الراكب على إديولوجيا دينية لم تنجح في تسويقه إسلامياً بالنظر إلى غموض الجانب القومي فيه، والتشدد المذهبي الذي يشكل جزءاً صميمياً من عملية التجييش، ودخول عوامل كثيرة على خطه، ومقابلة ذلك بطروحات مذهبية مشابهة، بينما تتضح الاستراتيجية الصهيونية بعيدة المدى القائمة على تفتيت وتدمير كيانات ومجتمعات المنطقة، والتي يأتي العامل العمودي في أساسها، وطبيعة تركيبة نظام الطغمة في هذا المجال، ومحتوى تحالفه مع إيران، وموقعه (بشكل مباشر أو بالنتيجة من تلك الاستراتيجية)، وبالتالي موقف الصهيونية الداعم لوجوده، والرافض لسقوطه(سيضاف إلى هذا العامل موقفه على صعيد جبهة الجولان واحترامه الشديد لاتفاقية الفصل مع إسرائيل) .
إن مجموعة تلك العوامل النامية في حاضنة استبدادية مغلقة، شديدة الحقد والضراوة على من يعارضها، الشهيرة بإعدامها لكل الهوامش الديمقراطية، وبنهج الإخضاع المذل للشعب، وخطاب النفاق والتبجيل الراكب على واجهية محتقرة وهامشية من قبله.. خلقت مناخات خصبة للاحتقان المذهبي شعبياً، خاصة بوجود قوى داخلية وإقليمية وخارجية تعمل على خطه وصولاً للاحتراب إن أمكن ..
مع ذلك، وعلى طول أيام وأشهر الثورة الثورية العظيمة.. كان المحتوى الجمعي أبرز سماتها، في رفضها لأي طرح طائفي، وتأكيدها على الوحدة الوطنية، وعلى أنها ثورة الحرية لسورية الشعب، وسورية الكيان الموحد، وسورية الدولة المدنية الديمقراطية، وعمل شبابها بكل السبل المتاحة على إجهاض محاولات النظام تشويهها، او حرفها، وقام أهلنا في حمص البطلة، وحمص العدية عاصمة الثورة، وحمص التعايش والتحضر والوسطية مراراَ، وجهاراً بتفويت مخططات النظام، وإدانة أي ردّ فعل على فعل قد يتخذ مظهراً طائفياً يقذف به النظام بعض الشبيحة المجندة من قرى معينة ليكونوا وقود حقده ومحرقته، وقد حدث ذلك مراراً عندما تصدى شعب حمص لكل محاولات الانجرار لهذا المغطس الرهيب، ووقع مشايخ من الطائفتين عديد البيانات المشتركة التي تدين أي مظهر وعمل طائفي، والتأكيد على الوحدة والإخاء، دون إغفال مشاركة عديد الثوار من المناطق العلوية في الحراك الثوري الحمصي وغيره .
لكن الحرب الشاملة التي يقوم بها النظام ضد المدن السورية عموماً، وحمص عاصمة الثورة خصوصاً، وما عرفته تلك الحرب من انتهاكات فظيعة للأعراض، وعمليات خطف، وقتل وتمثيل، جهد النظام على تصدير بعض أبناء الطائفة العلوية كمسؤولين عنها.. أدّت إلى بعض الانفلاتات من قبل شباب غاضب لم يستطع امتلاك جماح غضبه، أو من قبل جيوب مشبوهة ركبت على خط الثورة، ولعلها تحمل أجندات غريبة عنها.. فتمّت بعض العمليات المكروهة التي استطاع الثوار احتواءها، وتطويقها بالتعاون مع مشايخ الطائفتين، وحفاظاً على نقاء الثورة وجوهرها . وفي جميع الحالات، ورغم التهويل الذي حدث، وهذه الضجة من قبل أبواق النظام، أو من قبل عديد الأصوات الصارخة، ومعها دوائر إقليمية وخارجية عن الحرب الأهلية.. فإن وضع ردّ الفعل المنفرد، والمشتت في ميزان واحد مع النظام الطغمة موقف غير سليم، لأنه يريد أن يغطي جرائم النظام ومسؤوليته الأساس في كل ما يجري، بما في ذلك أفعال طائفية يمارسها بدفع وتجنيد وتأجيج يعرفه القاصي والداني .
