ما يعرفه جميع السوريين، بمن فيهم المؤيدون، أن الوزير مجرد موظف كبير لا دور له في تقرير السياسات العامة، ووزير الدفاع تحديداً لا يحظى حتى بكونه قائداً للقوات المسلحة، المنصب الذي يستحوذ عليه الرئيس وفق الدستور. إذاً، لم تكن الانتقادات التي نشرها الموالون على صفحات التواصل الاجتماعي مسددة مباشرة إلى حيث ينبغي، وأصحابها على الأرجح تحاشوا الحرج، فهم يريدون التغيير من قيادتهم نفسها التي يدركون أنها أخطأت كثيراً، والتغيير في أصحاب المناصب الوزارية لا يعدو كونه إشارة من القيادة إلى اكتراثها بهم وبمتطلباتهم. هي رسالة منها بمعنى «سمعتكم» بَدَل «مَنْ أنتم».
يُرجّح أيضاً أن قسماً من الموالاة بات يعتقد نفسه مشاركاً للنظام، وينبغي أن تؤخذ كلمته في الحسبان، ظناً منه أن تجاهل النظام لمطالب السوريين يقتصر على فئات بعينها. وفق مَنْ يعتقدون بذلك، من المنطقي أن تتجاهل «القيادة الحكيمة» مطالب أهالي درعا بإقالة ومحاكمة قريب الرئيس الذي تسبّب مباشرة بنقمتهم على النظام، ومن المنطقي كذلك تجاهل النظام مطالب الأكراد بإقالة محافظ الحسكة الذي حرّض مباشرة على إطلاق النار على المتظاهرين قبل عشر سنين، ما أدى إلى اندلاع الانتفاضة الكردية حينها. وفق المنطق ذاته، الحفاظ على رستم غزالة وجامع جامع، وآخرين ممن مثّلوا على أسوأ وأرخص نحو، عهد الوصاية السورية في لبنان، يُعدّ فعل قوة وصمود في وجه الضغوط. حتى تجاهل النظام للمطالب البسيطة لعموم السوريين طوال عقود سيُنسى، من جانب الموالين، تحت وهم تمايز السوريين الحالي وامتحان النظام مؤيديه الحقيقيين، أي أن ذلك التجاهل يعود إلى عهد خلا، لا يتسم بالانسجام الحالي.
الطعنة الأكثر إيلاماً هي ما سُرِّب خلال الأشهر الأخيرة عن مفاوضات يجريها النظام مع معارضين ودعوتهم للانضمام إلى الحكومة الجديدة، فالمعارضون «الخونة وفق إعلام النظام وموالاته» ظهروا أقرب إلى المشاركة في السلطة من أولئك الذين ضحوا بأبنائهم قرباناً لبقاء الحكم. لا تخرج عن هذا الإطار الانتقادات اللاذعة التي يوجهها جمهور الموالاة الى أداء وزارة المصالحة الوطنية؛ جمهور الموالاة يفهم، عن حق، مهمة الوزارة التي انحصرت في تقديم خدمات ضئيلة تتعلق بالمخطوفين والمفقودين منهم، مع محاولة استقطاب بعض المعارضين الصغار في الخارج تحت شعار «العودة إلى حضن الوطن». ولكن، في ملف المخطوفين والمفقودين تحديداً، يشير الموالون إلى فساد كبير ومبالغ طائلة دفعها الأهالي كرشاوى، من دون الظفر بعودة أبنائهم. وزير المصالحة الوطنية بقي هو نفسه في التشكيلة الجديدة أيضاً.
سيكون مهماً التنويه بأن واحداً من وعود النظام لمواليه قد تحقق، فروايته عن المتطرفين الإرهابيين الذين يهددونه أصبحت واقعاً مع مشاهد الذبح البشعة التي بثها «داعش» لقتلى قوات النظام في مدينتي الرقة والطبقة. انتهت اللعبة، أو انتهى التواطؤ بين النظام ومؤيديه والذي ينص على ترويج رواية النظام عن متطرفين سيذبحونهم؛ الفزاعة أصبحت حقيقة من لحم ودماء غزيرة. فحوى التواطؤ بين الطرفين كان ينص على ترويع البسطاء من حاضنة النظام لدفعهم إلى القتال، وقد وصل قبل أشهر قليلة حتى إلى امتداح عدم قصف قوات النظام «داعش»، ما دام الأخير يقاتل تشكيلات المعارضة الأخرى، ظناً من الموالين أن «داعش» نصفه فزاعة لبسطائهم ونصفه الآخر صناعة ذكية من النظام للقضاء على المعارضة.
المفارقة، ربما، أن مناشدات المتظاهرين السلميين، في بداية الثورة، لم تنفع في زحزحة الموالين عن صلابة تأييدهم، وحتى مقتل عشرات الآلاف من قوات النظام في المعارك مع قوات المعارضة لم يُثِر لديهم تساؤلات من قبيل: «إلى متى؟» أو «لمصلحة مَن؟». مذبحتان لـ «داعش»، التنظيم الإرهابي المتطرف حقاً، أثارتا من الانتقادات في صفوف معسكر الموالاة ما عجزت عنه أطياف المعارضة كلها خلال ما يزيد على الأربعين شهراً! إنما ليس من المفارقة بتاتاً أن الموالين والنظام كانوا طوال الوقت يريدون خصماً متطرفاً يبرر لهم مذابحهم في حق الآخرين، شرط ألا يكون خصماً قوياً وقادراً على تحويل مخاوفهم حقيقة.
التشكيلة الحكومية الجديدة رسالة من النظام لأتباعه فحسب، فحواها أنه لن يتغيّر، ولن يسمح لهم بالمشاركة سوى بدمائهم، ولن يسمح لهم بالاعتراض حتى على النقص الحاد في الكهرباء. ما شاهده الموالي خلال سنوات الثورة ليس جرائم وارتكابات في حق الآخرين فقط... هي طبيعة النظام الذي ضحّى من أجل بقائه، وحتى مذابح «داعش» لا تختلف من حيث الجوهر عن مذابح مثل الحولة والقبير وغيرهما، والأخيرة ليست انتقاماً لِمَنْ ذبحهم النظام بل هي استكمال لنهجه. بعدم التغيير، يثبت النظام لمواليه أنهم ليسوا أعز عليه من أهالي درعا، أو غيرها من المدن التي طالبت أولاً بالإصلاح. قد يتحايل بعض الموالاة على خيبته، فيميّز بين «مؤسسة» الجيش والنظام، لكنه مع الأسف غير قادر حتى الآن على الوصول إلى منتهى الفصل بينهما والمطالبة بانتزاع الجيش من قيادته الفعلية، ومحاكمتها على جرائمها في حق أبنائه.
مع ذلك، لا أخبار ســــارة لدى الموالين تشي بتحول سريع أو جدي. الأخبار غير السارة تبدأ من أنهم باتوا يتحسسون المرارة في حلوقهم، ويدركون قيمتهم الحقيقية لدى من أرادوه «رباً» على الآخرين. الأخبار غير السارة لا تنتهي عند كونهم سوريين أسوة بغيرهم، ولا حظوة لهم بهذا المعنى. ولكن متى كان هذا النظام مبعث بهجةٍ لأحد، باستثناء بطانته المقرّبة؟
-------------
الحياة