حافظ الأسد: وجوه متعددة لدور أساسي
لماذا لم يشعر بأن وجود قبره الطبيعي يجب أن يكون في عاصمة البلاد التي حكمها لثلاثة عقود ثم استطاع بفضل قبضة أجهزة مخابراته الحديدية، والمباركة الأمريكية المسبقة أن يهندس عملية توريث الحكم لابنه، وربما كان مطمئناً إلى أن ابنه سيورث الحكم لابنه أيضا؟!
بروفا إسقاط التماثيل
ترى هل كان حافظ الأسد يشك في قدرة ابنه على الاستمرار في الحكم المطلق للبلاد من بعده.. وبالتالي قدرته على حماية جثمانه أو "ضريحه" في دمشق؟ هل كان يشك في محبة السوريين له؟! هل كان واثقاً أنه كان قائداً تاريخياً وزعيماً حقيقياً في نظر السوريين بالفعل.. أم إنه كان يرى نفسه رغم كل العقود التي قضاها في قمة السلطة زعيماً لطائفته فقط.. عليه أن يعود إلى رحمها وأن يحتمي بترابها، لأنه يدرك أنه سيأتي يوم على السوريين يستطيعون أن يجاهروا بعدائهم له وأن يصنفوه كواحد من كبار المجرمين ومرتكبي المجازر الجماعية بحقهم في تاريخ سوريا المعاصر، إن لم يكن الأكبر فعلا؟!لعل الجواب الأكثر دقة على السؤال الأخير لم يره حافظ الأسد بنفسه، وإن رآه الابن الوريث بأم عينه.. حين اندفع السوريون يحطمون تماثيل الأسد الأب بعد اندلاع الثورة ضد حكم ابنه في آذار/ مارس من عام 2011 كان في مشهد إسقاط تمثال حافظ الأسد في درعا. تلك الصورة التي زلزلت أركان النظام برمته، وقدمت تصوراً عما يمكن أن يحدث لجثمانه في يوم من الأيام.
تتالى إسقاط تماثيل الأسد في الرستن وفي أماكن أخرى.. ما دفع رئيس مكتب الأمن القومي آنذاك اللواء هشام بختيار للإيعاز برفع التمثال من مدينة حماة، التي شهدت أكبر مظاهرة ضد النظام في تاريخ الثورة منذ تفجر الاحتجاجات الأولى في درعا. كان رفع التمثال في العاشر من حزيران/ يونيو عام 2011 في الذكرى الحادية عشرة لإعلان وفاة حافظ الأسد.. ولم يعد التمثال إلى مكانه إلا في شباط/ فبراير من عام 2017 بعد قرابة عامين من التدخل العسكري الروسي الذي أوقف انهيار سلطة النظام الذي كان قد خسر السيطرة على قرابة 80% من مساحة سوريا، بما في ذلك المنافذ الحدودية الشمالية والجنوبية والشرقية. عاد التمثال ليجثم في ساحة النسر التي يطلق عليها الحمويون (دوار الصنم) مصحوباً بحراسة أمنية مشددة على مدار الساعة.. كانت إعادته عملاً كيدياً بامتياز لتأكيد سلطة النظام على المدينة التي دمّر حافظ الأسد ثلثي أحيائها التاريخية وقتل عشرات الآلاف من سكانها في مجزرة 1982 الرهيبة.. ولا يشك أحد من العلويين – بما فيهم المعارضون للنظام – أنه في الوقت الذي ستنهار سلطة النظام لن يجد الحمويون – إن بقي التمثال – أفضل منه هدفاً لأولى عملية التدمير الرمزية لذكرى "المقبور" كما بات يطلق عليه الكثير من السوريين اليوم. هل خضع حافظ الأسد لتقييم إيلي كوهين؟
لا يجهل حافظ الأسد الثمن الذي قدّمه كي يصل إلى قمة السلطة في سوريا، ثم كي يسمح له بعلونة قيادات الجيش وأجهزة المخابرات مع كومبارسات شكلية من مجرمي باقي المكونات السورية، ثم كي يسمح له بالبقاء رئيساً لسوريا مدى الحياة وتوريث السلطة لابنه في نظام يفترض أنه جمهوري لا يخلف فيه الابن أباه.قبل فترة قصيرة كنت في لقاء شخصي مع أحد قدامى ضباط سلاح الطيران في الجيش السوري، وهو السلاح الذي تبوأ حافظ الأسد رئاسته في شباط/ فبراير من عام 1964 بدعم من ابن طائفته اللواء صلاح جديد وبقي محتفظاً به حتى بعد أن شكّل الحكومة وترأس مجلس الوزراء بعد إنجاز انقلابه العسكري للاستيلاء على السلطة في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1970 وقد تطرق الحديث مع الضابط المخضرم الذي سُجن لسنوات في عهد حافظ الأسد إلى علاقة الأخير بالجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين. كانت وجهة نظر الضابط أن كوهين لم يأتِ في مهمته إلى سوريا من أجل نقل الأخبار، بل من أجل تقييم قادة البعث في تلك الفترة لاختيار العميل الأنسب لحكم سوريا.
