فلكنز، الذي أمضى بعض الوقت في الضاحية الجنوبية، وعلى المناطق الحدودية المحاذية لسوريا، تمكن من الحديث مع بعض مقاتلي الحزب، بل وحضور مراسم التأبين لبعض العناصر التي قضت أثناء قتالها إلى جوار النظام السوري بمواجهة المتمردين. يروي التقرير عن أحد عناصر حزب الله قوله: «إذا ما سقط بشار، فالدور علينا»، وفي موضع آخر ينقل فلكنز عن بعض قيادات الحزب، تصريحاً، يعترفون فيه بسقوط قتلى لهم في سوريا: «لقد استشهد وهو يقوم بواجبه الجهادي.. دول عربية تنفق الأموال لتدمير سوريا وحزب الله».
الصورة التي يرسمها فلكنز تعكس حزباً يشعر بالتهديد والقلق، نتيجة اقتراب الحرب إلى معاقله، وحالة من الوحدة والتوجس تسري بين قياداته، ونزعة عدمية تطغى عند النقاش، وجدل حول حرب النهايات، والموت دون التسليم بالواقع الجديد. لأكثر من عامين حاول حزب الله النأي بنفسه ـ إعلامياً - عن مجريات الأحداث في الدولة الجارة، وفي حين أطلق زعيمه حسن نصرالله تصريحات داعمة للحليف السوري بدعوى «المقاومة»، والتصدى لـ«العدو» الإسرائيلي، إلا أن تلك الخطب لم تنجح في تبرير موقفه من المعاناة الإنسانية، التي تسبب فيها النظام السوري.
لقد نال حزب الله قبولاً في الداخل اللبناني لدى البعض، لعمله «المقاوم» لتحرير الأرض، وارتفعت شعبيته عالياً منذ الانسحاب الإسرائيلي في عام 2000، بل وعدّته أوساط شعبية كبيرة في العالم العربي، بطلاً حتى بعد إشعاله حرب الثلاثين يوماً في 2006، ولكن جزءا من تلك الشعبية تعرض لنكسة قوية، بعد اجتياحه العسكري للعاصمة وبعض المناطق في 2008، حيث رأي البعض في ذلك استقواء على الطائفة السنية، وعلى خصوم الحزب من الطوائف الأخرى. برر الحزب حينها موقفه بوصفه رداً على محاولات إدانته بالاغتيالات التي لحقت بأسماء لبنانية معارضة، كان أبرزها رفيق الحريري، رئيس الوزراء الراحل. مع ذلك كانت هناك أوساط شعبية متفهمة، أو متقبلة بصمت لموقفه، ولكن مع اندلاع الأحداث السورية، وجد الحزب نفسه في مأزق أخلاقي، حيث كان الشارع في أكثر من بلد عربي، متعاطفا مع المظاهرات السورية، ولأجل وقوف حزب الله غير المعتذر إلى جانب النظام السوري، تولد نوع من الحنق والغضب تجاه الحزب الذي قرر الوقوف في صف نظام يقتل مواطنيه، بل ويرسل عناصره للمشاركة في حرب أهلية في دولة مجاورة. حين بدأت أحداث ما عرف بـ«الربيع العربي»، اتخذت قيادات الحزب الموقف الرسمي الإيراني الداعم لإسقاط الأنظمة، ولكن حين طالت الانتفاضات، الحليف السوري تغيرت قواعد اللعبة، فانحاز الحزب للنظام على حساب المواطنين السوريين العزل. يمكن اعتبار ذلك اللحظة الفاصلة التي خسر فيها الحزب شعبيته الإقليمية، بل وتحول إلى خصم طائفي وأيديولوجي لدى قطاعات شعبية واسعة في المنطقة. لا شك أن حزب الله يمر بأصعب أيامه حيث لم يعد بطلاً، بل عدو بغيض للجماهير ذاتها، التي كانت تتغنى بإنجازاته قبل سنوات قلائل. هذه الخسائر قد تغير على المدى المنظور موقع الحزب وقوته ليس في لبنان فقط، بل في عموم المنطقة التي باتت تعدّه أداة مشاركة في قتل الأبرياء. ربما لم يدر بخلد قادة الحزب أن تتحول كل إنجازاتهم إلى عبء ثقيل، ولعل السؤال الأبرز اليوم: ما هو مستقبل الحزب في ضوء ما يجري؟
