ليس العراقيون هم المسؤولين عن فشل الديمقراطية، ومثلما نسمع قوالين يقولون: لا يصلح لهم إلا الحجاج الثقفي (ت 95 هـ)، على أنه أخضع العراق لخليفة بدمشق مدى عشرين عاماً، وزادوها، نكاية: لا يصلح لهم سوى صدام حسين (أُعدم 2006).
نعم، لا يميز العراقيون مائز العنف أو عشق الفتنة، مثلما يتشدق الغاوون بإهانتهم، شعباً لا حُكاماً، بكلمة نُسبت خطأ لعلي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ): "يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق". ولما سمعتها من أستاذ فلسطيني، كان يدرّس التاريخ، بحثت عن القائل، فليس من المعقول أن ابن أبي طالب سكن العراق، وقاتل العراقيون معه، يوصمهم بوصمة لا تزول، مثلما جاءت على لسان صاحبنا أستاذ التاريخ، وبالفعل لم يقلها الإمام، وكتبت أكثر من مقال آخره تحت عنوان "الحمد لله الإمام لم يقلها". قالها عبدالله بن الزبير بن العوام (قتل 73 هـ)، وكانت معركته بالحجاز لا بالعراق، لكنه قالها إثر مقتل أخيه مصعب بن الزبير (71 هـ)، والذي قتله عبدالملك بن مروان (ت 86 هـ)، هناك بالدُجيل (عيون الأخبار)، تلك المدينة العراقية حاضرة التاريخ العريق، التي اشتهرت أخيراً خلال محاكمة صدام. أما العراقيون فأقاموا لمصعب مزاراً، تحول في ما بعد إلى اسم آخر، من عادة الأيام أن لا تثبت، لا للأحياء ولا للأموات، وهذه قصة أخرى.
حقاً، العراقيون أحبوا علياً، ومن قبل أحبوا عمر بن الخطاب (اغتيل 23 هـ)، فالأول جعل من كوفتهم عاصمة، والثاني حرمَ الإقطاعيات، وجعل الأرض غنيمة للدولة، وترك العراقيين، مَنْ أسلم ومَنْ ظل على دينه، قوامين على أرضهم. صحيح أن مَنْ أتى من بعده أتعبهم بالخراج، لكن توزيع الأرض إلى قطاعيات على قادة الجيش والمقربين، يفتك بأهل القُرى، إذا كانوا ينالون شيئاً من الدولة، فالإقطاعي جعلهم عبيداً وبأرضهم! والذي أخل بهذه القاعدة العُمرية (نسبة إلى ابن الخطاب) هو الوزير السلجوقي نظام المُلك (اغتيل 485 هـ)، فوزع الأرض إلى إقطاعيات، وكل ملاك حرٌّ بمقاطعته وفلاحيها.
ولما أعادها الخليفة يوسف المستنجد العباسي (اغتيل 566 هـ) انتعش النَّاس، حتى قيل رخص سعر الوَّرْد ببغداد، العام 563 هـ (تاريخ بن الفرات)، وهو مادة رفاه لا ضرورة حياة. لكنه قُتل بها مثلما قُتل عبدالكريم قاسم (1963) بأحد القوانين ومنها قانون الأرض، وهو "الإصلاح الزراعي". ويُعدُّ الأخير من العادلين المستبدين، نقول ذلك لعفته الشخصية، ومشاريعه الخاصة بالفقراء، وتيمنه بقول العزيز الجليل: "عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ"(المائدة 96) للقاصدينه شخصياً (محاولة اغتيال في 7 أكتوبر 1959)، وأحدهم كان صداماً، والحادثة مشهورة. والأكثر من هذا، لا يجد الباحث في عروقه عرقاً طائفياً، ضد أيٍ من أهل العراق، ديانات وقوميات ومذاهب. لكن، تحت ظل الديمقراطية الشوهاء عاد أبناء أصحاب الإقطاعات وأعادوا وبقوة الأتباع لا القانون إقطاعياتهم، بل توسعوا أكثر وكأن أرض العراق غدت أفاءً لهم، وللجواهري (ت 1997): "ألمَ ترى أن الشعبَ جُلُّ حقوقه.. هي اليوم للأفراد ممتلكاتُ!".
على أية حال، مازالت سبابة الاتهام توجه للعراقيين على أنهم طُلاب فتنة، كيف لا وقد نًقل أن ابنهم عمرو الجاحظ (ت 255 هـ) قالها، مع أنها غير موجودة في كتبه، إنما أخذت نقلاً: "العلَّة في عصيان أهل العراق على الأمراء وطاعة أهل الشام، أن أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة. ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث. ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح، والترجيح بين الرجال، والتمييز بين الرؤساء، وإظهار عيوب الأمراء. وأهل الشام ذوو بلادة وتقليد وجمود على رأي واحد، لا يرون النظر، ولا يسألون عن مغيب الأحوال" (شرح نهج البلاغة).
ومثلما تحققتُ من براءة علي بن أبي طالب من قول تلك الكلمة، أتمكن هنا من براءة الجاحظ من هذه الكلمة، فهي ليست في أوراقه، ولو مزقتها من التوريق وفي كل طبعاتها ما وجدت أثراً لها، إنما أُخذت على عواهنها من قبل باحثين كبار لكنهم خطاؤون، وجلَّ مَنْ لا يخطئ. مَنْ قالها هو ابن أبي الحديد (ت 656 هـ)، قالها حبَّاً بعلي بن أبي طالب، وبمعسكره من أهل العراق، وحبَّاً أيضاً بالجاحظ نفسه، كونه معتزلياً، وابن أبي الحديد كان شافعياً ومعتزلياً، وفي دواخله عاطفة شديدة لعلي بن أبي طالب، لذا أراد أن يبعد عن شيخه الجاحظ عثمانيته، مثلما كانت تصنف الأحزاب، بالإشارة إلى معسكر الشام بالبلادة! وهي واحدة أن يحفظها العراقيون شاهداً على الوئام الطائفي، أن الذوبان في حبِّ علي وآل علي سجية سُنية وشيعية.
لهذا أقول: أحذروا السياسة والعاطفة في قراءة التاريخ، ولا تحكموا على أهل العراق بعشق الفتنة، والشغف بالدماء، مثلما كتب أحدهم كتاباً بهذا الصدد، وهو عبارة عن جمع لروايات معارك وفتن جرت مثلها بمصر وإيطاليا واليمن وبلاد المغرب وسواها من البلدان. العراقيون، كبقية الشعوب تواقون لعادل مستبد، وكارهون لديمقراطي جائر. ألم يجب أحد فقهائهم على سؤال لهولاكو (ت664 هـ) عندما أراد رأي الفقهاء في تفضيل العدل! قال ابن طاوس (ت 664 هـ): "تفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر" (الفخري في الآداب السلطانية). والحكمة ليست من عنيات ابن طاوس إنما هي حديث: "الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم"(الغزالي، نصحية الملوك).
أتدرون، بعد ثلاثين عاماً من الثورة الدينية بإيران يظهر مغنيها المشهور فرهاد مهراد، وينشد تلك الحكمة أغنيةً، لو سمعتموها، لعرفتم كيف يتحد الفن مع الكلام القدسي من أجل العدل. وسينشد العراقيون ألف نشيد ضد ديمقراطية شوهاء، ولا تتهمونهم بعنف وعصيان إذا ما ثاروا.
------------------------
الاتحاد الإماراتية