مع كل دمار ارتكبه كان يغادر المكان موقناً بأنه لن يعود إليه. وبين خيارين، أولهما مواصلة السيطرة على كل سورية، وثانيهما تحطيم البلد وتركه لأهله ينشغلون عقوداً بإعادة إعماره، من الواضح أنه ماضٍ في الخيار الثاني. وهو مستمر فقط لاستكمال مسلسل التدمير المنهجي، فحتى الذين اعتقدوا أنه يريد توظيف «معركة دمشق» في تحسين موقعه التفاوضي لاحقاً لا يرون في نهجه العبثي ما يمكن أن يكون مجدياً في ما يدّعي تمثيله أو لمن يدّعي الدفاع عنهم، فبالنسبة إلى السوريين لم تعد هناك دولة، يتساوى في ذلك أن يكونوا موالين أو معارضين.
ولا أي معركة دخلها النظام وأنهاها على النحو الذي يؤكد أنه خاضها نصرةً لـ «الدولة» فكرة ومفهوماً وإطاراً جامعاً، حتى أن العالم يستغرب كيف أن المبعوثين الدوليين يقابلون بشار الأسد باعتباره رئيساً وممثلاً لدولة وشعب طالما أن يتصرف كأسوأ أنواع «أمراء الحرب». ظنّ النظام أن «ثقافة» الإخضاع والجلافة والتشبيح واستباحة الكرامات والحرمات وتسليط طائفة على سائر الطوائف يمكن أن تديم السلطة إلى الأبد، ولم يفطن إلى أنها سترتدّ عليه في النهاية، إذ لم تتح له منذ بداية الثورة التفاهم مع أي فئة أو تحييد أي منطقة، إلى حدّ أن من تعاطفوا معه لدوافع طائفية ومذهبية أو لمجرد أنهم انتموا إليه وعملوا معه لم تعد لهم بوصلة يهتدون بها إلى مستقبلهم في البلد.
يُستدلّ من خريطة المعارك العسكرية في مختلف المناطق أن النظام تهيّأ منذ وقت طويل لمثل هذه الحال، أي لمواجهة مع الشعب، ولذلك زنّر المدن وأريافها بعشرات المطارات والثكن التي تمتد على مساحات كبيرة مكشوفة، تتجمع فيها الآليات الثقيلة وراجمات الصواريخ وتنطلق منها الطائرات الحربية للإغارة هنا وهناك، وبالتالي تصعب السيطرة عليها خصوصاً إذا لم تكن لدى المهاجمين الأسلحة والمعدّات المناسبة. في الآونة الأخيرة، وبسبب إعادة هيكلة المعارضة وفي انتظار اكتمال الربط بين المجالس العسكرية واعتماد قيادة موحّدة لها، تباطأ وصول الأسلحة من الخارج شحيحاً، لكن «الجيش الحرّ» وجد بديلاً في التزوّد من مخازن تخلفها القوات النظامية بعد انسحابها.
منذ منتصف تموز (يوليو) المضي أصبح واضحاً أن معركتي حلب ودمشق قد بدأتا، لكن العاصمة الاقتصادية كانت أكثر جاهزيةً. وعلى رغم أن النظام حشد قواته لتأمين سيطرته على حلب، معتبراً أن الحسم فيها يدرأ الخطر عن العاصمة السياسية، إلا أن العكس هو الذي حصل. لم يتمكّن النظام من إخراج جيش المعارضة من وسط حلب على رغم القصف الشديد وعدم التردد في حرق أسواقها التاريخية وتدمير أحياء عدة فيها، بل فقد التوكّؤ على موقع معرّة النعمان، ثم خسر مواقع في غرب حلب، فيما تسارعت الانهيارات في دير الزور. والأكيد أن انتشار القوات التي يثق بها النظام في مختلف الأنحاء يمكّنه من إيهام الداخل والخارج بأنه لا يزال مسيطراً، لكن القدرة على القصف والتدمير لا تعني وجود سلطة ودولة.
هذا التوزّع للقوات يحول دون تجميعها للقيام بعمليات لتأمين المناطق المحيطة بوسط العاصمة وإبعاد «الجيش الحر» عنها، لذلك فإن «معركة دمشق» مرشحة لأن تطول وتكون كسواها من المعارك، فلن تحسم بوضوح لمصلحة أي طرف إذا ما أبقت الدول الداعمة على المـستـوى الحالي لتسلّح المعارضة. وإذ اتضح أن قبضة النظام على الريف الشرقي تـتلاشى راح الضغط يتركّز على غرب دمــشق وجنوبهـا الغربي، تحديداً على محوري داريّا والمزّة حيث المطار المدني والمطار الآخر العسكري الذي لا يفصله عن داريّا سوى كيلومتر واحد وهو يستقبل طائرات التسليح الروسي والإيراني كما يُستخدم للتنـقلات المحتملة للرئيس والمـسؤولين. ومهما بذل النظام لحماية هذين المطارين فـإنهما لم يعودا آمنين، بالأخص المدني، لأن المناطق المحيطة بهما واسـعة ويـسهل على قـوات «الجيش الحر» اختراقها.
