المقطع أعلاه جزء يسير من بحوث إجتماعية، كانت تُعدها المنظمة الكنسية الخيرية "كارتياس" في أمريكا (بوسطن) عن المهاجرين عام 1890م وهؤلاء ليسوا سوريين تماما؟ معظهم يعود لجبل لبنان، الذي تشكّل تاريخيا من الموارنة والدروز، أما سكان ميدان أوليفر في بوسطن فكان مربط خيل الموارنة القادمين من بلدة بشرّي في جبل لبنان (عائلات رحمة وجبران وغيرهم) وهي البلدة الشهيرة التي أنجبت أحد عظماء عصر الرومانس "جبران خليل جبران"، بعد هجرة أسرته عام 1895م وهو في الثامنة من عمره. أنذاك كانت المراكب ترسو في نيويورك، ثم ينتقل المهاجرون إلى جزيرة إيليس، للمثول أمام مكاتب الهجرة والجنسية .. فأمريكا ذلك الوقت لم تكن تعرف شيئا إسمه لبنان، لهذا كانت تختم على أوراقهم عبارة: سوري من رعايا الدولة العثمانية.
عذرا للقارئ ما كتبته للتو هو إستمرار في محاولة فهم الوطن بشقيه الموضوعي والذاتي، الحقيقي والشعري. فهو أحد المركبات الذهنية المعقدة، ولبنان الحالي هو نموذج (عبقري) لهذا المركب، وكاتب السطور يعتبره أهم الأوطان "التشكيلية" التي تستوطن ذاكرته ولغته. ربما بسبب القرب الجغرافي (بضعة عشرات من الكيلو مترات) إضافة لذكريات حميمة عن أقارب وأحبّة من بؤساء الريف السوري، كانوا قد هجروا أرضهم وعملوا أجراءا (وعبيد) في مزارع (الخواجة إلياس وغيره من إقطاعيي لبنان) وتعرضوا أحيانا للمهانة ولذعات خيزرانته أو كرباجه.
وهم نفس الأقارب الذين كانوا يتباهون بالهوية اللبنانية، ويسافرون إلى مدينة زحلة للمشاركة في الدبكات وأعراس الإنتخابات، وإختيار مرشحهم (من آل سكاف، أحد إقطاعيي السياسة المعروفين) ثم إستلام أتعابهم (بلغ سعر الصوت الإنتخابي الواحد في الخمسينيات حوالي 100ليرة) وهو مبلغ محترم كان يقبضه المصوّت لتغطية بعض المصاريف وشراء الهدايا (والتبغ وراحة الحلقوم، وبسكويت غندور) لكن قبل الإستمرار أرجو من القارئ ألا يعتبر أقاربي مجموعة من المرتزقة، بل أناس بسطاء وشرفاء، لحسوا أصابعهم أحيانا من كعكة الفساد السياسي وشراء الذمم، وهذا يسمى بلغتنا "باب رزق" وكما يقول المثل الشعبي: رزق الأهبل على المجنون (مع حرية التأويل)
ولفهم عبقرية لبنان (الوطن الإفتراضي) أجد من البديهي العودة إلى الجذور، إلى أنطولوجيا الأشياء، فلبنان (لفظ يعني الأبيض: بسبب تراكم الثلوج ) وهو تاريخيا ليس أكثر من متصرفية جبل لبنان، حسب تقسيم الإدارة العثمانية، وهو الجبل الذي ربطه أحد الحجاج عام 1836م: بشجرة الأرز (الرومانسية) والبساتين الجبلية والمهابط الصخرية، التي تنبثق منها الشلالات والنباتات، والوهاد الموحشة والرهبة والتقديس .. وكأن هذا المكان هو حارس بين الزمن والأبدية والتذكارات الحزينة لأيام المعبد الأول، حينما كان الرب يسكن وسط شعبه.
