دعنا نعرض عن سكة الذي يذهب ولا يعود ، أعني طريق النموذجين الصومالي والسوداني فحالهما لا يسر صديقا ً ولا حتى عدواً، ويكفي أن الأول منهما فقد دولته بكاملها، في حين فقد الثاني نصف الدولة باستقلال جنوبه عن شماله. وما ذلك إلا لتنكبهما طريق الحداثة استمساكا ً بالقبائلية والعشائرية والتناحر الديني والطائفي .
سكة الندامة مفتوحة علي النموذج الباكستاني – وهو نموذج منذر بالتحقق في مصر – وجوهره اقتسام السلطة بين العسكر والقوى الدينية برعاية أمريكية مباشرة. ومن عجب أن تزعم صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية في مقالتها الافتتاحية الأسبوع الماضي أن واشنطن حزينة ومتألمة لخطى مصر الحثيثة على طريق باكستان! وأخذت الصحيفة تعدد أوجه التشابه بين القاهرة وباكستان، خاصة في ظل تردي الأوضاع الأمنية ، مشيرة إلى محاولات المجلس العسكري الحصول على امتيازات خاصة، تجعله صاحب نفوذ سيضر حتما بمستقبل التحول الديمقراطي للبلاد ( هكذا قالت الصحيفة ) وسيؤدي لأزمة قادمة لا محالة مع الرئيس ، كما في باكستان الذي لا يخضع فيه الجيش للرئيس بل يمكنه عزله، وقد جرى ذلك مراراً وتكرارا ً. ولذلك فإن الدعم الأمريكي لباكستان تقلص مع حدة الاضطرابات بها وتراجع حقوق المدنيين، وهو ما يتكرر الآن في مصر التي يخطط الكونجرس الأمريكي لوقف المعونة عنها في سياق المزيد من الابتزاز السياسي لإبعاد الجيش نهائيا عن مراكز صنع القرار، وما لم تشر إليه الصحيفة الأمريكية بالطبع أن يتلو ذلك الانفرادُ بحكومة مهتزة لن تجادل كثيرا ً في حل مشكلة حماس على حساب الأمن القومي لمصر .
*** *** ***
ربما كان النموذج التركي هو ما يمثل "سكة السلامة" في الحالة المصرية ومن ثم يجب استعراضه من منابعه :
كان من بين النتائج الكارثية للحرب العالمية الأولى هزيمة الإمبراطورية العثمانية وضياع كل ممتلكاتها فكان أن أطاح الجنرال كمال أتاتورك بالخلافة العثمانية 1923 وبعدها رأى ومعه النخبة المثقفة من ضباط الجيش أن نهضة تركيا الحديثة رهينة بتشييد جمهورية تأخذ بأساليب الدولة اللبرالية الحديثة، مع التسليم بأن الإنسان التركي لن يتحول ثقافيا ً بين ليلة وضحاها من حالة "الرعية" إلى وضعية "المواطنة" ، ومن ثم فعلى النخبة "الواعية" أن تمهد له الطريق بالتعليم العصري والفكر المتقدم والنشاط الاقتصادي الحديث، بجانب تصديها للقوى التقليدية الرافضة لذاك التحول، فلقد دأبت تلك القوى على حشد الجماهير للمطالبة بإعادة الخلافة كما في انتفاضة الشيخ سعيد الكردي عام 1925 ثم في مناورات حكومة عدنان مندريس بتحالفها مع كبار ملاك الأرض الزراعية ممن ساءتهم التأميمات وتحديد الملكية، وبتهييجها الغوغاء على الدولة، مما اضطر الجيش إلى التدخل بانقلابه الأول في 1960، ثم بانقلاب 1971 ضداً على نجم الدين أربكان الذي حاز بشعاراته الدينية "شعبويةً" كبيرةً بين أوساط المحافظين ولدى الفئات الأكثر فقراً وجهالة. وأخيراً ولأسباب مشابهة تدخل الجيش التركي عام 1980 بقيادة رئيس أركانه الجنرال كنعان إيفرين، الذي أصبح رئيساً للجمهورية لسبع سنوات أضفي فيها الحماية على حكومة تورجوت أوزال لتستكمل التحولات الحداثية المنشودة للبلاد. وباكتمال تلك التحولات لم يعد للدولة التركية مانع أن يتولى حكم البلاد حزب يرى في الدين عاصماً من الزلل الأخلاقي والتفسخ الروحي، ما دام ذاك الحزب مؤمناً بأن الدين للديان وأن الدولة للمواطنين أيا كانت عقائدهم أو أيديولوجياتهم أو لغاتهم أو جنسهم Race أو نوعهم Gender.
فهل يمكن لجماعة الأخوان – وقد دانت لها رئاسة الدولة - أن تسعى لإجراء تحولات عميقة في أيديولوجيتها وسياساتها احتذاءً بالنموذج التركي ؟
الشاهد أن هذا التحول في مصر قد يكون سهلا في بعض النواحي خاصة وأن براجماتية الجماعة الإخوانية سوف تجنبها الصدام مع المؤسسة العسكرية، فجنرالات مصر ليسوا علمانيين كنظرائهم الأتراك فلا سبيل لاستعداء الشارع المصري عليهم بهذه الذريعة، وجراء الهدوء النسبي الذي قابل به الأخوان مسألة الإعلان الدستوري المكمل ( والمكبل ) قام الجنرالات بنقل السلطة إلى الرئيس المنتخب د. مرسي من دون التخلي عن جوهرها، فقد ُجردت جماعة الإخوان من سلطاتها في البرلمان الذي هيمنت عليه قبل حله، بينما ظل المشير طنطاوي رئيس المجلس العسكري الحاكم الفعلي ، كما تأكد احتفاظ الجيش بالسيطرة على وزارة الدفاع، ووزارات الداخلية والخارجية والعدل فضلا عن استمرار الميزات الاقتصادية الكبيرة التي تعتبر ملكا خالصاً للقوات المسلحة ُتقطع يد من يحاول الاقتراب منها كما صرح بذلك أحد الجنرالات المصريين، وكأنه يقول : ابنوا أنتم قواعدكم الاقتصادية بعيدا ً عنا .
التحول إذن متاح نظرياً ولكنه سيكون أكثر صعوبة في النواحي العملية، فأخوان مصر وإن كانوا معبرين عن قطاع من البورجوازية التجارية إلا أنهم لم يبلغوا شأو التيار الإسلامي التركي في تجميع الرساميل التجارية ( 12% من الاقتصاد القومي ) ومن ثم فلقد ظلت جماعة الأخوان المصرية ضعيفة في سيطرتها على مجمل طبقة البورجوازية التجارية الكبيرة بما يحد من نفوذها المالي ، وذلك بسبب تغوّل رأسمالية نظام مبارك السابق وهيمنتها على مساحات كثيرة من قطاع الأعمال. وهو ما يفسر نسبة النصف التي حصل عليها الجنرال شفيق في الانتخابات الرئاسية الأخيرة رغم الصخب الأخواني سياسياً تحت شعارات ثورة يناير وليس باستحقاقاتها على أرض الإنتاج القومي.
التحول إلى النموذج التركي إذن أمامه أشواط طويلة وعمل كثير لا مندوحة من مباشرته عن وعي، أقله تحجيم السلفيين وترميم صدوع الثقة عند القوى اللبرالية والانسلاخ عن التبعية لأمريكا وتجنيب الرئيس مرسي أن يكون كنزاً استراتيجياً جديداً لإسرائيل.
-----------------------
نهضة مصر