.
وقبل أن ينتفض أشاوس ‘فتح’ وسلطة عباس دفاعاً عن أحد قادتهم، ليست مفردة ‘تضامن’ من عندياتنا، وليست انسياقاً بلاغياً مستمداً من روحية اللقاء بين الأسد وزكي؛ بل هي واردة في النصّ الرسمي الذي وزّعته سانا، وكالة أنباء النظام، في تغطية الزيارة. ولقد نقلت عن زكي تشديده على ‘تضامن الشعب الفلسطيني مع سورية في مواجهة العدوان الذي تتعرّض له’؛ كما اقتبست قوله إنّ ‘استهداف سورية استهداف للأمة العربية، لأنّ ما يجري من استنزاف لمقدّرات شعبها وجيشها يأتي في سياق مخطط أكبر يرمي إلى تقسيم دول المنطقة وإضعافها خدمة لمصالح إسرائيل’. إلى هذا، لم توحِ الصور الفوتوغرافية بأنّ جفناً قد رفّ في محيّا زكي حين تكاذب الأسد، ومخيم اليرموك يعاني الحصار والتجويع، بأنّ ‘الأحداث التي تشهدها سورية لم ولن تغيّر نهج الشعب السوري إزاء أشقائه الفلسطينيين الموجودين في سورية ، بل زادتهما لحمة وتماسكاً في مواجهة الاعتداءات الإرهابية التي تستهدفهما معاً’!
ولكي لا تبدو هذه التصريحات وكأنها ‘مدسوسة’ على المناضل الفتحاوي المخضرم، أو ‘منتزَعة من سياقاتها’ كما جرت العادة في أصول التنصّل من الأقوال؛ أكمل زكي دقّ المسمار إلى النهاية، فالتقى مع مندوب ‘جراسا نيوز′، في العاصمة الأردنية عمّان هذه المرّة، عقب عودته من دمشق، وأكمل ما استحى إعلام النظام السوري ذاته من نسبه إليه. ففي ملفّ ‘العدوان’ ـ الذي يتعرّض له النظام السوري، وليس غزّة أو رام الله أو المسجد الأقصى… ـ شطح زكي بما لم يشطح به أردأ ‘الممانعين’ وأشدّهم بلادة وسطحية: ‘دمشق عاصمة المقاومة والممانعة، دمشق العاصمة والدولة التي حافظت على هوية الفلسطيني وأعطته حقوق المواطنة كاملة بالوقت الذي أبقت فيه على هوية الفلسطيني كشاهد على جرائم الصهيونية التي احتلت الأرض وهجّرت الإنسان. دمشق لم تسقط خيار المقاومة يوماً. سورية التي رفضت التخلي عن الفلسطيني في أدق مراحل تاريخه’.
هل نسي زكي، الذي درس في دمشق وتخرّج من جامعتها، دلالات وجود جحيم أمني مخصص اسمه ‘فرع فلسطين ’، خاصّ كذلك في شراسة ضباطه وهمجية أساليبه؛ تكفّل بترويع فلسطينيي سورية، قبل أن يوحّدهم مع أشقائهم السوريين في الترهيب والتنكيل والتعذيب؟ هل نسي مشاركة حافظ الأسد، شخصياً، في التآمر على المقاومة الفلسطينية أثناء جولات ‘أيلول الأسود’، ثمّ شنّ الحرب عليها بعدئذ في لبنان ، مباشرة أو عن طريق وكلاء محليين؟ هل نسي حصار المخيمات، وحصار بيروت، وحصار طرابلس…؟ ومَنْ يعلّم ابن ‘فتح’، ربما أكثر من سواه، مجلدات ومجلدات في تاريخ غدر آل الأسد بالحركة، وذلك منذ عام 1964، أي منذ انطلاقة ‘فتح’ والعمليات الفدائية الأبكر؟
كذلك، في هذا الصدد، ألا تنطوي أكاذيب زكي على إهانة شخصية لذكرى ياسر عرفات نفسه، القائد التاريخي الحقّ لحركة ‘فتح’، الذي عانى الأمرّين من الأسد الأب، ليس في ‘أدقّ مراحل’ التاريخ الفلسطيني، فحسب؛ بل في كامل ذلك التاريخ، منذ صعود نجم الأسد داخل معمار النظام السوري، بعد حركة 23 شباط (فبراير) 1966، ثمّ انقلاب الأسد سنة 1970؟ ثمة هنا إغراء دائم في استذكار واقعتين ضمن هذا التاريخ، أولاهما تعود إلى سنة 1964، حين قامت مفرزة تابعة للمخابرات العسكرية السورية باعتقال عرفات، بتهمة ‘التحضير لأعمال تخريبية’، بعد تفتيش صندوق سيارته والعثور فيها على أصابع ديناميت. الاعتقال دام ساعات قليلة، لكنّ الحادثة بدت غريبة لأنّ عرفات كان ينقل الديناميت بعلم وتسهيل القيادة السورية، ولديه موافقة رسمية بنقل أسلحة مختلفة إلى معسكرات تدريب ‘فتح’ في سورية.