صحيح أن ميزان القوة النارية لا يزال لمصلحة النظام إلا أن تكتيك حرب المدن الذي تتّبعه المعارضة يغيّر هذه المعادلة. وباستثناء مناطق سكنى العسكريين العلويين، وهي معروفة ومحاطة بمناطق انضمّت إلى الثورة، أصبحت هناك سيطرة ثنائية مشوّشة يزداد كل يوم انحسامها لمصلحة المعارضة. وهكذا فإن النظام يخوض «معركة دمشق» وكأنه محاصر، جاعلاً من ثلاثة شوارع (المالكي وأبو رمانة والحمرا) معقلاً له، مع منافذ شبه مفتوحة وآمنة غرباً عبر المزّة وشمالاً عبر قاسيون التي كان جبلها ولا يزال مقرّاً للفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، وتحوّل غابة مدافع ومنصات صواريخ ومصدراً رئيسياً لدمار دمشق، أقدم مدن الشرق وأكثرها عراقةً. في أي حال لا تزال المعركة في بداياتها، وهي الأخيرة بالنسبة إلى النظام لكن يصعب القول أنها ستكون، كيفما انحسمت، الأخيرة في المحنة السورية.
ومع وصول المعركة إلى عقر دار النظام واضطراره للدفاع عن معقله الأخير، لم يعد واضحاً ما الذي يأمله من الاستمرار بالحديث عن حلول سياسية، أو ما يتوقعه من حليفيه الروسي والإيراني، ومن اتصالاته عبر مراكز البحث الأميركية ذات الصلة بالإدارة، أو ما الذي يرجوه من الحفاظ على علاقة وثيقة بأفراد في الحكومة البريطانية... فهذه الأطراف غازلت وتغازل الحلول غير العسكرية، وحالت وتحول دون تمكين المعارضة من إسقاطه، لكنها في الوقت نفسه صُدمت بتعطيله أي مسار انتقالي لا يضمن مسبقاً بقاء الحكم الأسدي على حاله، حتى بعد نهاية ولاية بشار في 2014، وحتى لو كان البديل الموقت علوياً «مقبولاً». فكل السيناريوات التي جرّبتها موسكو وبكين وحتى طهران، مستندة إلى «اتفاق جنيف» باعتباره يحظى بـ «قبول أميركي»، اصطدمت بالرغبات القصوى للأسد. فعلى رغم اعتماده على روسيا التي حمته من خطر التدخل الخارجي فإنه تطلع منذ اللحظة الأولى إلى «تسوية» مع الولايات المتحدة تضمن نظامه وتبقيه لاعباً إقليمياً ضامناً أمن إسرائيل لقاء «إصلاحات» في الداخل، إلا أن انخراطه في اللعبة الإيرانية ضد أميركا لم يسعفه في لحظة تراجعه، ثم أنه لم يدرك التغيير الذي طرأ على السياسات الدولية بعد ثورات «الربيع العربي» ولم يعترف بجدّية الدعوات إلى وقف العنف والقتل ولم يلتقط جيداً الإشارات المتكررة إلى نهاية تجربة حكم الأقلية للغالبية.
من الطبيعي أن تتعاظم الخشية الدولية حالياً من احتمال استفراد النظام السوري بمنطقة في محيطي دمشق أو حمص لاستخدامها كنموذج للردع بالسلاح الكيماوي. ولا يُعوّل على تحذير واشنطن بأن هذا «خط أحمر»، أو على التوعّد الدولي بملاحقته ومعاقبته، كي يرتدع النظام أو يتردد، بل لعلها تشجعه طالما أنه تجاوز كل الخطوط الحمر ولم يتعرض لأي إزعاج. فهو خطط للمذبحة الكبرى ويريد أن يذهب إليها ظانّاً أنها ستكون رادعاً مستقبلياً وبالتالي ضماناً للكيان الطائفي الذاتي الذي يعتبره حداً أدنى وحلاً أخيراً. وفي هذا السياق يمكن أن يوافق على اقتراح الأخضر الإبراهيمي إرسال «قوات دولية لحفظ السلام» لكن بعد المذبحة، وبعد أن يتوّج وحشيته باستخدام غاز السارين ضد معارضيه من أبناء الشعب.
---------------------------