وهذه الجذور (الإجتماعية التاريخية) تأخذنا قسريا إلى الموارنة. فهم سكنة الجبل ومؤسسو لبنان الحديث، و يعود الموارنة للكنيسة السورية، التي تمردت جزئيا على بيزنطة، ونسبت نفسها إلى راهب سوري (أسطوري) من القرن 5م، يُدعى مار مارون، يُقال أنه من منطقة تقع شمال غرب نهر العاصي
وكما يخبرنا التاريخ الرسمي. فإن الموارنة تميّزوا بالصلابة والفروسية، لكنهم إضطروا لترك كنائسهم القديمة (بين حمص وحلب) بُعيد (الغزو العربي؟) وبدأوا بإستيطان الجبال الشاهقة وإستمر الأمر أثناء هيمنة العثمانيين وفرض الجزية عليهم واللباس الأسود ومنعهم من ركوب الخيل.
وقد حافظ الموارنة على طقوس كنيستهم السورو ـ آرامية رغم إعتناقهم الكاثوليكية وعلاقتهم المبكرة مع روما (بدأت زمن الحروب الصليبية ثم تعمقت من خلال المجمع الكنسي عام 1736م الذي ربطهم بالكرسي البابوي، مع تمتعهم بحرّية ممارسة طقوس الكنيسة السورية)
وهنا ينبثق سؤال مهم يرتبط بعلم اللسانيات.. لماذا تخلّى الموارنة عن الآرامية لصالح العربية؟ خصوصا أنهم منعزلون في تلك الجبال الشاهقة (ولا تصل إليهم العفاريت الزرق) وكيف يحافظ المرء على طقوسه الدينية ومعتقداته لقرون عديدة ويحافظ على صلاته مع روما، ويعيش وسط ممالك صليبية قرنين من الزمان، ويقاوم العرب والترك والولاة بفروسية منقطعة النظير؟ ثم يلقي آراميته وينطق بالعربية (سبحان الله)؟ لماذا لم ينطق بالتركية مثلا لغة الولاة، أو اللاتينية لغة الصليبين؟
الإجابة ليست مهمة بقدر السؤال. الذي يرفع اللثام عن سذاجة ما تعلمناه في درس التاريخ؟ فالموارنة كانوا ومازالوا جزءا أصيلا من موروث لغوي عام طبع الهلال الخصيب، قبل قدوم السيد جبريل إلى غار مكة.
وقبل إلقاء الضوء على بعض مفاصل تاريخ جبل لبنان، ألفت النظر إلى قضية جوهرية حاولت الوطنية الضيقة بثها، لخلق وعي وطني مزيّف، أقصد ربط لبنان (الحالي) بفينقيا وكأن مسيو بيكو كان يرسم بقلمه حدود ذلك الوهم التاريخي، لأن فينيقيا ليست أكثر من ترجمة يونانية للفظ "كنعان" تماما كإستبدال مصر بلفظ "إيجبت". فالفينيقية كذبة واهية.. ووهم أركيولوجي (فينيكوس تعني الأرجوان القرمزي، الذي تاجر به البحارة الكنعانييون من جبيل وصور)
وبإيجاز شديد يمكننا أن نتوقف عند بضعة محطات لسبر هذه الصيرورة اللبنانية:
أولا: عام 1590م حكم جبل لبنان الأمير فخرالدين المعني الثاني (درزي) وجمع الموارنة والدروز تحت قبضته، وكان متأثرا بعصر النهضة الأوروبية، سيما أنه قضى أعواما في المنفى الأوروبي (في توسكانا إيطاليا)
ثانيا: بدأت الحداثة الأوروبية تتسرب فعليا مع حكم بشير الثاني الشهابي (1788ـ 1840) (ماروني وحليف لمحمد علي في مصر) وهو الذي قام بإضعاف الإقطاع القروسطي المستبد وإنهاك النفوذ العثماني وإدخال الآلات والمشاريع الهندسية.. وللمفارقة نقول أن الأمراء الشهابين الموارنة، هم مسلمون أساسا، وتعود أصولهم إلى حوران في جنوب سوريا، وقد إنتقلوا عام 1170م أثناء الحروب الصليبية إلى منطقة راشيا وحاصبيا، وتحالفوا فيما بعد مع الحكام المعنيين (الدروز) ثم مع المورانة، وإعتنقوا المسيحية.
