أفكار بن نبي كانت وما زالت تنتظر التطبيق على أرض الواقع من أتباعه وتلامذته، ومن الطبقة الحاكمة في الجزائر، وهو ما لم يحصل. فأصبح الفيلسوف مالك بن نبي مجرد رقم يُذكر في قائمة المفكرين النوابغ لا غير، لكن دولا أخرى رأت في أفكار بن نبي ما لم يره الجزائريون والعرب، ولقبته بفيلسوف الحضارة، فانطلقت من أفكاره نظرية بناء دولة إسلامية عصرية وقوية، على غرار تركيا، ماليزيا، إيران، وحتى دولة الكيان الصهيوني التي تدرس فكر بن نبي في جامعاتها.
هل للمسلمين إمكانات لتحديث دورة حضارية جديدة؟ انطلق المفكر بن نبي في نظرياته من دراسة الظاهرة القرآنية التي اعتبرها عقيدة صحيحة، لكنها أضاعت فعاليتها رغم بقاء أصالتها، وهو ما جعله ينصح بإعطاء الإسلام فعاليته، وللأسف الحضارة في عصرنا الحالي أصبحت تشترى بالمادة، رغم أن ابن نبي كان ضد فكرة استيراد الحضارة.
المفكر والفيلسوف مالك بن نبي، عُرف بأنه "رجل التسامح والشخص المنفتح على الشعوب والحضارات الأخرى"، الذي لم يجد عيبا في تعايش المسلمين مع المسيحيين، وهي ميزة مهمة ظهرت في كتاباته ومقالاته، رغم الاضطهاد الذي تعرض له سواء في بلده المستعمَر أو أثناء رحلاته نحو الخارج في مرحلة ميزها تطرف الأنظمة الغربية كالفاشية والنازية.
من أهم إنجازات المفكر الجزائري مالك بن نبي، التي حفرت في سجله التاريخي معارضته لفكرة انقسام باكستان عن الهند وظهر ذلك في كتابه "في مهب المعركة" ليلفت إلى أن الفكرة من صنع الإنجليز، داعيا الهندوس لتجاوز الصراع.
كما يحسب له مساهمته في فك أعمال شغب اندلعت في قسنطينة مع يهود حيث دعا سكان تلك المنطقة إلى حمايتهم، حتى أنه قضى ليلة كاملة تحت منزل أحد اليهود بعد أن كان محل تهديد وسرقة.
تساءل بن نبي "لماذا نحن مسلمون؟"، كما فصل في شروط النهضة وأشاد بفكرة الأفرو أسيوية وكتب عن ظاهرة الاستعمار ولام الشعوب المستعَمرة من خلال أطروحته المشهورة حول القابلية للاستعمار. كتب بن نبي كذلك عن العولمة Mondialisation قبل أن يظهر المصطلح في الأوساط الأكاديمية الغربية بعقود. وهذا ما جعل الكثيرين يؤكدون أن بن نبي سبق عصره.
في الذكرى 48 لوفاة العلامة مالك بن نبي هل نملك الشجاعة والجرأة لنقر ونعترف أننا لم نقرأ أفكار الرجل ولم نفهما ونطبقها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية؟ وهب ابن نبي حياته لمعالجة مشكلات الحضارة وأزمة الهوية في المجتمعات العربية التي عرفت انتكاسات ومشاكل الحكم والتنمية والتطور بعد أن استقلت. المفكر بن نبي ألهمته المدرسة القرآنية والباديسية، فأنار درب شعوب عانت بشاعة الاستعمار، أنتقد نظريات الغرب القائمة على العنصرية والمادية، داعيا الجزائريين والمسلمين لتأسيس حضارة عالمية إنسانية تؤثر وتتأثر، فلُقب بفيلسوف الحضارة.
المفكر الجزائري والعلامة مالك بن نبي، بقي تنظيره دون تطبيق في الجزائر وفي عديد الدول العربية. ففي وقت أهملت الجزائر أفكاره المؤسّسة لدولة صلبة، ارتقت بنظرياته دول كثيرة. قضى مالك بن نبي طيلة حياته من أجل شيء واحد، وهو معالجة مشكلة الحضارة، فتفرغ للدراسات والتأمل والنظر في المجتمع الإسلامي، مبرزا دور "الفكرة الدينية" في تطوير الحضارة، وتغييرها وعدم اضمحلالها، تاركا وراءه زخما من الأفكار البناءة لدولة حضارية ونهضة عالمية.