5 ـ إن إدانة الفعل الطائفي من أية جهة جاء، مع أنه بديهي، إلا أنه في الحالة الراهنة موقف يصبّ في طاحونة النظام، لأنه، ومع الموافقة على محتواه بالتأكيد، يريد أن يضع الثوار، والشعب الذبيح، والمضطهد على قدم المساواة مع القاتل، المجرم، بينما يمكن أن يؤدي ذلك إلى منح القاتل صكوك المشروعية عما يقوم به من قتل منظم، ومن تأجيج طائفي مبرمج هو جزء من مشروع دفاعه عن بقائه، ولو كان الثمن تلال الجماجم من الشهداء، ولو كان الوطن المعرض للحرب الأهلية هو النتيجة.
نعم الثورة السورية ضد الفعل الطائفي، وهي الأحرص على الوحدة الوطنية لأنها ليست ثورة دينية، أو مذهبية، وليست لهذه الطائفة ضد الآخر، وإنما هي ثورة شعب يستهدف انتزاع الحرية لجميع المكونات بغض النظر عن مواقعها الآن ومواقفها من النظام، وبعيداً عن وجود فئات شعبية مخدوعة أو محقونة طائفياً، لأن دولة المواطنة والمساواة لا يمكنها أن تكون عرجاء ومشوهة، أو وقفاً على قسم من الشعب دون بقية الفئات .
من جهة أخرى فإن تعزيز نهج التسامح والمصالحة، وإدانة منطق الثأر والانتقام هو نتاج طبيعي للثورة يلد من رحمها الخصب طالما أنها ثورة شعبية للحرية والكرامة .
6 ـ الذي لا شكّ فيه أن جميع أطياف المعارضة، والحراك الثوري بالأساس مدعوون للارتقاء إلى مصاف وعي أخطار الكلمة والتصريح والتصنيف، ووعي موقع الوحدة الوطنية في صلب الحاضر والمستقبل، كما هم مدعوين لمزيد من تفصيح المواقف والعمل الدؤوب لانخراط فئات شعبنا كلها في الثورة بكل مستلزمات وتجسيدات ذلك في الموقف والهيئات والمجلس الوطني، وعموم التحركات والتصريحات، والتركيز على فضح هوية النظام ومحاولاته الإجرامية لجر بلادنا إلى قاع صفصف .
وعلى هذا الأساس فإن الابتعاد عن استخدام كلمات ومصطلحات الأقليات ومماثلها، واستبدالها بالمكونات والأطياف يحمل مداليل تتجاوز الخندقة، وتستلزم تفصيح الرؤى القادمة لمستقبل سورية المنشودة، وأعمدة بناء الدولة المدنية الديمقراطية .
لا يتسع المجال لفتح ملف الطائفية وتطورها في بلدنا سورية، لكن الأكيد أن الطاغية الأكبر، مؤسس نظام الطغمة لعب بها، واستثمرها في مشروعه الخاص، وحينما ينزنق داخلياً كان يلجأ إليها وقد قام قبلها بكل عمليات الحقن والتجييش والموضعة، وصنع وتضخيم البعبع من آخر(أكثري) سيقتل على الهوية، وسيعيد تاريخاً طالما عمل أصحاب المصالح الطوائفية على تركيزه وتوريمه، وتقديمه كزاد معرفي في بيئات شعبوية مناسبة لم تفكفك عرى أفكار الملة، والطوائف إلى ما يسمى الوطن، والمواطنة، والمشتركات المجتمعية العامة القائمة على أسس أفقية وليست عمودية، فنامت تلك الثقافة الشعبوية في قاع الذاكرة، حتى إذا ما أخفق المشروع النهضوي عن تحقيق ألف باءاته في إقامة الدولة الحديثة، وفي تأسيس المواطنة المتساوية، أو الشعارات الأكبر في التحرر والتوحيد والحرية، وحتى إذا ما حصل الارتداد الشامل(وهو هنا بنيوي ومنهّج)، وتمّ تشويه وتسميم وقتل تلك الشعارات تحت راياتها، وممارسة عكسها في خطاب ازدواجي منفر، ومفضوح.. انبعثت وانتعشت تلك الموضعات السابقة، محاولة الإطلالة بمشروعية باطنية أو ظاهرة في المجتمع .