ثالثا:أما النقلة المهمة في صياغة لبنان الحالي، فقد لعبتها مدارس التبشير الوافدة لبلاد الشام (اليسوعية والأنجيلية) وتعميق الشعور القومي (العربي) كأداة في الصراع ضد الدولة العثمانية، ودخول المطبعة وبداية التعليم الحديث.
ومن الملفت أن الكنيسة المارونية قاومت بشراسة البروتستانتية الوافدة مع المبشرين الأمريكيين، وأصدرت فرمانا شهيرا عام 1826م يكفّر كل من يتعامل مع هذا المذهب (الملحد) ويحضرني بهذا المقام ذكر "أسعد الشدياق" وهو أول معتنق للبروتستانتية، فقد حبسته الكنيسة المارونية في أحد الأديرة ثم قتلته بتهمة الهرطقة.
رابعا: ومن المناسب ذكر المذبحة الأهلية في الجبل عام 1860م بين الموارنة والدروز وإنهيار تحالفهم التاريخي المتذبذب.. وتعود أسبابها إلى خلافات بين إقطاعيي الأراضي وتقاطعات وتضاربات دولية ضلعت بها بريطانيا (حليفة الدروز) وفرنسا (حليفة الموارنة) والباب العالي. فالويل للبنان إذا إختلف أولياء نعمته فيما بينهم ، لأن القضية كانت ولا زالت محكومة بمبدأ: الآباء يأكلون الحصرم والأطفال يضرسون.
بعد هذه المحطات المقتضبة نعرف جميعا كيف نشأ الكيان السياسي الحديث، عبر دستور عام 1926م وكيف صفّق طائر (البطريق) بجناحيه الماروني، السنّي، من خلال إضافة مناطق واسعة تعود للعمق الشامي.
المهم أن لبنان قام على أغرب ديمقراطية توافقية عرفها العالم ، فهي ببساطة شكل إتحادي بين كانتونات دينية ومذهبية ذات حدود وهمية، قد تتحوّل بسرعة إلى حواجز للخطف وسواتر للقنص. ومن ثوابت تلك الديمقراطية، ضمان وحماية الإقطاع السياسي الديني القروسطي وإعادة تفريخه دوريا، حتى ولو كانت رموزه من بارونات الحرب الأهلية ومن الضالعين بجرائم الإبادة والخطف والتطهير. إذ تكفي بعض المجاملات العربية وبوس اللحى، وشرب فنجان من القهوة، إلى دفن الماضي والإستمرار بنفس الدبكة القديمة..