زيارته لبريطانيا بعد القبض على كوهين
إذاً ثمة إقرار بسلوك حافظ الأسد الإجرامي الذي لا يتورع عن القتل أو إبعاد طيارين عن عملهم بسبب كلمة قالوها عنه.. وفي هذا، وثيقة بأن جزءاً من مهمة كوهين كانت تقييم القيادة السورية في تلك المرحلة.. ولهذا فمن الجوانب التي أعتقد أنها تستحق أن تدرس في سيرة حافظ الأسد، تزامن زيارته إلى بريطانيا عام 1965 بحجة العلاج، مع أحداث اكتشاف إيلي كوهين ومحاكمته.يزعم باتريك سيل كاتب سيرة حافظ الأسد التي كان مرضياً عنها من قبل هذا الأخير، أن زيارة الأسد لبريطانيا تمت أواخر صيف 1965 ،لكن وثائق الخارجية البريطانية المنشورة بهذا الصدد تؤكد أن الزيارة تمت أواخر نيسان/ أبريل أو مطلع أيار/ مايو على أبعد تقدير كما هو مثبت في وثائق الخارجية البريطانية.
"لقد بذلنا قصارى جهدنا للرد على الطلب الوارد في برقيتكم ذات الرقم 218 لـ 28 من أبريل/ نيسان والتي تنص على بذل جهد للترحيب بقائد سلاح الجو السوري، الجنرال الأسد. قُوبِل في المطار من قبل تيري كلارك. ورتبت وزارة الدفاع برنامجاً له، (بما في ذلك دعوة إلى رئيس هيئة الأركان الجوية)، ومنَحَهُ السيد تومسون ثلاثة أرباع الساعة بعد الظهيرة للمناقشة. يمكنك أن تتخيل، أنه كان من الصعب التأقلم مع الجدول الزمني الاعتباطي للزيارة التي كانت الغاية منها في المقام الأول إجراء فحوصات طبية. ومع ذلك، أعتقد أنه كان قادراً على القيام بكل ما أراد".
بين الإعلان الرسمي عن القبض على كوهين ومحاكمته ثم إعدامه، كانت هناك حملة ديبلوماسية وسياسية هائلة وكبيرة على مدى شهور رافقت الحدث وبدعم أوروبي وأمريكي، حاولت فيها إسرائيل إنقاذ كوهين أو "فدائه" بشتى السبل، بما فيها محاولة تقديم معلومات للرئيس أمين الحافظ - عبر محامي كوهين الفرنسي - بأن هناك عملية انقلاب تحضّر ضده (انقلاب صلاح جديد لاحقاً).. فهل هناك علاقة بين اكتشاف كوهين وبين ذهاب حافظ الأسد إلى لندن للعلاج من "هبوط اضطراري بالطائرة سبب له آلاماً في الظهر والرقبة" حسبما ادعى وقتها؟!