وكان اللواء أحمد سويداني، رئيس الأركان آنذاك، هو الذي نقل ذلك إلى عرفات شخصياً، بعد مفاوضات بين الرجلين كانت قد بدأت مطلع ربيع ذلك العام. أمّا الآمر الحقيقي وراء مذكّرة الاعتقال فقد كان الرجل القويّ في الجيش، وصاحب النفوذ الواسع في مختلف أجهزة الاستخبارات، وقائد القوى الجوية، اللواء حافظ سليمان الأسد. كان سويداني يمثّل طموح حزب البعث الحاكم في احتكار القضية الفلسطينية سياسياً وعقائدياً، ولهذا أقنع القيادة بالسماح لـ ‘فتح’ بحرّية التدريب على الأراضي السورية. في المقابل، كان الأسد يمثّل مطامحه الشخصية في السيطرة على مقاليد الأمور والتمهيد لاستلام السلطة، ولهذا فقد ذكّر عرفات بأنه صاحب القرار الأقوى، وأنه هو المرجعية العليا التي يتوجب على ‘فتح’ أن تعود إليها.
وتلك الحادثة الأولى سجّلت بدء تاريخ طويل من العداء بين عرفات وخصمه (العربيّ!) الأكثر شراسة، الأسد الأب؛ الذي أصرّ على تحويل جميع فصائل المقاومة الفلسطينية، و’فتح’ بصفة خاصة، إلى ورقة في جيبه ولصالح خططه التكتيكية والستراتيجية على حدّ سواء. أمّا الأوّل، عرفات، فقد ظلّ مصر ّاً على ضرورة بقاء البندقية الفلسطينية، والقرار الفلسطيني تالياً، في حال من الاستقلال التامّ عن مختلف الأنظمة العربية، وعن صراعاتها الداخلية أو الإقليمية. وهذا ما جعل الواقعة الثانية مجرّد تتمة منطقية للواقعة الأولى؛ حين قرّر الأسد، في 24 حزيران (يونيو) 1983، طرد عرفات من العاصمة السورية بوصفه ‘شخصاً غير مرغوب به’. ويروي ألان هارت، في كتابه ‘عرفات’، أنّ جورج حبش كان آخر الفلسطينيين الذين ودّعوا عرفات في مطار دمشق، وأنه احتضنه قائلاً: ‘يا الله يا أبو عمّار! إذا كنتَ أنت تغادر الشام هكذا، فكيف سأغادرها أنا؟ ربما في كفن’!
وريث ذلك النظام، الأسد الابن، هو الذي يتطوّع زكي لغسله اليوم، بل يمارس في الغسيل ما عفّ عنه مزيّفو خرافة ‘جهاد النكاح’ أنفسهم: ‘نحن مع محور دمشق ايران روسيا الدولة العظمى في وجه التغول الصهيوني المدعوم من ماكينة إعلام صهيونية ولوبي استطاع غسيل العقل الغربي واقناعه بأن هذا الوطن العربي من المحيط الى الخليج صحارى وكثبان من القبائل المتقاتلة على مكاسب دنيوية رخيصة لفكر انتج جهاد المناكحة’! وأيضاً، لكي يذكّرنا الفتحاوي بأنه فلسطيني، نقتبس المزيد من أقواله العصماء (مع الاحتفاظ بأخطائها اللغوية): ‘ذهبنا الى دمشق لحماية 15 مخيما للاجئيين فلسطين، ذهبنا الى دمشق لحماية مخيمات اللجوء التي حاولت القوى الاسلامية وقوى فلسطينية مشبوهة بزج الفلسطيني في سورية كحطب لمعركة الاخرين التي تخوضها القوى الغربية باموال عربية وسلاح غربي حيث تم خلط الاوراق وتحولت وجهة النضال والكفاح ضد الاخ وتركت اسرائيل تنام في عسلها’…
ولا يكتفي زكي بإغداق هذه المدائح على نظام الأسد، بل يتوجب أيضاً قدح الانتفاضات العربية جمعاء، بلا استثناء: ‘هذا ليس ربيعا هذا استكمال لمشروع فرق تسد الاستعماري فالغرب الاستعماري ومنذ اكتشاف النفط هذه اللعنة التي حلت بالامة العربية حيث ابتدات الدول العظمى انذاك بالتفكير بحماية منابع الطاقة، هذا ما دفع هذه القوى الاستعمارية بايجاد كيان في قلب المنطقة تقوم بدور الحارس الامين لكنوز النفط والطاقة وتعمل على تاجيج الخلافات الدينية والاثنية والقومية والعصبية وفي كل مرحلة من مراحل القضية يتم اشهار ورقة من هذه الاوراق بحسب الضخ الاعلامي الذي سيطرت عليه مبكرا المنظمات الصهيونية، هذا الكابوس ليس ربيعا انه معولا لهدم ما تبقى من قومية وعروبة’!