وتجدر الإشارة إلى أن المدن العثمانية السنيّة الرئيسية (طرابلس، بيروت، صيدا) كانت ذخيرة مهمة لحركة المد القومي (البعث، حركة القوميين، الناصرية)
لكن إشتعال الحرب الأهلية عام 1976 م وما رافقها من صراع دولي أقليمي، أدى إلى صياغة بنود مؤتمر الطائف، التي تضمّنت زحزحة الدستور القديم، ونتف الجناح المسيحي، وتوزيع ريشه على الذيل (وهو مهم في توجيه مسار الطائر). وأيضا ساهم نفوذ البترودولار في تقصير الدشداشة السنية، ونمو الأفكار الأصولية. وفتور التيار القومي. وظهور كوكتيل تقوده حريرية سعودية، متحالفة مع الغرب، تقف بوجه شيعية سياسية. نهضت بقوة مع قدوم الثورة الإيرانية عام 1979م، وإكتسبت مشروعية وطنية عالية عبر مقارعتها الطويلة والدامية لإسرائيل
إن لبنان أثبت دائما إرادة فذة، فعبقريته إستمدها من جذوره الضاربة في عمق محيطه المترامي، الذي قطّعت أوصاله بمقص سايكس بيكو ..إنه خليط تاريخي ثقافي متشابك، فمعظم العائلات الكبرى توزعت بين مدن الإدارة العثمانية لولاية سورية (دمشق، القدس، حيفا، طرابلس، حلب) ومعظم العائلات إنقسمت دينيا ومذهبيا. حتى عائلة الأديبة الفلسطينية المولد: ماري إلياس زيادة (مي) إنشطرت عبر الحدود، ومنها المسيحي ومنها المسلم. فأي طائر فينيق وأي بطيخ هذا الذي يشحج به البعض؟
وقبل الإستئذان أعود إلى نيويورك عام 1895م إلى تلك المرأة العصامية: كاملة رحمة ( أم جبران خليل جبران) التي عبرت المحيط برباطة جأش، بعد أن تركت زوجها "خليل" يدفع في السجن ثمن مقامرته وسفاهته وإختلاسه..
لم يكن مدهشا أن تكون "كاملة" إبنة قسيس يدعى إستيفان عبدالقادر رحمة، وعبدالقادر جدها .. هو فارس مسلم دخل جبال بشري وإعتنق المسيحية وتزوج سيدة مارونية من آل رحمة، وليس مدهشا أن يكون آل جبران قد قدموا من العمق السوري عام 1672م وإستوطنوا بشلا قرب بعلبك ثم صعدوا تلك الجبال العاتية.
لكن المثير للإعجاب حقا أن تملك "كاملة رحمة" إرادة فولاذية، وصبرا وعنادا وتحمل صرّة (بقجة) على رأسها، تزن خمسين رطلا من الأقمشة (كعادة الباعة الجوالين السوريين) وتسير الأميال الطويلة في شوارع بوسطن وضواحيها، كي تضمن لقمة شريفة كريمة لأطفالها (اليتامى) ومنهم الفتى جبران خليل جبران.
"لقمة شريفة كريمة" عبارة لا محل لها من الإعراب، أو مسرفة في الأخلاقوية وغير قابلة للصرف في سوق العملات، وقد يقهقه لسماعها سماسرة (الكلمات والأشياء) لكنها قد تكون وطنا للحالمين. إنه الشعر مرة ثانية فقصة جبران هي وطن من الذكريات والمنفى والأمل والأرواح المتمردة .. إنها قصة وطن بلا حدود.
عذرا للقارئ ما كتبته للتو هو إستمرار في محاولة فهم الوطن بشقيه الموضوعي والذاتي، الحقيقي والشعري. فهو أحد المركبات الذهنية المعقدة، ولبنان الحالي هو نموذج (عبقري) لهذا المركب، وكاتب السطور يعتبره أهم الأوطان "التشكيلية" التي تستوطن ذاكرته ولغته. ربما بسبب القرب الجغرافي (بضعة عشرات من الكيلو مترات) إضافة لذكريات حميمة عن أقارب وأحبّة من بؤساء الريف السوري، كانوا قد هجروا أرضهم وعملوا أجراءا (وعبيد) في مزارع (الخواجة إلياس وغيره من إقطاعيي لبنان) وتعرضوا أحيانا للمهانة ولذعات خيزرانته أو كرباجه.
