دعكم من التصريحات الأمريكية السخيفة التي تتحدث عن سحب القوات الأمريكية من سوريا، أو تلك التي تتحدث عن اضمحلال الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، فهذه كلها تصريحات لذر الرماد في العيون والضحك على الذقون. ولا يختلف الأمر من إدارة أمريكية إلى أخرى. هل صححت إدارة بايدن الجديدة الخطأ الذي ارتكبه ترامب في سوريا؟ وهل تعتبره خطأً أصلاً؟ من المعلوم أن ترامب استولى على سوريا المفيدة الحقيقية وهي شرق سوريا بمساعدة حلفائه الأكراد، وهذا الجزء من البلاد يحتوي على النفط والماء والقمح، وباتت ثروة سوريا النفطية بأيدي أمريكا وعملائها هناك. أرجوكم لا أحد يقول لي إن أمريكا ليست في حاجة للنفط السوري، فهذا هراء وتحليلات صبيانية، فلو لم تكن أمريكا طامعة بثروات سوريا، فلماذا وضعت يدها على سوريا المفيدة حصراً وتركت الجميع يتقاتلون على سوريا غير المفيدة؟ لقد دخلت أمريكا إلى سوريا بحجة محاربة داعش والإرهاب عموماً، ولو خرجت الآن فهذا يعني أنها تعترف بالقضاء على الإرهاب في سوريا، وبالتالي فلم يعد هناك مبرر لوجودها، ناهيك عن أنها ستخسر بذلك ذلك الجزء الحيوي من سوريا. لهذا فلا مصلحة لها أبداً في حل قريب للكارثة السورية وعودة السوريين إلى ديارهم وإصلاح النظام، وعودة الحياة إلى مجاريها في البلاد.
هل من مصلحة روسيا أن تنحل المسألة السورية التي أعطتها أول منفذ إلى المياه الدافئة، ومنحتها موقعاً استراتيجياً فريداً من نوعه من خلال قاعدتها العسكرية الشهيرة في الساحل السوري بحميميم؟ هل من مصلحة روسيا أن يتفق السوريون ويضعوا أيديهم على ثروات ومقدرات بلادهم التي تنهبها روسيا الآن من خلال عشرات الاتفاقيات التي وقعتها مع النظام العميل لعشرات السنين في استخراج الغاز والسيطرة على الموانئ والاستئثار بالثروات التي تقع في المناطق التي تهيمن عليها موسكو؟ أي قوة أخرى في مكان الروس ستعمل جاهدة على أن يبقى الوضع السوري على حاله لعشرات العقود، خاصة وأن بعض الاتفاقيات التي وقعها طرطور الشام مع الروس تمتد لعقود وعقود.
هل من مصلحة إسرائيل أن تستعيد سوريا أنفاسها وتبني نفسها من جديد، ويقوم فيها نظام سياسي ديمقراطي ينهض بسوريا والسوريين؟ لقد منحت الأزمة السورية إسرائيل هضبة الجولان الاستراتيجية حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً بعد أن وقع لها الرئيس الأمريكي السابق ترامب على صك ملكيتها. أيهما أفضل لإسرائيل أن يبقى النظام السوري مهيض الجناح عسكرياً وسياسياً والشعب يعاني الأمرّين، أم أن تظهر سوريا جديدة قوية على حدودها؟ بالطبع فإن استمرار الوضع الكارثي على حاله هو نعمة كبرى لتل أبيب.
سوريا تقسمت بشكل فعلي وليس نظري على الأقل إلى ولاءات لقوى خارجية، ولا يمكن أن تتخلى عنها إلا بوجود نظام حكم جديد يضمن الحماية للسوريين جميعاً، وهو أمر ليس مناسباً لأحد
هل من مصلحة تركيا أن يعود الشمال السوري إلى سيطرة نظام جديد في سوريا بعد أن بات الشمال وسكانه يفضلون تركيا ألف مرة على العودة إلى النظام الحالي؟ صحيح أن تركيا قدمت للشمال خدمات وحياة أفضل بكثير مما هو موجود في مناطق النظام، لكن هل هو مجرد مساعدة مرحلية لسكان الشمال السوري، أم تخطط استراتيجي بعيد المدى؟
هل من مصلحة إيران أن تعود سوريا إلى سابق عهدها على أقل تقدير بعدما تغلغلت في النسيج السوري ثقافياً ودينياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً واستخباراتياً وصارت الحاكم بأمرها في الكثير من القضايا؟ هل يمكن أن تتخلى طهران عن المناطق السورية المحاذية للعراق أو التي توصلها مباشرة إلى لبنان؟ طبعاً لا.
حتى العرب لا مصلحة لهم في تغيير الوضع في سوريا، فقد جعلوا من الشعب السوري عبرة لمن يعتبر، وصنعوا منه فزاعة لشعوبهم لعشرات السنين، فكيف يقبلون بتحقيق أحلام السوريين في الحرية والكرامة والديمقراطية التي يمكن أن تحرض شعوبهم على الاقتداء بها؟
هل من مصلحة النظام السوري الحالي أن يتم تطبيق القرار الدولي رقم 2254 القاضي بتشكيل مجلس حكم انتقالي يطيح بالنظام الحالي ويؤسس لنظام جديد تماماً، أم من الأفضل للنظام أن يعيش كمعقب معاملات للمحتلين في سوريا؟ أليس بشار البهرزي سعيداً جداً بالدور الذي يقوم به على نذالته وسفالته مقارنة بأي حل يمكن أن يبعده عن السلطة تماماً؟ أليس النظام بشكله الحالي مناسباً جداً لكل الأطراف التي تتحكم بالساحة السورية؟ أليس من العبث السياسي أن يفكر أي طرف باستبدال الرئيس أو تغيير النظام الذي بات يخدم جميع الغزاة والمحتلين على حد سواء؟ ألا ينفذ ما يُسمى بالرئيس السوري المخطط، لهذا تمت مكافاته بإجراء الانتخابات وهي بمثابة «موافقة» أمنية أممية وتكريس دولي للوضع القائم واعتراف به وبالتحاصص الراهن وموافقة وتوافق عليه وما على بشار إلا الحفاظ عليه والقبول به وحراسته من عيون شرفاء سوريا والوطنيين «الحشريين» الحسودة الذين يحاربهم بلا هوادة ويزج بهم في غياهب السجون والزنازين والأقبية والمعتقلات، وهو يقوم بمهامه أمام أسياده وأولياء نعمته على أكمل وجه وعلى ما يشتهون وما يرام، ورضي بدور الخفير المناوب ولعب دور الشرير والوغد وابن الحرام.
دعونا نعترف بأن كل الأطراف مستفيدة من إبقاء الوضع السوري على حاله لعقود وعقود، وللأسف حتى السوريون أنفسهم توزعوا على القوى المسيطرة على البلاد. لقد انقسمت سوريا إلى ثلاثة أقسام لا تخطئها عين، فقد أجبر النظام مؤيديه في الساحل السوري على الخضوع للحماية الروسية، والشمال السوري اختار العباءة التركية، أما الأكراد فقد اختاروا المظلة الأمريكية. ولو عرضت إسرائيل أو الأردن أو حتى بوركينا فاسو على الجنوب السوري الحماية من النظام الفاشي سترى كل أهل المنطقة يهرعون إليهم. وبذلك تكون سوريا قد تقسمت بشكل فعلي وليس نظري على الأقل إلى ولاءات لقوى خارجية، ولا يمكن أن تتخلى عنها إلا بوجود نظام حكم جديد يضمن الحماية للسوريين جميعاً، وهو أمر ليس مناسباً لأحد.
-------
القدس العربي