ويبقى اقتباس أخير، ضروري أخلاقياً، قبل ضروراته السياسية والتاريخية، حول الموقف من حسن نصر الله و’حزب الله’؛ نسوقه مع الاحتفاظ بالأخطاء اللغوية، هنا أيضاً. يسأله محاوره: ‘هل لاحظتم ان هذا القائد وحزبه يشكلون خطرا على الامة العربية لكونه كما يشاع قبضة ايرانية متقدمة؟’، فيجيب زكي: ‘على العكس تماما السيد نصرالله من الاقلاء المؤمنون بالامة العربية والاسلامية واداة قياسنا لاية قوة هو علاقته باسرائيل ان كان هاديء اضع يدي على قلبي وان كان مصدر قلق لاسرائيل فهو الى جانبي، فأي دولة تطمأن لها اسرائيل تدفعنا للقول لاحول ولا قوة الا بالله. بالنسبة لحزب الله فاننا نقول عاشت الايادي طالما كنتم تهددون اسرائيل’!
بيد أنّ زكي، ليس صوت نفسه، حتى إذا كان هو الناطق بهذه الشطحات الفاضحة؛ لأنه، ببساطة، صوت سيّده محمود عباس، الذي يندر أنه أفلح في إخفاء عواطفه تجاه آل الأسد، الابن بعد الأب؛ ويندر، أكثر، وعلى مستوى جوهري أعمق، أنه أفلح في تمثيل كرامة الشعب الفلسطيني على نحو مشرّف. والقبلات التي تبادلها زكي مع الأسد، سبق أن تبادلها سيّده مع الدكتاتور نفسه، مطلع العام 2007؛ في مسعى من عباس لطرح الزيارة بضاعة في اسواق التبادل الأمريكية ـ الإسرائيلية، أو المساومة عليها مع بعض الأطراف العربية مثل مصر والأردن والسعودية وقطر، ثمّ إعادة تسويق دور ما للرئاسة الفلسطينية في ما يخصّ الحوارات الأعرض نطاقاً مع طهران ودمشق.
وذات يوم، لكي نبقى في سيرة القبلات، كان يوري أفنيري ـ الكاتب الإسرائيلي المعروف، أحد أنزه يهود العالم القلائل الذين يدعمون الحقّ الفلسطيني بلا هوادة، وأوّل إسرائيلي يلتقي علانية مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ـ قد اختار تعبير ‘قبلة الموت’ في توصيف ما طبعه إيهود أولمرت، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، على خدّي عباس. أكثر من هذا، أضاف أفنيري: ‘منذ أن عانق يهوذا الإسخريوطي يسوع المسيح، لم تشهد أورشليم القدس قبلة مثل هذه’! لعلّ القبلات، أسوة بالدموع المدرارة التي ذُرفت حزناً على حاخام ‘شاس′، أحدث منتوجات السلطة الفلسطينية من بضائع؛ كاسدة، فاسدة، رخيصة…
---------------
القدس
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
وقبل أن ينتفض أشاوس ‘فتح’ وسلطة عباس دفاعاً عن أحد قادتهم، ليست مفردة ‘تضامن’ من عندياتنا، وليست انسياقاً بلاغياً مستمداً من روحية اللقاء بين الأسد وزكي؛ بل هي واردة في النصّ الرسمي الذي وزّعته سانا، وكالة أنباء النظام، في تغطية الزيارة. ولقد نقلت عن زكي تشديده على ‘تضامن الشعب الفلسطيني مع سورية في مواجهة العدوان الذي تتعرّض له’؛ كما اقتبست قوله إنّ ‘استهداف سورية استهداف للأمة العربية، لأنّ ما يجري من استنزاف لمقدّرات شعبها وجيشها يأتي في سياق مخطط أكبر يرمي إلى تقسيم دول المنطقة وإضعافها خدمة لمصالح إسرائيل’. إلى هذا، لم توحِ الصور الفوتوغرافية بأنّ جفناً قد رفّ في محيّا زكي حين تكاذب الأسد، ومخيم اليرموك يعاني الحصار والتجويع، بأنّ ‘الأحداث التي تشهدها سورية لم ولن تغيّر نهج الشعب السوري إزاء أشقائه الفلسطينيين الموجودين في سورية ، بل زادتهما لحمة وتماسكاً في مواجهة الاعتداءات الإرهابية التي تستهدفهما معاً’!