وهم نفس الأقارب الذين كانوا يتباهون بالهوية اللبنانية، ويسافرون إلى مدينة زحلة للمشاركة في الدبكات وأعراس الإنتخابات، وإختيار مرشحهم (من آل سكاف، أحد إقطاعيي السياسة المعروفين) ثم إستلام أتعابهم (بلغ سعر الصوت الإنتخابي الواحد في الخمسينيات حوالي 100ليرة) وهو مبلغ محترم كان يقبضه المصوّت لتغطية بعض المصاريف وشراء الهدايا (والتبغ وراحة الحلقوم، وبسكويت غندور) لكن قبل الإستمرار أرجو من القارئ ألا يعتبر أقاربي مجموعة من المرتزقة، بل أناس بسطاء وشرفاء، لحسوا أصابعهم أحيانا من كعكة الفساد السياسي وشراء الذمم، وهذا يسمى بلغتنا "باب رزق" وكما يقول المثل الشعبي: رزق الأهبل على المجنون (مع حرية التأويل)
ولفهم عبقرية لبنان (الوطن الإفتراضي) أجد من البديهي العودة إلى الجذور، إلى أنطولوجيا الأشياء، فلبنان (لفظ يعني الأبيض: بسبب تراكم الثلوج ) وهو تاريخيا ليس أكثر من متصرفية جبل لبنان، حسب تقسيم الإدارة العثمانية، وهو الجبل الذي ربطه أحد الحجاج عام 1836م: بشجرة الأرز (الرومانسية) والبساتين الجبلية والمهابط الصخرية، التي تنبثق منها الشلالات والنباتات، والوهاد الموحشة والرهبة والتقديس .. وكأن هذا المكان هو حارس بين الزمن والأبدية والتذكارات الحزينة لأيام المعبد الأول، حينما كان الرب يسكن وسط شعبه.
وهذه الجذور (الإجتماعية التاريخية) تأخذنا قسريا إلى الموارنة. فهم سكنة الجبل ومؤسسو لبنان الحديث، و يعود الموارنة للكنيسة السورية، التي تمردت جزئيا على بيزنطة، ونسبت نفسها إلى راهب سوري (أسطوري) من القرن 5م، يُدعى مار مارون، يُقال أنه من منطقة تقع شمال غرب نهر العاصي
وكما يخبرنا التاريخ الرسمي. فإن الموارنة تميّزوا بالصلابة والفروسية، لكنهم إضطروا لترك كنائسهم القديمة (بين حمص وحلب) بُعيد (الغزو العربي؟) وبدأوا بإستيطان الجبال الشاهقة وإستمر الأمر أثناء هيمنة العثمانيين وفرض الجزية عليهم واللباس الأسود ومنعهم من ركوب الخيل.
وقد حافظ الموارنة على طقوس كنيستهم السورو ـ آرامية رغم إعتناقهم الكاثوليكية وعلاقتهم المبكرة مع روما (بدأت زمن الحروب الصليبية ثم تعمقت من خلال المجمع الكنسي عام 1736م الذي ربطهم بالكرسي البابوي، مع تمتعهم بحرّية ممارسة طقوس الكنيسة السورية)
وهنا ينبثق سؤال مهم يرتبط بعلم اللسانيات.. لماذا تخلّى الموارنة عن الآرامية لصالح العربية؟ خصوصا أنهم منعزلون في تلك الجبال الشاهقة (ولا تصل إليهم العفاريت الزرق) وكيف يحافظ المرء على طقوسه الدينية ومعتقداته لقرون عديدة ويحافظ على صلاته مع روما، ويعيش وسط ممالك صليبية قرنين من الزمان، ويقاوم العرب والترك والولاة بفروسية منقطعة النظير؟ ثم يلقي آراميته وينطق بالعربية (سبحان الله)؟ لماذا لم ينطق بالتركية مثلا لغة الولاة، أو اللاتينية لغة الصليبين؟
الإجابة ليست مهمة بقدر السؤال. الذي يرفع اللثام عن سذاجة ما تعلمناه في درس التاريخ؟ فالموارنة كانوا ومازالوا جزءا أصيلا من موروث لغوي عام طبع الهلال الخصيب، قبل قدوم السيد جبريل إلى غار مكة.
