ذلك هو التعريف "الثوري" لمصطلح الثورة من وجهة نظر المادية التاريخية، أما الفكر البورجوازي فلا يشترط اقتران الثورة بتغيير أوضاع الملكية، وهذا ما يفسر وصف كثير من التطورات التاريخية الطبيعية بـ " الثورة " كما في تسمية الزمن اللاحق للنهضة الأوربية بعصر "الثورة الصناعية " والزمن التالي لها بعصر " ثورة الاتصالات " و"الثورة المعرفية " ...الخ وهي تعبيرات مجازية مقصود منها تفريغ مصطلح الثورة من مضمونه الإنساني وتحويله إلي لعبة من ألعاب اللغة .
ولما كانت اللغة هي وعاء الفكر، بل ربما تكون هي الفكر ذاته؛ فلقد برهنت القواميس العربية على غياب مصطلح الثورة بالمعاني السابقة ، إذ تشير تلك القواميس إلى معان جد مختلفة : الهيجان ، والهياج ، والفتنة ، وتأليب الرعاع على الحاكم ....الخ بل إن ابن منظور صاحب "لسان العرب" لا يلتقط من الجذر اللغوي للكلمة غير " الثؤرة " أي طلب الثأر الذي هو " الذحل" أي العداوة والحقد. وهذا كله مفهوم ومنطقي بحسبان أن المصطلح ُيصك حسب ُ حين يكون القوم بحاجة إليه ، وحيث غاب عن العرب معنى السياسة – كما بين ابن خلدون في المقدمة – فلقد كان طبيعيا ً أن ينصرف مدلول الثورة عندهم إلى تلك الأغراض البائسة.
وقياسا ً على تخلف هذا "الما صدق" لمفهوم الثورة عن الممارسة Praxis في التراث اللغوي العربي ، رأينا أبناء العربية المعاصرين يستوردون قشرة المفهوم من اللغات الأجنبية ليزرعوها زرعاً فظا ً في أرضهم كلما جاءهم انقلاب عسكري أو قاموا بتمرد أو بهبة جماهيرية محدودة المطالب ما يكرس في لغتهم ذلك الغياب الوجودي - بحد تعبير جاك دريدا- للثورة بمعناها العلمي الدقيق.
ربما يحاج أحدهم قائلا: وفيم الضرر لو استخدم الناس تعبير " الثورة" في موضع " الانتفاضة" Rising up ؟ الجواب: هو ضرر كبير لا ريب فيه. لأننا لا نطابق بين المتزوج Marred وبين الخاطب Engaged حيث الأول له مركز قانوني تحق به الحقوق ، أما الثاني فله – كما يقول فقهاء القانون – مجرد الأمل. وهذا بالضبط ما يفسر لوعة وفجيعة من قاموا بانتفاضة يناير حين يروون معظم مطالبهم لما تتحقق بعد. ولعلهم يهدأون قليلا لو عكفوا على ضبط المصطلح ، لأدركوا عندئذ أن امتلاك الأمل (في انجاب أطفال من الجميلة) شئ ، وممارسة حقوق الزوج شئ آخر. ذلك ما لا يماري فيه أحد لارتباط مغزاه بتجاربنا الاجتماعية من قديم العصور، في حين تختلط مفاهيم التمرد والانتفاضة والهبة بمفهوم الثورة بسبب قطيعته الأنطولوجية والإبستيمية مع تاريخنا القديم والمعاصر.فما هو البديل اللغوي المتاح لتوطين المصطلح هذا في التربة "المصرية على الأقل " ؟ هل نعمد إلى إحياء دعوة سلامة موسي التي أطلقها في النصف الأول من القرن الماضي قصد إحلال العامية المصرية محل الفصحى الوافدة مع الفتح العربي في القرن السابع الميلادي ؟ واقع الحال يقول إن هذه الدعوة لم تلق ترحيبا ً من الأوساط الثقافية لأن ما تم إتلافه ( اللغة المصرية ) طوال تلك القرون لهو مما يستحيل إصلاحه بقرار فوقي كالقرار الذي أصدره عبد الملك بن مروان عام 708 ميلادي بـ " فرض " العربية الفصحى لغة للدواوين ، ومن الواضح أن ذلك القرار لم ينجح إلا عند المثقفين حال تأهلهم للكتابة حسب ُ بينما بقيت العامية المصرية Mother tongue لغة الأم يستخدمها في الحياة اليومية جميع الناس عواماً ومثقفين .
