نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

عامٌ من الألم

19/09/2024 - الياس خوري

الصراع على دمشق.. إلى متى؟

13/09/2024 - جمال الشوفي

( ماذا نفعل بالعلويين؟ )

12/09/2024 - حاتم علي

(عن الحرب بصفتها "الأهلية" ولكن!)

07/09/2024 - سميرة المسالمة *


هذه العروة الوثقى





لا ينبغي القول: إن الأيديولوجيا الناصرية ـ ولا أيديولوجيا أي تيار آخرـ دينية أو إسلامية، إننا بذلك نسبغ عليها قداسة لم تكن لاجتهادات وأفعال بشر، لكن النظر العجول في ثوابت الناصرية .



يعطينا فكرة معقولة عن توافقها مع روح وضوابط الشرع الإسلامي، فالأيديولوجيا الناصرية ـ أولا ـ أيديولوجبا توحيدية، والتوحيد القومي ـ كما يقول د. محمد عمارة ـ هو الوجه الآخر للتوحيد الديني، كانت وثنية الجاهلية تجد رموزها في تعدد آلهة القبائل، وجاء التوحيد الديني ليوحد هوية القبائل والشعوب المستعربة وبدمجها في أمة ودولة، ومن هنا كانت 'العروة الوثقى' بين التوحيد الديني والتوحيد القومي، وبلغ من ارتباط التوحيد القومي بالديني حدا اعتبرت معه وحدة الدولة حقا تقتضيه فريضة الزكاة الدينية، ومن ثم كان قتال خلافة أبي بكر الصديق لمن ارتدوا عن وحدة الدولة القومية رغم إيمانهم بأصول الدين .

والأيديولوجيا الناصرية ـ ثانيا ـ أيديولوجيا جماعية مساواتية، تؤمن مع الكفاية الإنتاجية بعدالة التوزيع وتكافؤ الفرص، وتؤمن بقيمة العمل كحق وواجب ومصدر للسلطة والثروة والمكانة الاجتماعية، والمساواة في الإسلام حجر زاوية وقيمة مقدسة، والمساواة لاتعني 'المثلية ' بل تعني أن تتساوى الفرص كأساس مقبول للثواب والعقاب في الدنيا والآخرة ـ كما كان عبد الناصر يقول دائما ـ والإسلام لايعترف بأي ثروة أو جاه لا يكون مصدره العمل أو الميراث، ويحرم الاستغلال أو الربا تحريما قاطعا كما في قوله تعالى: 'يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة' (سورة آل عمران من الآية 130) والمساواة قيمة لعبت أبلغ الأدوار في التاريخ الإسلامي، ويذهب الأمريكي 'ليونارد بايندر' إلى أن مبدأ المساواة الإسلامي تجسد في رغبة عبد الناصر بإنشاء مجتمع سياسي موحد، واستعاضته عن نظرية الحسم الدموي لصراع الطبقات في الماركسية بمبدأ المساواة، وهو ما يفيد في دعم وحدة الشعب ضد الإمبريالية ويوحد الطبقات الحضرية والريفية وصغار الملاك .

والناصرية ــ ثالثا ـ ليست أيديولوجيا فئة أو طبقة بذاتها، إنها أيديولوجيا أغلبية الشعب الحالمة بالمساواة والوحدة، وأيديولوجيا الشعب المهاجر إلى المثال المنشود، الناصرية تنحاز للكثرة الكادحة ضد القلة المسيطرة، والقرآن ليس لطبقة، إنه للناس والقرآن يطلق على الكعبة اسم 'بيت الناس'، ويقول المفكر الإسلامي الإيراني الراحل علي شريعتي: إن القرآن يميز بين طبقتين في الصراع الاجتماعي هما قطب قابيل وقطب هابيل، قطب قابيل يحتكر الثروة والسلطة، قطب قابيل هو قارون وفرعون وبلعام ممثل السلطة الدينية الكافرة، وقطب هابيل هم الشعب 'هم الناس الذين يقف معهم الله دائما' .
وثمة خيط قوي يشد الناصرية إلى الإسلام، نعم يدور عمل الناصرية في مجال ذي استقلال نسبي، وتظهر فعاليتها ـ كايديولوجيا وضعية ـ في شؤون التغيير والبناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي بما يتوافق ولا يجب نصا قطعيا في الشرع الإسلامي، لكن تصورات الناصرية المنهاجية الفلسفية تبدو مشتقة من النص القرآني وقيم الحضارة العربية الإسلامية .