ولأن الموضوع متسع، سأحاول التوقف عند بعض المرتكزات والمظاهر التي تلوح اليوم في أفق الواقع السوري، والتي يجري العمل بقوة من قبل الطغمة، وأطراف أخرى لتصديرها ودفعها إلى قلب الثورة السورية، ومحاولات تشويهها، أو إغراقها فيها :
1 ـ إن المذاهب، أو المكونات(كما هي اليوم اللغة الدارجة في الخطاب السياسي) نتاج تاريخي طويل لسلسلة من التباينات والاجتهادات والخلافات السياسية والتفسيرية التي عرفتها الأديان عموماً، والإسلام بوجه الخصوص، وهذا النتاج، وبغض النظر عن رؤية الطرف الآخر له(فقهياً) حقيقة واقعة في المجتمع السوري لا يمكن، ولا يجوز لأحد شطبه، أو تصور اجتثاثه، أو القفز فوقه قسرياً . على العكس من ذلك فإن ألف باءات الحريات الديمقراطية، وأساس التعددية الاعتراف بجميع المكونات القومية والسياسية والدينية والفكرية وغيرها، وتكريس الاعتراف حقوقاً في حرية الاعتقاد وممارسته بالطريقة التي تصون الوحدة الوطنية ولا تشكل اعتداء على حريات الآخرين ومعتقداتهم، ووفق ما ينصّ عليه دستور الدولة المدنية الديمقراطية الذي لا بدّ وأن يكرّس المواطنة أساس الانتماء، وحرية التعبير والاعتقاد(وغيرهما) لحمته وسداه، وبما يعني أن جميع مكونات مجتمعنا الطبقية والفكرية والسياسية والدينية والقومية والإثنية والمذهبية هي على قدم المساواة في ممارسة حقوقها، وأداء واجباتها : مواطنين أحرار في دولة الحريات التعددية .
2 ـ وطالما أن مشروع الحداثة والنهوض، مشروع إقامة الدولة المدنية قد تقوّض على يد من ادعى حمله، ومن قايض به وعليه، وابتزه في عملية إنشاء مملكة الاستبداد المرعبة، الإخضاعية.. فإن نمو الظاهرات الماقبل وطنية وقومية أمر مفهوم، فكيف والحال أن النظام الفئوي قام عامداً وبتنهيج مريض على موضعة واضحة في الطائفة العلوية، ومحاولة استثمار ظرف تاريخي مليء بمشاعر البؤس والاضطهاد، والاستغلال(المركب) لتوظيفه في خدمة مشروع الطغمة الأسدية، وحقنه بالمزيد من التعبئات القديمة ـ الجديدة المصطنعة، وبالوقت نفسه تصديره لتحمل مسؤولية موبقات وجرائم الطغمة، وكأنها حاكمة فعلاً، وكأنها هي التي تقوم بتلك الممارسات، وكأن الوضع (الباطني) حكم، أو فرصة تاريخية لطائفة بعينها، وأن عليها أن تدافع عن النظام كنظام لها خلافاً للحقائق، ونسفاً لتاريخ هذه الطائفة ودور نخبها ومعارضيها الذين كانوا في مقدمة معارضي نظام الطغمة، والذين قدّم الكثير منهم حياته في المعتقلات وعلى مشارح التعذيب، أو في السجون والمنافي، والذين يعون ويعملون على صيانة الوحدة الوطنية القاسم المشترك للجميع، والشرط اللازم للعيش المشترك، ولوحدة الوطن.
3 ـ وبرغم مضي العقود لحكم الطاغية ووريثه، والذي يُفترض(وفقاً للشعارات والخطاب الديماغوجي) أن يكون قد أحدث تطورات مهمة في الارتقاء فوق الطوائفية، وتحديث بنى المجتمع، وصيانة الوحدة الوطنية، وعلى الأقل فكفكة مخاطرها فإن من يعود إلى خطاب الوريث في مجلس التهريج وهو يصف انتفاضة الشعب بالفتنة لا بدّ أن يتوقف طويلاً عند هذا الخزين الفئوي الذي لم يستطع السيطرة عليه، والذي ظهر فجّاً، وخطيراً، ومُشبعاً بالحقد، والتجييش، والدفع نحو مسار معين طالما يكون أصحاب القرار قد درسوه، وأعدّوا عدة دفعه إلى الواجهة لتشويه لبّ ما يحدث، وماهيته كثورة شعب يتوق للحرية والكرامة، وليس حرباً لطائفة ضد طائفة أخرى .
