.
هي أحلك اللحظات في سورية الآن. قيل ويقال الكثير عن الدعم العسكري للمعارضة، لكنه في الواقع لا يزال متواضعاً، فالتضييق مستمر على التسليح، على رغم مراهنة «الأصدقاء» على اختراقات ميدانية تغيّر مسار الأزمة. يتداول المعارضون كثيراً من الاستياءات، بعضها من دولة «قبضت» ثمناً مضاعفاً لأسلحة تحجم عن تسليمها، ومن تقلبّات دولة اخرى تكاد تتسبب بإخفاق المقاتلين في حلب ودمشق. لم تتبدد يوماً مخاوف المعارضين، على اختلاف انتماءاتهم، من أن يُخذلوا بعد كل التضحيات التي بذلوها وبعد كل ما أنجزوه، لذا يبقى لديهم هاجس «أن يتركونا فريسة للنظام... اذا اتفقوا على تسوية في ما بينهم». صحيح أن المعارضين، ولا سيما العسكريين، ناقشوا طويلاً مع «الأصدقاء» الاميركيين وغيرهم كل ما يتعلق بالنيات والأهداف، وتوصلوا الى تفاهمات في شأن المطلوب قبل «مرحلة التحرير» واثناءها وبعدها، لكن الذي يده في الجمر ليس كمَن يتفرّج عن بُعد، ومَن يفقد يومياً مئات وعشرات من الأهل ليس كمَن يكتفي بعدّ الجثث. يبدو أن الثقة «المتبادلة» تتطلب مزيداً من الوقت، وبالطبع كثيراً من العمل. لذلك بقيت وتيرة المساعدة غير متناسبة مع سرعة الوعود وصلابتها الظاهرة.
مرحلة الصمود البادئة حالياً قاسية ومريرة، فُرز فيها الشعب بين مَن رحل ومَن يستعد، ومَن يفكّر في الرحيل أو يتمناه، ومَن لا يستطيع الرحيل ولا يعتزمه. هذه المرارة هي التي تدفع بسوريات وسوريين الى الاعتصام والإضراب عن الطعام في الخارج لعل ألمهم يستنهض ضميراً عالمياً لا ينفك يتماوَت. انهم من هذا الشعب الذي ثار ولم يعد يرضخ لما أو لمَن يستصغر آدميته. يستفزهم أن تصبح المجازر روتيناً، يشعرون بأن ثمة خطراً كابوسياً قادم، ويستقرئون في الآتي كلفةً دمويةً لا سقف لها. انهم لا يخشون على الثورة واستمرارها، فالشعب تجاوز الارتهاب من النظام وحتى من الموت، لكن سكوت العالم على المذبحة المتمادية هو ما يروّعهم.
كان «الأصدقاء»، قبل أن يصبح إسمهم «أصدقاء»، عجزوا عن تأمين أي حماية للمدنيين فساهموا مع النظام في القضاء على سلمية الثورة، كانوا ينهون عن عسكرتها تجنباً لـ «حرب أهلية» لم يملّوا التحذير منها، وكانوا يمانعون تسليحها والآن يراهنون على العسكريين لكنهم يتلكأون في تمكينهم على رغم أنهم يرحّبون بالانشقاقات بل يشجعون عليها. فهل إن التفسير الوحيد لتخبّط «الأصدقاء» وبلبلتهم أنهم ينتظرون جميعاً انقضاء الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة لتصبح الوعود ممكنة التحقيق؟ وهل إن هذا الانتظار يسوّغ ترك النظام يواصل تدمير حلب من دون أن يحسم المعركة، وهل هو ما يفرض تقنين الدعم لـ «الجيش الحرّ» فيها ومنعه أيضاً من الحسم على رغم الفرص المتاحة له؟... لكن ماذا يعني كل ذلك طالما أن دول «الأصدقاء» لا تعتزم التدخل المباشر ولا حتى نصف المباشر في نهاية المطاف: لا بد من أنه يعني استمرار البحث سرّاً بين الاميركيين والروس عن صيغةٍ ما لـ «حل سياسي» ما. ألم يقل السيئ الذكر سيرغي لافروف إن الطرفين «متفقان على الأهداف» في سورية، وطالما أن الجانب الاميركي لم ينفِ هذا الاتفاق، فالأسوأ أنهما متفقان على عدم الإفصاح عن تلك الأهداف. ولا داعي للتكهن، فاتفاقات الكبار لم تشذّ تاريخياً عن طبيعتها، فهي عادةً مخيبة للآمال، ويندر أن تكترث بطموحات الشعوب.