يمكن السر وراء أفكار مالك بن نبي في ولادته في القرن العشرين في بلد مستعمَر من قبل فرنسا، وسقوط الخلافة العثمانية، ليكون بذلك شاهدا على تخلف وجهل الأمة الإسلامية، الأمر الذي دفعه للبحث في الأسباب الحقيقية لتطور الحضارة وسقوطها، وساعده في ذلك تكوينه في المدرسة القرآنية الباديسية والفلسفة الوجودية التي جعلته رجلا عقلانيا، بالإضافة لتشبعه بدراسات وأفكار ابن خلدون، وهو ما جعل أفكاره امتدادا للأخير، ليتساءل عن دور الدين في تأسيس الحضارة، وقبلها عن ماهية الحضارة ونشأتها وأسباب النهضة للاستعمار وأسباب التخلف والركوض والجهل.
تميز مالك بن نبي ببعده الإنساني كونه يختلف عن بقية المصلحين كجمال الدين الأفغاني، محمد عبده وغيرهم، فكان من بين الأوائل الذين طرحوا فكرة العالمية التي ظهرت في القرن 20 ووصفها بالقدر المحتوم وسنن التاريخ، التي وجب على العالم الإسلامي الانخراط فيها حتى لا يكون كيانا معزولا، يكون قادرا على التطور بالمشاركة في بلورة الثقافة العالمية، والخروج من القابلية للاستعمار، المقولة التي جعلته محل انتقاد من طرف عدة جهات على رأسها جمعية علماء المسلمين الجزائريين.
ومن بين الأفكار التنظيرية عند مالك بن نبي أن الانفصام عن الغرب لا يقدم شيئا للحضارة، بل كان يرى ضرورة إيجاد محور واشنطن - موسكو وطنجة- جاكرتا، حتى إنه كان من بين دعاة ل"كومنولث إسلامي"، وهي بمثابة هيئة أخلاقية وثقافية، كما دعا لحضارة إفريقية آسيوية تهدف لإرساء نموذج عالمي جديد لكن تطلعاته وآماله تلاشت بسبب الفكر الاستعماري.
من أهم ما كان يقوله المفكر مالك بن نبي أن الغرب لا يمكنه التأسيس لحضارة إنسانية عالمية لأن إمبراطوريته ببساطة، عسكرية تفرض هيمنتها على العالم، وأن الإسلام هو السبيل الوحيد القادر على تبسط الحضارة البشرية بعد إفلاس جميع الأيديولوجيات والديانات الوضعية والسماوية.
وعن شروط النهضة يركز بن نبي على أهمية التغيير والتخلص من الروح التي تؤهل صاحبها للاستعمار. فبالتحول النفسي يصبح الفرد قادرا شيئا فشيئا على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديرا بأن تُحترم كرامته، وحينئذ يرتفع عنه طابع (القابلية للاستعمار)، وبالتالي لن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله وتمتص دمه، وتهينه وتجهله وتهمشه، فبتغيير الفرد نفسه يغير وضع حاكمية تلقائيا إلى الوضع الذي يريده. فالتّغيير يبدأ بغرس بذور الإصلاح في نفوس الأجيال من خلال التركيز على الهيكلين الأساسيين: المسجد والمدرسة باعتبارهما أساس وجوهر البعث الرّوحي والبعث الفكري اللذين هما عماد كلّ حضارة كما وصفهما ابن نبي، في المسجد والمدرسة لهما دور كبير في نشر الوعي وغرس الفضيلة والقيم والنسيج الأخلاقي بين أفراد المجتمع وأيّ مساس بهما من خلال توظيفهما لخدمة برامج وأجندات سياسية هو ضرب في صميم مكانتهما المرموقة.
وهذا ما نلاحظه اليوم في الوطن العربي من خلال توجيه الخطاب الديني لخدمة مصالح شخصية ضيقة وحصره في مواضيع معينة وإهمال أخرى مع مساواتها لها في الأهمية بل يشكّل بعضها ركيزة أساسية لبناء أيّ حضارة وبعث أيّ نهضة، هذا بالنسبة للجانب الرّوحي، أمّا الجانب الفكري فليس بأفضل من سابقه، فالمدرسة العربيّة اليوم تعاني من نقص وضعف التوجيه الفكري والعلمي والتخطيط الاستراتيجي والكفاءات اللازمة لوضع البرامج التي تتماشى مع تطورات العصر وتصقل مواهب جيل جديد لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين من عولمة وانجراف ثقافي وأخلاقي وقيمي.
----------
ار تي ار
ار تي ار