كان ذلك يعني، والنظام الفئوي يوغل بالحل الأمني ـ الدموي نهجاً وحيداً ـ أن هناك إرادة مصممة على دفع ثورة الشعب نحو مغطس يعتقد أنه الوحيد الذي يسمح له بالقتل والإبادة، وتجييش الأتباع بحمية المهدد بحياته إذا ما سقطت الطغمة، وإذا ما انتصر الشعب الموصوف بالطائفي. ونعرف أن الوجه الآخر لهذه العملة كان المؤامرة الخارجية للقيام بعملية خلط مزدوجة يركب فيها وعليها البعدين : الطائفي والوطني، ثم تطوير الحكاية إلى التهديدات الخارجية التي تستهدف الوطن(دمج النظام بالوطن، بل إسقاط الوطن عبر البقاء على النظام) .
وبناء على ذلك عرفت حالات التشبيح تعبئات ملحوظة لعناصر شعبية بسيطة حقنت بالحقد ضد الثوار، وسُلحت وقذف بكثيرها لتكون رأس الحربة في عمليات القتل والاغتصاب والتدمير، وفي جملة التجييش الذي يحدث، خصوصاً في المناطق التي تتعايش فيها مكونات مذهبية مختلفة، حتى إذا ما حدثت بعض ردود الأفعال، وبعض العمليات الدفاعية من قبل شباب، أو فئات محسوبة على الثورة بهذا الشكل أو ذاك، كبّرت، وضخّمت، وصوّرت على أنها الانتقال إلى العمل الطائفي، أو بدء الحرب الأهلية التي طالما بشّر بها النظام وعمل لها منذ الأيام الأولى للثورة .
4 ـ في هذا الجانب ما من أحد يستطيع إنكار كمّ الاحتقان المذهبي الذي عرفته السنوات الأخيرة بين السنة والشيعة، خاصة بعد احتلال العراق وتدمير دولته، وانفلات مخزون التعبئات المذهبية المتخلفة، والملغومة ، ودور إيران ومشروعها القومي الراكب على إديولوجيا دينية لم تنجح في تسويقه إسلامياً بالنظر إلى غموض الجانب القومي فيه، والتشدد المذهبي الذي يشكل جزءاً صميمياً من عملية التجييش، ودخول عوامل كثيرة على خطه، ومقابلة ذلك بطروحات مذهبية مشابهة، بينما تتضح الاستراتيجية الصهيونية بعيدة المدى القائمة على تفتيت وتدمير كيانات ومجتمعات المنطقة، والتي يأتي العامل العمودي في أساسها، وطبيعة تركيبة نظام الطغمة في هذا المجال، ومحتوى تحالفه مع إيران، وموقعه (بشكل مباشر أو بالنتيجة من تلك الاستراتيجية)، وبالتالي موقف الصهيونية الداعم لوجوده، والرافض لسقوطه(سيضاف إلى هذا العامل موقفه على صعيد جبهة الجولان واحترامه الشديد لاتفاقية الفصل مع إسرائيل) .
إن مجموعة تلك العوامل النامية في حاضنة استبدادية مغلقة، شديدة الحقد والضراوة على من يعارضها، الشهيرة بإعدامها لكل الهوامش الديمقراطية، وبنهج الإخضاع المذل للشعب، وخطاب النفاق والتبجيل الراكب على واجهية محتقرة وهامشية من قبله.. خلقت مناخات خصبة للاحتقان المذهبي شعبياً، خاصة بوجود قوى داخلية وإقليمية وخارجية تعمل على خطه وصولاً للاحتراب إن أمكن ..
مع ذلك، وعلى طول أيام وأشهر الثورة الثورية العظيمة.. كان المحتوى الجمعي أبرز سماتها، في رفضها لأي طرح طائفي، وتأكيدها على الوحدة الوطنية، وعلى أنها ثورة الحرية لسورية الشعب، وسورية الكيان الموحد، وسورية الدولة المدنية الديمقراطية، وعمل شبابها بكل السبل المتاحة على إجهاض محاولات النظام تشويهها، او حرفها، وقام أهلنا في حمص البطلة، وحمص العدية عاصمة الثورة، وحمص التعايش والتحضر والوسطية مراراَ، وجهاراً بتفويت مخططات النظام، وإدانة أي ردّ فعل على فعل قد يتخذ مظهراً طائفياً يقذف به النظام بعض الشبيحة المجندة من قرى معينة ليكونوا وقود حقده ومحرقته، وقد حدث ذلك مراراً عندما تصدى شعب حمص لكل محاولات الانجرار لهذا المغطس الرهيب، ووقع مشايخ من الطائفتين عديد البيانات المشتركة التي تدين أي مظهر وعمل طائفي، والتأكيد على الوحدة والإخاء، دون إغفال مشاركة عديد الثوار من المناطق العلوية في الحراك الثوري الحمصي وغيره .