الشخص الوضيع جداً.. يقدم أوراق اعتماده
من الواضح أن عملية تقييم حافظ الأسد كـ "شخص وضيع جداً" وهو أمر يقر له به كل من عرفه وعلى رأسهم أستاذه صلاح جديد، كانت تتم من قبل كوهين عن بعد.. وكان الاختبار الأول لمدى صدقية حافظ الأسد، كعميل محتمل وموثوق لقيادة سوريا مستقبلاً، هي ما فعله في حرب حزيران عام 1967 حين أصدر البيان 66 الذي أعلن سقوط القنيطرة قبل دخول الإسرائيليين إليها، وهو إعلان ينافي تقاليد الحروب عموماً بكتمان أخبار الهزائم أثناء سير المعارك على الأقل، فما بالكم بنظام كان معتاداً على الكذب في كل شيء. وبُعيد إعلان سقوط القنيطرة بساعات أعلن النظام البعثي قبول وقف إطلاق النار في الساعة السادسة والنصف من مساء العاشر من حزيران، فسارع مجلس الأمن مساء اليوم التالي لإصدار القرار 236 الذي ينص على إدانة أي تحرك للقوات المتقاتلة، تاركاً الجولان في عهدة إسرائيل بموافقة القيادة السورية نفسها على الهدنة.لم تكن خيانة حافظ الأسد وتسليم الجولان أو بيعه سراً استخباراتياً في الدوائر المغلقة فحسب، بل كانت فضيحة كبرى طالما جاهر بها الكثير من السوريين، وطالما تعامل حافظ الأسد مع من يرددها بقسوة انتقامية بالغة. حين كتب المحامي الدمشقي زهير شلق، وكان كاتباً سياسياً بارزاً، مقالاً في جريدة (الحياة) عام 1969 يقول فيه عبارة: "أسدٌ عليّ وفي الحروب دجاجة" قامت المخابرات الجوية التابعة لحافظ الأسد باختطافة من لبنان وقضى تسع سنوات في سجن المزة قبل أن يخرج بوساطة دولية عام 1978، وحين ألّف الضابط خليل مصطفى، وكان قبل انقلاب البعث ضابط استخبارات في جبهة الجولان كتابه المدوّي (سقوط الجولان) تم خطفه من بيروت وسُجن لسنوات طويلة، وحين وصفت مجلة (المجتمع) الكويتية عام 1980 حافظ الأسد ببائع الجولان، أرسل النظام خلية استخباراتية لتفجير المجلة، تمكنت السلطات الكويتية من القبض عليها. ناهيك عن كتاب د. سامي الجندي (أتحدى وأتهم) الذي وجه الاتهام نفسه.
خدماته ضد الفلسطينيين
بعد تسليم أو بيع الجولان.. قدم حافظ الأسد ثلاث أوراق اعتماد شديدة الأهمية لإسرائيل:الأولى: أثناء أحداث أيلول الأسود عام 1970 حين رفض كوزير دفاع وقائد لسلاح الطيران تغطية القوات البرية المتوغلة في شمال الأردن لنجدة الفلسطيينين جوياً، وخرج الطيران الإسرائيلي فقصفها وأجبرها على التراجع.. وحين طلبت منه القيادة القطرية لحزب البعث التنحي من منصبه وحاولت محاكمته، نفذ انقلابه المسمى الحركة التصحيحية وزج رفاقه البعثيين في السجون واستولى على الحكم.
والطائفيّ الذي استقوى بسادتهِ…. كلبٌ وإن ألبسوه فروةَ الأسدِ.
الثالثة: حين أسهم بحصار طرابلس وقصفها وتجويعها ثم إجبار منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من لبنان بحراً إلى تونس عام 1982.. ويومها قال ياسر عرفات مقولته الشهيرة: سيذكر التاريخ أن شارون أخرجني من بيروت، والنظام السوري أخرجني من طرابلس.
الإرث الدموي القذر
إذا أضفنا إلى ذلك كله مجازر حي المشارقة وبستان القصر في حلب، ومجزرة سجن تدمر ومجزرة جسر الشغور بريف إدلب، ومجزرة حماة الكبرى،ومئات الآلاف من المعتقلين والمطلوبين الذين انتهوا إلى مقابر جماعية خلال سنوات حكمه، لأمكن لنا الجواب على السؤال الافتتاحي في هذا المقال بالقول:لا يجهل حافظ الأسد أبداً الثمن الذي قدّمه من أجل الوصول إلى حكم سوريا، ثم الاستمرار في الحكم دون محاسبته على ما ارتكبه من مجازر، أو مهما ارتكب من مجازر، ثم الموافقة على توريث الحكم لابن بدليل قدوم وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت لتنصيب بشار الأسد ومباركة خرق النظام الجمهوري في سوريا دون أي اعتراض أو حتى امتعاض، قائلة بالفم الملآن عندما سُئلت ما المطلوب من بشار الأسد أن يفعله: "إنه يعرف جيداً ما يتوجب عليه فعله".. أي ببساطة: أن يبقى وفياً لإرث أبيه القذر، سائراً على النهج الذي رُسم وخُطط له!