مؤشرات عديدة ظهرت في السنوات الماضية على وجود هذا القرار في واشنطن، لكنه بدا أكثر وضوحاً مع إدارة الرئيس الحالي جو بايدن التي سلمت الملف السوري لفريق مثير للجدل، ولم تقف عند حد التراخي في تطبيق العقوبات المفروضة على النظام، فسمحت أخيراً بإطلاق مشروع خط الغاز (العربي) الذي يمر بسوريا، في انتهاك صارخ لقانون "قيصر" أغضب عدداً كبيراً من الأعضاء في مجلسَي الشيوخ والنواب.
الفوضى والابتزاز!
مؤشرات حسمت بدرجة كبيرة الجدل حول توجهات الولايات المتحدة في سوريا لجهة منع سقوط النظام إذن، لكن لماذا تريد الولايات المتحدة ذلك، على الرغم من كل الجرائم التي ارتكبها ولا يزال نظام الأسد ؟!الإعلامي والسياسي السوري المعارض أيمن عبد النور يضع ثلاثة أسباب أساسية تدفع واشنطن لاعتماد هذا الخيار، على رأسها عدم الرغبة في سقوط النظام بدون ترتيبات، ما قد يؤدي إلى مزيد من الفوضى
ويقول في تصريح لـ"أورينت نت": الولايات المتحدة لا تريد أن يسقط النظام دون ترتيبات مسبقة وكاملة، لأن ذلك سيؤدي إلى فوضى وإرباكات، ولذا فهي تريد عقد توافقات مع القوى الأخرى التي تتقاسم معها مناطق النفوذ في سوريا، على اعتبار أنها لا تستطيع وحدها القيام بهذا العبء، خاصة لجهة الخشية من عودة الإرهاب وتمدده.
ويضيف عبد النور: السبب الثاني أن واشنطن ترى أن استراتيجيتها التي تقوم على تحويل سوريا إلى مستنقع يغوص فيه الجميع لم تنجز بعد بشكل نهائي، وأمام تشبث كل طرف بمواقفه، فإن أمريكا مستمرة في جعل الجميع يعانون إلى أن ينهكوا ويخضعوا في النهاية لاتفاق يتناسب ورؤيتها.
أما السبب الثالث، حسب عبد النور، المنسق العام لمنظمة "مسيحيون سوريون من أجل السلام" ومقرها أمريكا، فهو رغبة الولايات المتحدة بالاستمرار في استخدام سوريا كورقة تفاوض أو ابتزاز أو مساومة، مع كل من روسيا وإيران في مفاوضاتها معهما حول ملفات أخرى، خاصة وأن سوريا لا تعني كثيراً لها، على عكس موسكو وطهران اللتين تمثل سوريا أهمية كبيرة بالنسبة لهما.
من أوباما إلى بايدن
يحيل الدافع الأخير هذا إلى تقديم إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما تنازلات كبيرة لإيران، بما فيها إطلاق يدها بشكل أكبر في سوريا، والسماح لروسيا بالتدخل العسكري المباشر إلى جانب ميليشياتها لإنقاذ النظام الذي كان يتهاوى عام ٢٠١٥، مقابل موافقة طهران على توقيع الاتفاق النووي وقتها.لكن الباحث والسياسي السوري وائل السواح يعود إلى ما قبل ذلك العام من أجل التذكير بخطوات أقدمت عليها واشنطن ودللت على أنها غير جادة في إسقاط نظام أسد.
ويروي السواح لـ"أورينت نت" أن السفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت فورد، أكد له عام ٢٠١١، عندما قال أوباما إن "على بشار الأسد أن يرحل"، أن ما قاله "الرئيس خطأ، لأنه إذا قال الرئيس الأمريكي شيئاً فعليه أن ينفذه، وأنا واثق أن أوباما لن ينفذ ما يقول".
ويضيف: منذ تلك اللحظة قطعت كل أمل في أن تأخذ الإدارة الأمريكية موقفاً حاسماً من مسألة تغيير النظام، لكن مزاجي تغير قليلاً في صيف 2013، عندما أمر أوباما حاملة طائراته بالتوجه إلى الشواطئ السورية، وبدأت سيارات الضباط والمسؤولين في النظام بهجرة العاصمة إلى القرى الساحلية خوفاً من الضربة التي بدت وشيكة، لكن أوباما قبل على نفسه مساومة صغيرة أخذ فيها بعض الأسلحة الكيماوية السورية. بعدها انتهى كل وهم لدي في موقف أمريكي حاسم، وحين جاء ترامب رفع عقيرته بهجاء الأسد دون أن يفعل شيئاً سوى إطلاق صواريخ خلبية لم تغير شيئاً في موازين القوى السورية.
إسرائيل والبديل
ويتفق السواح المقيم في الولايات المتحدة مع أيمن عبد النور في أن رؤساء أمريكا عموماً يحتقرون بشار الأسد، ولكنهم يعتقدون أن سقوطه بدون تحضير بديل حقيقي سيوقع سوريا والمنطقة في فوضى أكبر.ولذلك يحدد ثلاثة أسباب أخرى تجعل الولايات المتحدة غير راغبة في سقوط نظام أسد، وهي:
1-إسرائيل: كانت سوريا على الدوام القوة الإقليمية الأكثر تهديداً بـ (المعنى الاستراتيجي) لإسرائيل ومصالح أمريكا في المنطقة، ولذلك فإن سوريا ضعيفة ومفتتة أفضل بالنسبة لهم من سوريا قوية وموحدة.
2-البديل: لم تجد أمريكا شريكاً محلياً مقبولاً وموثوقاً يعتمد عليه في تغيير النظام، خاصة بعد أن تهمّش دور القوى السورية الديمقراطية، وتحولت إلى أبواق وصحف ومواقع إلكترونية ومؤتمرات فشلت في وضع تصور لسوريا الجديدة بدون الأسد، تصور يظهر الوجه الديمقراطي غير الطائفي للدولة التي تسعى لها الثورة، وتشمل جميع السوريين، ناهيك عن الفشل في التحلق حول شخصية رمزية تكون محل إجماع.
3- الأولويات: لدى الرئيس الحالي بايدن أوليات كبرى، لكن سوريا ليست جزء منها، وأغلبها محلي يركز على مكافحة كوفيد وتطوير البنية التحتية، والتغير المناخي، وتمرير قانون انتخابي ديمقراطي..الخ. أما خارجياً فهناك إيران وروسيا (وأوكرانيا)، وبالتالي سلّم بايدن الملف السوري لشخص لا يهتم مطلقاً بتغيير النظام، وجل اهتمامه دعم الكرد وتقويض الدور التركي، وهو ما يدفع أنقرة أكثر فأكثر إلى التقارب مع روسيا.
يدفع الشعب السوري إذن فاتورة استراتيجيات الدول المتدخلة في ملف بلاده، وعلى رأسها الولايات المتحدة بطبيعة الحال، كونها القوة الأكبر التي تستطيع بشكل أو بآخر، تحديد توقيت نهاية هذه المأساة. كما يدفع السوريون ثمن فشل قوى المعارضة في إدارة هذا الملف، إلى جانب طبعاً فاتورة موقع سوريا ومطامع دول عدة بها، وهو كله يصب في صالح النظام، الذي لا يتردد في تقديم كل ما يُطلب منه من أجل البقاء.
-----------
اورينت نت