إن ذلك الإتلاف – غير المتعمد بالطبع - للغة المصرية إنما كان انعكاسا ً لسوء الأحوال التي أناخت بكلكلها على ظهور المحكومين المصريين طوال عصور الهيمنة الأموية فالعباسية فالفاطمية ثم العثمانية . حتى إذا بلغنا عصرنا الحالي ألفينا المصرية العامية - وقد صارت بما آلت إليه – مستهجنة ً يخجل من استعمالها السياسيون والكتاب ممن يتعاملون مع أجهزة الميديا بينما يسعدهم إقحام بعض الكلمات والتعبيرات الإنجليزية أو الفرنسية في أحاديثهم ! وهم في هذا معذورون بمقدار ما أمست عليه لغتهم المصرية من عجز فيلولوجي ومورفولوجي عن حمل الأفكار ذات المستوى الرفيع.
وبالمقابل فلا بد من التماس العذر للعامة ولغتهم القاصرة نتيجة التدهور الحياتي والثقافي المشهود واقعيا ً، وهل ُيتصور أن ُيطالب أفراد الطبقات الشعبية ، الذين يعانون أشد المعاناة في سبيل العيش ، مجرد العيش بأن ينتجوا فكرا ً ذا مضامين فلسفية، أو حتى أدبا ً رفيعاً يعبر عن هموم العصر؟!
لست أخفي أنني أنتقد هيمنة اللغة العربية التي أكتب بها ، ولكن هذا النقد الذاتي لن يكون له مردود إلا حين يتحول إلى سؤال سوسيوثقافي صيغته : إلى متى تظل هذه الهيمنة ؟ إلي أن يتم إتلافها على يد لغة أخرى؟! وهل يمكن للغة الانجليزية أن تحل محل لغتنا العربية " الجميلة" ؟ ساعتها سوف تكون الكارثة مضاعفة ، فاللغة المصرية التي انصهرت في لغة قريش سوف تنتقل من مرحلة الإتلاف إلى حالة الانقراض فالتلاشي حينذاك. فما الحل ؟
ربما يأتي هذا الحل ( المنشود بشدة )على أيدي الكتاب والأدباء والمفكرين الواعين بخطورة الأمر، وهو حل لا يلجأ إلى النصائح والتحذيرات ، بل يأتي يقينا ً عبر ترقية الإنتاج الفكري والأدبي ، وربط غايات الإبداع بالممارسات اللغوية المخصبة بفكر إنساني ينبذ الشوفينية والفاشية الثقافية ، ويحترم خصوصيات الناس جميعا ً، وبالتحديد خصوصيات الأقليات من المختلفين مع الأكثرية عقائديا ًوعرقيا ً ومذهبيا ً...الخ
يومها سوف يكون بالمستطاع ليس فقط توطين مصطلح الثورة ( المستورد ) بالتربة المصرية والعربية ، بل سيكون بمقدورنا نحن خلقه بأيدينا ، وتنشئته على أعيننا ، ثم استخدامه الاستخدام العلمي الصحيح .
***
ليس ضروريا ً أن تكون الكتابة دعوة لشئ محدد . ذلك ما يبتغيه الأيديولوجيون ، وتلامذة الهندسة الاجتماعية ممن يتعاملون مع البشر بحسبانهم " موضوعات" قل موجودات في ذاتها لا موجودات لذاتها ، وهؤلاء وأولئك فاشيون بغير شك . الكتابة الحقيقية أداة كشف، إنها أقرب لأجهزة الأشعة التي تظهر الخلل وتشير إلى موضعه داخل الجسد ، أما العلاج فعائد إلى الناس أنفسهم ، إن شاءوا استكانوا لما هم عليه ، وإن رفضوا وضعية "المفعول به "فلهم ذلك.
كل انتفاضة جماهيرية – حتى وإن نجحت في إسقاط "طاغيتها " الدكتاتور وأعوانه – لا يمكن أن ُتسمى ثورة ً ، ما لم تؤصل في روح الشعب الإيمان بأنه سيد مصيره .