بداية لا بدّ من الإشارة إلى أن الحزب على الرغم من خسارته الجسيمة، لا يزال يمتلك بعض الحلفاء داخل لبنان وخارجه، لا سيما في أوساط بعض الأقليات التي تشعر بأنها مهددة، وهو فوق ذلك لديه ترسانة من الأسحلة وعمق شعبي شيعي، يشجعانه على الاستمرار - أو الاستئثار ـ بالقوة العسكرية في محيطه، ولكن على الرغم من ذلك، فإن هنالك تهديداً حقيقياً لقدراته تلك، مع اضطرار المعارضة المسلحة السورية للرد عسكرياً على مواقعه الحدودية، وفي حال سقط نظام الأسد، فإنه ليست ثمة ضمانات له من أن تتوجه تلك الحرب إلى مناطق نفوذه داخل لبنان، وقد تحيله إلى قوة صغيرة بإزاء قوى عديدة أكبر منه، ولعله من الضروري التساؤل هنا عن بدائل الحزب ما بعد سقوط الحليف التقليدي، الذي كان يوفر له المعبر الآمن مادياً وعسكرياً من إيران؟
هنا ينبغى ألا ننسى أن الحزب وجد وترعرع قبل أن تتوثق العلاقات الإيرانية/السورية، بل لقد خاض الحزب نفسه معارك مع السوريين، لفرض نفسه كواقع عسكري مواز للسوريين، ومستقل عن إرادتهم.
وخلال السنوات التي سبقت الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، كان الحزب يصرح بأنه وحده صاحب الكلمة العليا في ما يجري، ولكن على الرغم من ذلك فإن الحزب - الذي بني أساساً لغرض عسكري - لم يستطع منذ هيمنته على الحكومة اللبنانية عام 2004، أن يطرح نفسه بديلا سياسيا للدولة اللبنانية، رغم كل ما قدمه هو أو ربيبته الإيرانية، ولعل ذلك ما يقلق الحزب في الوقت الراهن، وهو أنه سيكون مجبراً على تغيير مساره الراديكالي، ليكون أكثر تصالحاً، ومقبولية في بيئته اللبنانية فضلاً عن أن يستعيد شعبيته في المنطقة، بعبارة أخرى الحزب اليوم مخير بين أن يخوض حربا إقليمية لاستعادة ما فقده من حضور معنوي وعسكري، أو استحداث طريق «سلمي» يغير فيه من فلسفته - إن لم يكن قيادته التي فقدت شرعيتها السابقة -. لا أحد في الوقت الراهن قادر على التنبؤ، ولكن سيكون من المستغرب أن يظل الحزب على حاله بعد كل ما جرى، فقد تعودنا أن يقوم الحزب - كامتداد للمصالح الإيرانية - على تغيير سياساته، بل وقياداته، لصالح أن تتم حماية المصالح الإيرانية أولاً، ومصالح الحزب في الوقت الراهن.
قد يعتقد البعض أن من العسير أن تتخلص إيران من شخصية كارزمية ـ بالمعيار الإيراني - مثل حسن نصر الله، ولكن هناك سوابق تاريخية تدل على أن النظام الإيراني لا يبالي بالتضحية برجاله، في سبيل عدم خسارة مصالحه، فكيف بخسارة نفوذه. قد يكون مثل هذا السيناريو مستبعداً في الوقت الراهن، حيث يمكن أن يقال أن نصرالله تحول إلى رمز للحزب وللنضال الشيعي «المقاوم»، ولكن التجربة تشير إلى أن رحيل الأشخاص لا يعني تقاعدهم، بل تصفيتهم - كما حدث أكثر من مرة - لصالح أن يحتفظ النظام بمصالحه لا برجاله المخلصين.
في برنامج تلفزيوني، يتحدث أحد ناشطي الحزب عن خطورة «جبهة النصرة» المرتبطة بـ«القاعدة»، ويعدّ ذلك دليلاً على انحراف الانتفاضة المسلحة السورية عن مسارها، ويتهم أطرافا خليجية بدعم الجهاد «السني» بما يهدد الأقليات.
حقيقة من المثير أن يتحول قادة الحزب إلى تخويف الآخرين من «الجهاديين»، وأصحاب الذقون الطويلة، وأدبياتهم تنضح بذات المعين.