وللناصرية عدد من الثوابت المنهاجية الحاكمة، كلها تدور حول الأقانيم الثلاثة في الفكر العربي الإسلامي ـ كما يحددها د. عابد الجابري ـ 'الله' و 'الإنسان' و 'الطبيعة'، ونظرة الناصرية إلى الله هي النظرة المستقرة إسلاميا ذات الطابع التوحيدي بلا شبهة، فالناصرية تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسالاته، أما الطبيعة فإنها محكومة بسنن لا تتبدل، والمجتمع يتطور بقوانينه وصراعاته 'التي لا يمكن إنكارها' وكل شيء يبدأ بالإنسان 'قائد التطور التاريخي الاجتماعي' و 'العمل الإنساني هو المناخ الوحيد للتقدم وكل ما يعيق إرادة الإنسان، ويحد من فاعلية دوره، مواقف غير إنسانية غير أخلاقية وجب على الإنسان التصدي لها' كما يقول عبد الناصر.
نعم، كان عبد الناصر متأثرا بالماركسية، لكنه لم يكن ماركسيا، وكان يؤمن بصورة عامة بنسق القوانين التاريخية 'قوانين الحركة' المشتقة عن إنجازات هيغل الفلسفية ثم عدلها ماركس على نحو مادي، وكان يميل إلى الاعتقاد بفاعلية المنظومة المفهومية الرباعية لقوانين العمل الاجتماعي: مفهوم الحتمية التاريخية، مفهوم التقدم على مراحل كسمة عامة للتاريخ، مفهوم تأثير العوامل الاقتصادية في التطور التاريخي، ومفهوم الصراع الطبقي، لكن عبد الناصر رفض على الدوام اعتبار صراع الطبقات قوة دافعة وحيدة لحركة التاريخ، ورفض الارتكان إلى التفسير المادي وحده، وكان يضيف العناصر المعنوية والروحية وإرادة التغيير لدى الإنسان إلى منظومة الصراع المجتمعي المعقد ومتعدد الجوانب، ويرى في التطور التاريخي عموما اتجاها حتميا نحو التقدم يصنعه 'نضال الإنسان الحر عبر التاريخ' من أجل حياة أفضل طليقة من قيود الاستغلال والتخلف في جميع صورها المادية والمعنوية .

رفض عبد الناصر مفهوم المطلق غير الإلهي في المثالية الهيغلية، ورفض مفهوم المطلق الطبقي في المادية الماركسية، وانحاز إلى التسليم بالمطلق الإلهي وبدور الإنسان غير المتعين وجودا وعدما بموقعه من علاقات الإنتاج فقط، ورفض مفهوم ديكتاتورية الطبقة العاملة منحازا إلى ديمقراطية الشعب العامل، وركز على الفاعلية الشعبية في تنظيم سياسي جامع.
ورسالة الدين لدى عبد الناصر ثورية، إنها تمثل على نحو ما يد الله الممدودة ليد الجماعة الساعية في التاريخ، يقول عبد الناصر: 'إن جوهر الرسالات الدينية لا يتصادم مع حقائق الحياة، وإنما ينتج التصادم في بعض الظروف من محاولات الرجعية أن تستغل الدين ضد طبيعته وروحه لعرقلة التقدم، وذلك بافتعال تفسيرات له تتصادم مع حكمته الإلهية السامية'، ويقول: 'إن جوهر الأديان يؤكد حق الإنسان في الحياة والحرية، بل إن أساس الثواب والعقاب في الدين هو فرصة متكافئة لكل إنسان، وإن كل بشر يبدأ حياته أمام خالقه الأعظم بصفحة بيضاء يخط فيها أعماله باختياره الحر، ولا يرضي الدين بطبقية تورث عقاب الجهل والمرض والفقر لغالبية الناس وتحتكر ثواب الخير لقلة منهم'.
ويبقى أن ما يشد الناصرية إلى الإسلام، ليس فقط الاعتزاز بحرية الإرادة الإنسانية الواعية بسنن الكون والتاريخ والمجتمع، وليس فقط منظومة القيم الإسلامية الهادية والمرشدة للفعل الإنساني، بل إنها ـ أي الناصرية ـ تشتق من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية روحها في الحياد أو التوازن الفلسفي، والحياد الفلسفي ليس نوعا من الحلول الوسط ولا وقوفا في منتصف الطريق، بل ديالكتيكية (جدلية) متحررة من المذهبية الضيقة، فقد وازنت الناصرية في النظر للتطور الاجتماعي والتاريخي بين الاعتراف بالحتمية دون أن تجعلها قيدا على حرية الإرادة الإنسانية، ووازنت الناصرية بين اعترافها بصراع الطبقات وحله سلميا بتذويب الفوارق في إطار من الوحدة الوطنية، ووازنت في العمل التنموي بين ترك فرصة لحوافز النشاط الفردي ووضع آليات للسيطرة الجماعية على أدوات الإنتاج في الوقت نفسه، وكل ذلك جعل من الناصرية نسقا منفتحا لا دوغما منغلقة، وتلك خاصية تتسق مع ما يطبع ميراثنا الحضاري من توازن وتمازج بين ما يرى أنه متناقضات أو متقابلات في حضارات أخرى، فقد وازنت الحضارة العربية الإسلامية بين المادية والإيمان، وعرفت نوعا من 'المادية المؤمنة' ـ فالعالم قديم لأنه خلق الله 'وأغلب فلاسفة الإسلام ومتكلميه يقولون: إن فعل القديم قديم، ووازنت حضارتنا بين الدنيا والآخرة وجعلت صلاح الدنيا وعمارتها شرطا لصلاح الدين وإقامته، ووازنت حضارتنا بين العقل والنقل مع إعطاء الأولوية للعقل، ووازنت حضارتنا في الدنيوية التي اختص بها العقل الإنساني يبدع فيها خلقا وتطويرا متسقا مع المصلحة والشرع .
إذن فنحن أمام 'عروة وثــــقى' ربطت الناصرية بالإسلام، وتلك صورة تختلف عن مشهد القطيعة المصطنع فوق خشبة المسرح.


عبد الحليم قنديل
الثلاثاء 1 سبتمبر 2009