كذبنا طويلاً. ادعينا ان شعبنا موحد المشاعر والتطلعات، وأنه متلاحم كالبنيان المرصوص، وأننا أسرة واحدة، وأن تضامن أعضائها يشكِّل سداً في وجه الرياح. هربنا من السرطانات التي تنهشنا، وضحكنا على أنفسنا، مرة بالفولكلور والأغاني، وأخرى بالأناشيد الحماسية، وثالثة ببيانات الحزب. وتَغَطَّينا بالقضية القومية، وبالقضية المقدسة. كأن الأمراض المزمنة يمكن ان تعالَج بالكلام الخشبي، وبخور المدّاحين، والحروب البديلة.
كذبنا طويلاً. رفضنا أن نشاهد، وأن نعترف، وأن نصدق. زوَّرْنا المشهد عمداً او بفعل نيات طيبة. قلنا إنّ وضعنا سليم، وإن المشكلة تكمن في الاصابع الخارجية، والمؤامرات الوافدة من وراء الحدود، وإن العالم يستهدف استقرارنا وهويتنا وثروتنا، وإن دسائسه تتسرب الينا عبر السفارات والكتب والشاشات والمفردات. كذبنا في الكتب، وفي الخطب، وفي الأحاديث الصحافية، وفي نشرات الأخبار. أخفينا الجثث، وأرغمنا الأيتام على امتداح مَن يَتَّمَهم، والاخَ على الوشاية بأخيه. مارسنا سياسات طائفية او مناطقية، وأطلقنا عليها تسميات اخرى، وحصلنا بالترهيب والتشاطرعلى شهادات حسن سلوك من المواطنين وهيئات اقليمية ودولية ولم ننس المؤرخين.
كذبنا على انفسنا وعلى الآخرين. اخترعنا لبلداننا صوراً بهية وكذبنا على المواطنين والسياح. لكن حبل الكذب قصير مهما طال. فور هبوب العاصفة تتناثر بلداننا كالزجاج المطحون. تتشلع المؤسسات. تتشقق الحكومة. يختنق البرلمان. يتفكك الجيش. ويتوزع الناس على متاريس طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم. وهكذا نهاجر من الهدوء القسري الدجال الى جحيم الحرب الاهلية. من كذبة التلاحم الوطني الى استباحة لحم المواطن على يد من يفترض أنه شريكه في الآلام والآمال كما تزعم الإذاعة الرسمية.
سأبدأ عزيزي القارئ من مكان أسميه وطني، على رغم شعوري العميق باليتم. تابعت المناقشات الاخيرة في البرلمان اللبناني واعتراني خجل جديد على رغم وجودي على مسافة آلاف الكيلومترات. بلاد مفككة من الوريد الى الوريد. من الناقورة الى النهر الكبير. تمزقت اوراق التين عن مفاتن التعايش اللبناني. كلام مذهبي وخوف عميق وقلق أقليات تتعاطى أدوية مضرة وأوهاماً قاتلة. فاجأتني قراءات متسرعة ومنحازة لأحداث المنطقة وانعكاساتها على لبنان. اجتماع التعصب وضعف البصر والبصيرة ينذر بعواقب وخيمة.
لنترك لبنان جانباً. سورية تدخل رسمياً دائرة الدول المريضة. حين يقرر مجلس الأمن وبالإجماع إرسال مراقبين الى المدن والبلدات السورية فالأمر كثير الدلالات. ارسال مراقبين الى الحدود بين دولتين شيء وارسالهم الى داخل دولة شيء آخر. الامر يعني أيضاً أن روسيا حليفة النظام السوري لم تعد تتبنى تماماً رواية «العصابات المسلحة» على رغم استمرارها في انتقاد المعارضة وبعض المواقف الخارجية. تضاعف قلقي على سورية حين شاهدت على احدى الشاشات سورياً يقول إن حمص «تتعرض للتهجير بسبب انتماء أهلها». وسمعته يقول إنه «لا يقبل العيش مواطناً من الدرجة الثانية». كنت سمعت العبارة نفسها قبل شهور من سياسي عراقي، وقلقت اكثر حين قرأت عن عمليات تبادل للرهائن في بعض المناطق وعن قتل رهائن حين تتعثر المفاوضات. تذكرت كم سمعنا في السنوات الماضية أن سورية مختلفة، وأن التربية القومية فيها تحصنها ضد «الامراض اللبنانية». ما يجري مخيف فعلاً. يُخشى ان تنكسر سورية نفسُها قبل ان ينكسر احد طرفي النزاع.
بُعَيْدَ إسقاط صدام حسين، كان السياسيون العراقيون يسخرون من اي سؤال يعكس تخوفاً من انزلاق البلاد الى اقتتال داخلي. وغالباً ما كان الجواب: «نحن ليست لدينا طائفية لدينا صراعات سياسية حادة». ولأنني وافد من بلد مريض، كنت أتمنى أن يكون ما أسمعه صحيحاً لكن الأحداث اللاحقة كانت تقول إما أننا لا نعرف بلداننا وإما أننا نعرف ونكذب على أنفسنا والعالم. ما يصح قوله عن لبنان وسورية والعراق يصح ايضاً في بلدان كثيرة تبحث عن دستور او رئيس. فضحنا الربيع.
لا تمكن مداواة مريض يزعم التمتع بصحة خارقة. اول العلاج الاعتراف بالمرض. تقاريرنا مشكوك بصحتها. مصالحاتنا الوطنية تمثيليات مملة. مطلبنا الحقيقي إخضاع الآخر المختلف وشطب ملامحه اذا تعذر شطبه بالكامل. دولنا مريضة في ما يتعلق بحقوق الأفراد والأقليات والمرأة ومفهوم المواطنة والتساوي في الحقوق والواجبات. كلما هبت عاصفة فضحتنا. لقد كذبنا طويلاً على أنفسنا وعلى الآخرين.
-------------------
الحياة اللندنية