عازف الكلارينت «يافيموف» يعمل ضمن اوركسرا احد الاقطاعيين الروس. يرث يافيموف آلة كمان من رجل ايطالي، يقدم بها لحنا مدهشا، يشعر فجأة بالتفوق، يغادر الاوركسترا، لكن «أناه» تزداد تضخما يوما بعد آخر، مما يصيبه في حقيقة الامر بالعجز الا عن ازدراء الآخرين، لا يستقر في عمل، يصبح أكثر شراسة في نقد عثرات الموسيقيين، يُطرَد ويفلس، ينهب عمر زوجته ومالها أيضا بينما لا يكف عن الشكوى من زواج حطم موهبته، تهجر أصابعه كمانه الشيطاني، لكنه يحتفظ به كلعنة.
اخيرا يحضر حفلا لموسيقي كبير قادم من أوروبا، فيكون هذا الحفل هو الصفعة التي تنهي حياته كلها، حيث يواجه للمرة الأولى الابداع الحقيقي.
ربما يبدو أن مازق يافيموف هو الطموح غير الملائم للقدرة أو الامكانات. «الميديوكر» ابن زمن التحولات الكبير والطاقات الجبارة الملهبة للطموح بغض النظر عن توافر الامكانات ولذلك تتعلق بوهم الموهبة.
لكن كيف يمكن أن تبدو كلمة «الميديوكر» حين تصبح صفة مجتمع كامل، مجتمع يضع أمام نفسه شرط الموهبة الأعمى، والذي يعجز في واقع الامر عن اللحاق به؟
حين يتحول يافيموف من ظاهرة فردية إلى ظاهرة اجتماعية شاملة يتخذ شكلا أقل مأساوية في الظاهر، فهو مجتمع مشغول بذاته طوال الوقت ومطمئن اليها بصورة مزعجة، لكن فجأة تعروه ارتعاشة سخط من حظه العاثر. وبقدر ما هو فاقد لأدوات التقييم الموضوعي لذاته، بقدر ما يفرض هذا الوضع على أفراده ايضا. انه مجتمع يحمي نفسه بانجاب المزيد من «أنصاف المواهب».
لكن لماذا يستعمل مثقفونا كلمة «ميديوكر» بترجمتها إلى «انصاف المواهب»؟ ربما كانت كلمة الموهبة نفسها تعبيرا مأزوما، عنده تصبح مماثلة لـ «القضاء والقدر» عند المتدين، أو «ابتسامة الحظ» عند الانسان العادي. ففي مجتمع لم يحقق أدنى الشروط العملية المنظمة لتنمية المهارة والجودة، ضائع وسط المعارف التي لم يحظ الا بقمامتها؛ في هذا المجتمع الغاشم المفتقر لأدنى المعايير الموضوعية، في السياسة كما في الفن كما في الاقتصاد كما في العلاقات الشخصية، تصبح كلمات: الموهبة، الحظ، القضاء والقدر وجوها للشيء نفسه، للصدفة الغليظة المرتقبة، نوعا من التبرير القاصر للتفوق يتركه بلا معنى ولا هدف، ولا يترتب بالمثل على جهد محدد ولا على أي نوع من المسؤولية الانسانية.
مجتمع «الميديوكر» هو مجتمع بنى تضامنه الاساسي على نقاط ضعفه، على التواطؤ على الضعف وانصاف الحلول، ذلك التواطؤ الشرس الذي سيدفعه إلى قتل كل بادرة نقد ذاتي حقيقي، كل بادرة ابداع فعلي، يتجاوز وضعيته المأزومة، مجتمع يحرص على العمى، على التعلق الى النهاية بكمانه الشيطاني الاخرس دون أن يفكر في التدرب عليه ولو ساعة.
مجتمع «الميديوكر» مجتمع دائم الصراخ بسبب عري أصلي لا يدرك مكانه، ولهذا يستهلك الأفكار والمذاهب والنظم والقيم مثل خرق يداري بها دائما المكان الخطأ للعري.
مجتمع «المديوكر» لا يحترم التعلم، ولا يكتشف في الخطأ ما هو أعمق من الخطأ: الامكانية المفتوحة دائما للتطور. مجتمع لا يحترم الفشل ولذلك لا ينجح الا في تكراره مع تغير يافطته.
مجتمع «الميديوكر» هو مجتمع بلا زمن لأنه يتعثر طوال الوقت في طموحه، دون أن يدرك أن عجزه عن تحقيق طموحه هو بسبب من عدم نبل هذا الطموح بالذات.
---------------
القبس