خلال آخر ظهور مسجل له، جادل السيد نصر الله أن حزبه لن يسكت على محاولات تحجيم نفوذه، وأن باستطاعته القتال حتى النهاية. ما من شك أن السيد نصر الله قد يعني ما يقوله، أو أنه مستعد للتضحية بالأبرياء، في سبيل الاحتفاظ بنفوذ حزبه، تماماً كما يصنع الأسد الآن، ولكن من المحزن أن يتحكم في مستقبل هذه البلدان أشخاص يعتقدون أن التاريخ ينتهي عند حدود كلماتهم.
-------------------------
الشرق الاوسط
الصورة التي يرسمها فلكنز تعكس حزباً يشعر بالتهديد والقلق، نتيجة اقتراب الحرب إلى معاقله، وحالة من الوحدة والتوجس تسري بين قياداته، ونزعة عدمية تطغى عند النقاش، وجدل حول حرب النهايات، والموت دون التسليم بالواقع الجديد. لأكثر من عامين حاول حزب الله النأي بنفسه ـ إعلامياً - عن مجريات الأحداث في الدولة الجارة، وفي حين أطلق زعيمه حسن نصرالله تصريحات داعمة للحليف السوري بدعوى «المقاومة»، والتصدى لـ«العدو» الإسرائيلي، إلا أن تلك الخطب لم تنجح في تبرير موقفه من المعاناة الإنسانية، التي تسبب فيها النظام السوري.
لقد نال حزب الله قبولاً في الداخل اللبناني لدى البعض، لعمله «المقاوم» لتحرير الأرض، وارتفعت شعبيته عالياً منذ الانسحاب الإسرائيلي في عام 2000، بل وعدّته أوساط شعبية كبيرة في العالم العربي، بطلاً حتى بعد إشعاله حرب الثلاثين يوماً في 2006، ولكن جزءا من تلك الشعبية تعرض لنكسة قوية، بعد اجتياحه العسكري للعاصمة وبعض المناطق في 2008، حيث رأي البعض في ذلك استقواء على الطائفة السنية، وعلى خصوم الحزب من الطوائف الأخرى. برر الحزب حينها موقفه بوصفه رداً على محاولات إدانته بالاغتيالات التي لحقت بأسماء لبنانية معارضة، كان أبرزها رفيق الحريري، رئيس الوزراء الراحل. مع ذلك كانت هناك أوساط شعبية متفهمة، أو متقبلة بصمت لموقفه، ولكن مع اندلاع الأحداث السورية، وجد الحزب نفسه في مأزق أخلاقي، حيث كان الشارع في أكثر من بلد عربي، متعاطفا مع المظاهرات السورية، ولأجل وقوف حزب الله غير المعتذر إلى جانب النظام السوري، تولد نوع من الحنق والغضب تجاه الحزب الذي قرر الوقوف في صف نظام يقتل مواطنيه، بل ويرسل عناصره للمشاركة في حرب أهلية في دولة مجاورة. حين بدأت أحداث ما عرف بـ«الربيع العربي»، اتخذت قيادات الحزب الموقف الرسمي الإيراني الداعم لإسقاط الأنظمة، ولكن حين طالت الانتفاضات، الحليف السوري تغيرت قواعد اللعبة، فانحاز الحزب للنظام على حساب المواطنين السوريين العزل. يمكن اعتبار ذلك اللحظة الفاصلة التي خسر فيها الحزب شعبيته الإقليمية، بل وتحول إلى خصم طائفي وأيديولوجي لدى قطاعات شعبية واسعة في المنطقة. لا شك أن حزب الله يمر بأصعب أيامه حيث لم يعد بطلاً، بل عدو بغيض للجماهير ذاتها، التي كانت تتغنى بإنجازاته قبل سنوات قلائل. هذه الخسائر قد تغير على المدى المنظور موقع الحزب وقوته ليس في لبنان فقط، بل في عموم المنطقة التي باتت تعدّه أداة مشاركة في قتل الأبرياء. ربما لم يدر بخلد قادة الحزب أن تتحول كل إنجازاتهم إلى عبء ثقيل، ولعل السؤال الأبرز اليوم: ما هو مستقبل الحزب في ضوء ما يجري؟
بداية لا بدّ من الإشارة إلى أن الحزب على الرغم من خسارته الجسيمة، لا يزال يمتلك بعض الحلفاء داخل لبنان وخارجه، لا سيما في أوساط بعض الأقليات التي تشعر بأنها مهددة، وهو فوق ذلك لديه ترسانة من الأسحلة وعمق شعبي شيعي، يشجعانه على الاستمرار - أو الاستئثار ـ بالقوة العسكرية في محيطه، ولكن على الرغم من ذلك، فإن هنالك تهديداً حقيقياً لقدراته تلك، مع اضطرار المعارضة المسلحة السورية للرد عسكرياً على مواقعه الحدودية، وفي حال سقط نظام الأسد، فإنه ليست ثمة ضمانات له من أن تتوجه تلك الحرب إلى مناطق نفوذه داخل لبنان، وقد تحيله إلى قوة صغيرة بإزاء قوى عديدة أكبر منه، ولعله من الضروري التساؤل هنا عن بدائل الحزب ما بعد سقوط الحليف التقليدي، الذي كان يوفر له المعبر الآمن مادياً وعسكرياً من إيران؟
هنا ينبغى ألا ننسى أن الحزب وجد وترعرع قبل أن تتوثق العلاقات الإيرانية/السورية، بل لقد خاض الحزب نفسه معارك مع السوريين، لفرض نفسه كواقع عسكري مواز للسوريين، ومستقل عن إرادتهم.