لكن الحرب الشاملة التي يقوم بها النظام ضد المدن السورية عموماً، وحمص عاصمة الثورة خصوصاً، وما عرفته تلك الحرب من انتهاكات فظيعة للأعراض، وعمليات خطف، وقتل وتمثيل، جهد النظام على تصدير بعض أبناء الطائفة العلوية كمسؤولين عنها.. أدّت إلى بعض الانفلاتات من قبل شباب غاضب لم يستطع امتلاك جماح غضبه، أو من قبل جيوب مشبوهة ركبت على خط الثورة، ولعلها تحمل أجندات غريبة عنها.. فتمّت بعض العمليات المكروهة التي استطاع الثوار احتواءها، وتطويقها بالتعاون مع مشايخ الطائفتين، وحفاظاً على نقاء الثورة وجوهرها . وفي جميع الحالات، ورغم التهويل الذي حدث، وهذه الضجة من قبل أبواق النظام، أو من قبل عديد الأصوات الصارخة، ومعها دوائر إقليمية وخارجية عن الحرب الأهلية.. فإن وضع ردّ الفعل المنفرد، والمشتت في ميزان واحد مع النظام الطغمة موقف غير سليم، لأنه يريد أن يغطي جرائم النظام ومسؤوليته الأساس في كل ما يجري، بما في ذلك أفعال طائفية يمارسها بدفع وتجنيد وتأجيج يعرفه القاصي والداني .
5 ـ إن إدانة الفعل الطائفي من أية جهة جاء، مع أنه بديهي، إلا أنه في الحالة الراهنة موقف يصبّ في طاحونة النظام، لأنه، ومع الموافقة على محتواه بالتأكيد، يريد أن يضع الثوار، والشعب الذبيح، والمضطهد على قدم المساواة مع القاتل، المجرم، بينما يمكن أن يؤدي ذلك إلى منح القاتل صكوك المشروعية عما يقوم به من قتل منظم، ومن تأجيج طائفي مبرمج هو جزء من مشروع دفاعه عن بقائه، ولو كان الثمن تلال الجماجم من الشهداء، ولو كان الوطن المعرض للحرب الأهلية هو النتيجة.
نعم الثورة السورية ضد الفعل الطائفي، وهي الأحرص على الوحدة الوطنية لأنها ليست ثورة دينية، أو مذهبية، وليست لهذه الطائفة ضد الآخر، وإنما هي ثورة شعب يستهدف انتزاع الحرية لجميع المكونات بغض النظر عن مواقعها الآن ومواقفها من النظام، وبعيداً عن وجود فئات شعبية مخدوعة أو محقونة طائفياً، لأن دولة المواطنة والمساواة لا يمكنها أن تكون عرجاء ومشوهة، أو وقفاً على قسم من الشعب دون بقية الفئات .
من جهة أخرى فإن تعزيز نهج التسامح والمصالحة، وإدانة منطق الثأر والانتقام هو نتاج طبيعي للثورة يلد من رحمها الخصب طالما أنها ثورة شعبية للحرية والكرامة .
6 ـ الذي لا شكّ فيه أن جميع أطياف المعارضة، والحراك الثوري بالأساس مدعوون للارتقاء إلى مصاف وعي أخطار الكلمة والتصريح والتصنيف، ووعي موقع الوحدة الوطنية في صلب الحاضر والمستقبل، كما هم مدعوين لمزيد من تفصيح المواقف والعمل الدؤوب لانخراط فئات شعبنا كلها في الثورة بكل مستلزمات وتجسيدات ذلك في الموقف والهيئات والمجلس الوطني، وعموم التحركات والتصريحات، والتركيز على فضح هوية النظام ومحاولاته الإجرامية لجر بلادنا إلى قاع صفصف .
وعلى هذا الأساس فإن الابتعاد عن استخدام كلمات ومصطلحات الأقليات ومماثلها، واستبدالها بالمكونات والأطياف يحمل مداليل تتجاوز الخندقة، وتستلزم تفصيح الرؤى القادمة لمستقبل سورية المنشودة، وأعمدة بناء الدولة المدنية الديمقراطية .