وقبل إلقاء الضوء على بعض مفاصل تاريخ جبل لبنان، ألفت النظر إلى قضية جوهرية حاولت الوطنية الضيقة بثها، لخلق وعي وطني مزيّف، أقصد ربط لبنان (الحالي) بفينقيا وكأن مسيو بيكو كان يرسم بقلمه حدود ذلك الوهم التاريخي، لأن فينيقيا ليست أكثر من ترجمة يونانية للفظ "كنعان" تماما كإستبدال مصر بلفظ "إيجبت". فالفينيقية كذبة واهية.. ووهم أركيولوجي (فينيكوس تعني الأرجوان القرمزي، الذي تاجر به البحارة الكنعانييون من جبيل وصور)
وبإيجاز شديد يمكننا أن نتوقف عند بضعة محطات لسبر هذه الصيرورة اللبنانية:
أولا: عام 1590م حكم جبل لبنان الأمير فخرالدين المعني الثاني (درزي) وجمع الموارنة والدروز تحت قبضته، وكان متأثرا بعصر النهضة الأوروبية، سيما أنه قضى أعواما في المنفى الأوروبي (في توسكانا إيطاليا)
ثانيا: بدأت الحداثة الأوروبية تتسرب فعليا مع حكم بشير الثاني الشهابي (1788ـ 1840) (ماروني وحليف لمحمد علي في مصر) وهو الذي قام بإضعاف الإقطاع القروسطي المستبد وإنهاك النفوذ العثماني وإدخال الآلات والمشاريع الهندسية.. وللمفارقة نقول أن الأمراء الشهابين الموارنة، هم مسلمون أساسا، وتعود أصولهم إلى حوران في جنوب سوريا، وقد إنتقلوا عام 1170م أثناء الحروب الصليبية إلى منطقة راشيا وحاصبيا، وتحالفوا فيما بعد مع الحكام المعنيين (الدروز) ثم مع المورانة، وإعتنقوا المسيحية.
ثالثا:أما النقلة المهمة في صياغة لبنان الحالي، فقد لعبتها مدارس التبشير الوافدة لبلاد الشام (اليسوعية والأنجيلية) وتعميق الشعور القومي (العربي) كأداة في الصراع ضد الدولة العثمانية، ودخول المطبعة وبداية التعليم الحديث.
ومن الملفت أن الكنيسة المارونية قاومت بشراسة البروتستانتية الوافدة مع المبشرين الأمريكيين، وأصدرت فرمانا شهيرا عام 1826م يكفّر كل من يتعامل مع هذا المذهب (الملحد) ويحضرني بهذا المقام ذكر "أسعد الشدياق" وهو أول معتنق للبروتستانتية، فقد حبسته الكنيسة المارونية في أحد الأديرة ثم قتلته بتهمة الهرطقة.
رابعا: ومن المناسب ذكر المذبحة الأهلية في الجبل عام 1860م بين الموارنة والدروز وإنهيار تحالفهم التاريخي المتذبذب.. وتعود أسبابها إلى خلافات بين إقطاعيي الأراضي وتقاطعات وتضاربات دولية ضلعت بها بريطانيا (حليفة الدروز) وفرنسا (حليفة الموارنة) والباب العالي. فالويل للبنان إذا إختلف أولياء نعمته فيما بينهم ، لأن القضية كانت ولا زالت محكومة بمبدأ: الآباء يأكلون الحصرم والأطفال يضرسون.
بعد هذه المحطات المقتضبة نعرف جميعا كيف نشأ الكيان السياسي الحديث، عبر دستور عام 1926م وكيف صفّق طائر (البطريق) بجناحيه الماروني، السنّي، من خلال إضافة مناطق واسعة تعود للعمق الشامي.
المهم أن لبنان قام على أغرب ديمقراطية توافقية عرفها العالم ، فهي ببساطة شكل إتحادي بين كانتونات دينية ومذهبية ذات حدود وهمية، قد تتحوّل بسرعة إلى حواجز للخطف وسواتر للقنص. ومن ثوابت تلك الديمقراطية، ضمان وحماية الإقطاع السياسي الديني القروسطي وإعادة تفريخه دوريا، حتى ولو كانت رموزه من بارونات الحرب الأهلية ومن الضالعين بجرائم الإبادة والخطف والتطهير. إذ تكفي بعض المجاملات العربية وبوس اللحى، وشرب فنجان من القهوة، إلى دفن الماضي والإستمرار بنفس الدبكة القديمة..