من الواضح أن «الاتفاق على الأهداف» هذا لم يكتمل بعد بالاتفاق على آلية تنفيذها، وقبل ذلك بتلبية المطالب الروسية، وبالتفاهم على تقاسم المصالح والأدوار. وفي الانتظار، ستستمر التمثيلية السقيمة في مجلس الأمن. روسيا قالت إنها «ستدفع» هذا المجلس الى المصادقة على «اتفاق جنيف». لا تريد الاعتراف بأنه اتفاق طُوي مع مهمة كوفي انان. نسيت أن تعديلاتها عليه قتلته، وأنها دعت الى اجتماع لإحيائه ولم تلبَّ دعوتها، وأن محاولتها الجديدة ستُواجه بتعديلات مضادة سواء لجعله اتفاقاً ملزِماً خصوصاً للنظام ومتوعداً بعقوبات. لكن روسيا تواصل التحسّب، مثلها مثل النظام السوري، لمهمة الأخضر الإبراهيمي. هي تلعب ورقة «اتفاق جنيف»، وهو يلعب «وقف تمويل المعارضة وتسليحها» و «تطهير سورية من الجماعات الارهابية»، وفقاً لوزير خارجية النظام، وإيران تلعب التوتير الاقليمي. في المقابل، تلعب الدول الاخرى ورقتي «نقل السلطة» و «التنحي» كثمن حدٍ أدنى لافتتاح أي حوار والبدء بالمرحلة الانتقالية. وبديهي أن المزاج الشعبي والوضع على الأرض تخطّيا عملياً كل هذه الأوراق، وتواصل قسوة العنف تجذيرهما في الطموح الأكبر، وهو إسقاط النظام.
وإذ يوشك الابراهيمي على أن يستهلّ مهمته، ولا أحد يعرف عنها سوى أنها لن تتّبع منهجية انان التي اخترقها النظام السوري وما لبث الروس أن احتووها حتى أهلكوها... لكن استقراء تصريحاته يعكس قناعاته الأولية، وهي لافتة. ذاك أنه معني بـ «حل سياسي» سيحاول بلورته، ثم تفعيله بدعم «كامل» من مجلس الأمن، ومن دون «تدخل عسكري» لا بدّ من أن يعطّله. هذا العنوان الكبير مريح للنظام ولروسيا وإيران، وغير مقلق واقعياً للدول الاخرى، لكنه يشحذ شكوك المعارضة. أما كيفية التوصل الى صيغة لهذا الحل، فالإبراهيمي مدرك أن ثمة صحراء على جميع الأطراف اجتيازها معه. وإذا كان لنقطة انطلاقه أن تبدأ من دمشق، فإنها استُبقت مجدداً بأمرين يرفضهما النظام، أولهما مشاركة الجامعة العربية في انتداب الابراهيمي، والثاني اعادة تعيين الوزير الفلسطيني السابق ناصر القدوة نائباً له. الى ذلك، سجّل النظام مجموعة «رسائل» ذات مغزى أطلقها المبعوث الدولي - العربي كمقدمات لمهمته، ومنها: 1- هناك حاجة الى اطار سياسي جديد...، 2- الى وضع جديد في سورية، 3- التاريخ لا يعود الى الوراء، 4- دور الحكومة ومسؤوليتها أكبر في وقف العنف، 5- عملية سياسية تمكّن الشعب من تلبية طموحاته، 6- على الحكومة «أن تدرك» مدى المعاناة التي نزلت على شعب سورية، 7- وأن التغيير ضروري وعاجل، 8- لا بد من ارضاء الشعب السوري واستجابة تطلعاته المشروعة... وهكذا، ففي أقل التقديرات سيتعامل الابراهيمي بهذه المقاربة التي تقول للنظام انه اذا كان يريد حقاً الحل السياسي فعليه أن يقنع العالم بأنه مستعد لتحمّل المسؤولية، وأن يحدد كيف سيفعل ذلك وبأي ثمن. وعندئذ فقط يمكن التحدث الى المعارضة. أما اذا لم يكن لدى النظام ما يتنازل عنه، فليس له أن يتوقع تنازل الشعب عن الدم والتضحيات.
----------------- . صحيفة الحياة اللندنية