وخلال السنوات التي سبقت الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، كان الحزب يصرح بأنه وحده صاحب الكلمة العليا في ما يجري، ولكن على الرغم من ذلك فإن الحزب - الذي بني أساساً لغرض عسكري - لم يستطع منذ هيمنته على الحكومة اللبنانية عام 2004، أن يطرح نفسه بديلا سياسيا للدولة اللبنانية، رغم كل ما قدمه هو أو ربيبته الإيرانية، ولعل ذلك ما يقلق الحزب في الوقت الراهن، وهو أنه سيكون مجبراً على تغيير مساره الراديكالي، ليكون أكثر تصالحاً، ومقبولية في بيئته اللبنانية فضلاً عن أن يستعيد شعبيته في المنطقة، بعبارة أخرى الحزب اليوم مخير بين أن يخوض حربا إقليمية لاستعادة ما فقده من حضور معنوي وعسكري، أو استحداث طريق «سلمي» يغير فيه من فلسفته - إن لم يكن قيادته التي فقدت شرعيتها السابقة -. لا أحد في الوقت الراهن قادر على التنبؤ، ولكن سيكون من المستغرب أن يظل الحزب على حاله بعد كل ما جرى، فقد تعودنا أن يقوم الحزب - كامتداد للمصالح الإيرانية - على تغيير سياساته، بل وقياداته، لصالح أن تتم حماية المصالح الإيرانية أولاً، ومصالح الحزب في الوقت الراهن.
قد يعتقد البعض أن من العسير أن تتخلص إيران من شخصية كارزمية ـ بالمعيار الإيراني - مثل حسن نصر الله، ولكن هناك سوابق تاريخية تدل على أن النظام الإيراني لا يبالي بالتضحية برجاله، في سبيل عدم خسارة مصالحه، فكيف بخسارة نفوذه. قد يكون مثل هذا السيناريو مستبعداً في الوقت الراهن، حيث يمكن أن يقال أن نصرالله تحول إلى رمز للحزب وللنضال الشيعي «المقاوم»، ولكن التجربة تشير إلى أن رحيل الأشخاص لا يعني تقاعدهم، بل تصفيتهم - كما حدث أكثر من مرة - لصالح أن يحتفظ النظام بمصالحه لا برجاله المخلصين.
في برنامج تلفزيوني، يتحدث أحد ناشطي الحزب عن خطورة «جبهة النصرة» المرتبطة بـ«القاعدة»، ويعدّ ذلك دليلاً على انحراف الانتفاضة المسلحة السورية عن مسارها، ويتهم أطرافا خليجية بدعم الجهاد «السني» بما يهدد الأقليات.
حقيقة من المثير أن يتحول قادة الحزب إلى تخويف الآخرين من «الجهاديين»، وأصحاب الذقون الطويلة، وأدبياتهم تنضح بذات المعين.
خلال آخر ظهور مسجل له، جادل السيد نصر الله أن حزبه لن يسكت على محاولات تحجيم نفوذه، وأن باستطاعته القتال حتى النهاية. ما من شك أن السيد نصر الله قد يعني ما يقوله، أو أنه مستعد للتضحية بالأبرياء، في سبيل الاحتفاظ بنفوذ حزبه، تماماً كما يصنع الأسد الآن، ولكن من المحزن أن يتحكم في مستقبل هذه البلدان أشخاص يعتقدون أن التاريخ ينتهي عند حدود كلماتهم.
-------------------------
الشرق الاوسط