وتجدر الإشارة إلى أن المدن العثمانية السنيّة الرئيسية (طرابلس، بيروت، صيدا) كانت ذخيرة مهمة لحركة المد القومي (البعث، حركة القوميين، الناصرية)
لكن إشتعال الحرب الأهلية عام 1976 م وما رافقها من صراع دولي أقليمي، أدى إلى صياغة بنود مؤتمر الطائف، التي تضمّنت زحزحة الدستور القديم، ونتف الجناح المسيحي، وتوزيع ريشه على الذيل (وهو مهم في توجيه مسار الطائر). وأيضا ساهم نفوذ البترودولار في تقصير الدشداشة السنية، ونمو الأفكار الأصولية. وفتور التيار القومي. وظهور كوكتيل تقوده حريرية سعودية، متحالفة مع الغرب، تقف بوجه شيعية سياسية. نهضت بقوة مع قدوم الثورة الإيرانية عام 1979م، وإكتسبت مشروعية وطنية عالية عبر مقارعتها الطويلة والدامية لإسرائيل
إن لبنان أثبت دائما إرادة فذة، فعبقريته إستمدها من جذوره الضاربة في عمق محيطه المترامي، الذي قطّعت أوصاله بمقص سايكس بيكو ..إنه خليط تاريخي ثقافي متشابك، فمعظم العائلات الكبرى توزعت بين مدن الإدارة العثمانية لولاية سورية (دمشق، القدس، حيفا، طرابلس، حلب) ومعظم العائلات إنقسمت دينيا ومذهبيا. حتى عائلة الأديبة الفلسطينية المولد: ماري إلياس زيادة (مي) إنشطرت عبر الحدود، ومنها المسيحي ومنها المسلم. فأي طائر فينيق وأي بطيخ هذا الذي يشحج به البعض؟
وقبل الإستئذان أعود إلى نيويورك عام 1895م إلى تلك المرأة العصامية: كاملة رحمة ( أم جبران خليل جبران) التي عبرت المحيط برباطة جأش، بعد أن تركت زوجها "خليل" يدفع في السجن ثمن مقامرته وسفاهته وإختلاسه..
لم يكن مدهشا أن تكون "كاملة" إبنة قسيس يدعى إستيفان عبدالقادر رحمة، وعبدالقادر جدها .. هو فارس مسلم دخل جبال بشري وإعتنق المسيحية وتزوج سيدة مارونية من آل رحمة، وليس مدهشا أن يكون آل جبران قد قدموا من العمق السوري عام 1672م وإستوطنوا بشلا قرب بعلبك ثم صعدوا تلك الجبال العاتية.
لكن المثير للإعجاب حقا أن تملك "كاملة رحمة" إرادة فولاذية، وصبرا وعنادا وتحمل صرّة (بقجة) على رأسها، تزن خمسين رطلا من الأقمشة (كعادة الباعة الجوالين السوريين) وتسير الأميال الطويلة في شوارع بوسطن وضواحيها، كي تضمن لقمة شريفة كريمة لأطفالها (اليتامى) ومنهم الفتى جبران خليل جبران.
"لقمة شريفة كريمة" عبارة لا محل لها من الإعراب، أو مسرفة في الأخلاقوية وغير قابلة للصرف في سوق العملات، وقد يقهقه لسماعها سماسرة (الكلمات والأشياء) لكنها قد تكون وطنا للحالمين. إنه الشعر مرة ثانية فقصة جبران هي وطن من الذكريات والمنفى والأمل والأرواح المتمردة .. إنها قصة وطن بلا حدود.