ولكي لا تبدو هذه التصريحات وكأنها ‘مدسوسة’ على المناضل الفتحاوي المخضرم، أو ‘منتزَعة من سياقاتها’ كما جرت العادة في أصول التنصّل من الأقوال؛ أكمل زكي دقّ المسمار إلى النهاية، فالتقى مع مندوب ‘جراسا نيوز′، في العاصمة الأردنية عمّان هذه المرّة، عقب عودته من دمشق، وأكمل ما استحى إعلام النظام السوري ذاته من نسبه إليه. ففي ملفّ ‘العدوان’ ـ الذي يتعرّض له النظام السوري، وليس غزّة أو رام الله أو المسجد الأقصى… ـ شطح زكي بما لم يشطح به أردأ ‘الممانعين’ وأشدّهم بلادة وسطحية: ‘دمشق عاصمة المقاومة والممانعة، دمشق العاصمة والدولة التي حافظت على هوية الفلسطيني وأعطته حقوق المواطنة كاملة بالوقت الذي أبقت فيه على هوية الفلسطيني كشاهد على جرائم الصهيونية التي احتلت الأرض وهجّرت الإنسان. دمشق لم تسقط خيار المقاومة يوماً. سورية التي رفضت التخلي عن الفلسطيني في أدق مراحل تاريخه’.
هل نسي زكي، الذي درس في دمشق وتخرّج من جامعتها، دلالات وجود جحيم أمني مخصص اسمه ‘فرع فلسطين ’، خاصّ كذلك في شراسة ضباطه وهمجية أساليبه؛ تكفّل بترويع فلسطينيي سورية، قبل أن يوحّدهم مع أشقائهم السوريين في الترهيب والتنكيل والتعذيب؟ هل نسي مشاركة حافظ الأسد، شخصياً، في التآمر على المقاومة الفلسطينية أثناء جولات ‘أيلول الأسود’، ثمّ شنّ الحرب عليها بعدئذ في لبنان ، مباشرة أو عن طريق وكلاء محليين؟ هل نسي حصار المخيمات، وحصار بيروت، وحصار طرابلس…؟ ومَنْ يعلّم ابن ‘فتح’، ربما أكثر من سواه، مجلدات ومجلدات في تاريخ غدر آل الأسد بالحركة، وذلك منذ عام 1964، أي منذ انطلاقة ‘فتح’ والعمليات الفدائية الأبكر؟
كذلك، في هذا الصدد، ألا تنطوي أكاذيب زكي على إهانة شخصية لذكرى ياسر عرفات نفسه، القائد التاريخي الحقّ لحركة ‘فتح’، الذي عانى الأمرّين من الأسد الأب، ليس في ‘أدقّ مراحل’ التاريخ الفلسطيني، فحسب؛ بل في كامل ذلك التاريخ، منذ صعود نجم الأسد داخل معمار النظام السوري، بعد حركة 23 شباط (فبراير) 1966، ثمّ انقلاب الأسد سنة 1970؟ ثمة هنا إغراء دائم في استذكار واقعتين ضمن هذا التاريخ، أولاهما تعود إلى سنة 1964، حين قامت مفرزة تابعة للمخابرات العسكرية السورية باعتقال عرفات، بتهمة ‘التحضير لأعمال تخريبية’، بعد تفتيش صندوق سيارته والعثور فيها على أصابع ديناميت. الاعتقال دام ساعات قليلة، لكنّ الحادثة بدت غريبة لأنّ عرفات كان ينقل الديناميت بعلم وتسهيل القيادة السورية، ولديه موافقة رسمية بنقل أسلحة مختلفة إلى معسكرات تدريب ‘فتح’ في سورية.
وكان اللواء أحمد سويداني، رئيس الأركان آنذاك، هو الذي نقل ذلك إلى عرفات شخصياً، بعد مفاوضات بين الرجلين كانت قد بدأت مطلع ربيع ذلك العام. أمّا الآمر الحقيقي وراء مذكّرة الاعتقال فقد كان الرجل القويّ في الجيش، وصاحب النفوذ الواسع في مختلف أجهزة الاستخبارات، وقائد القوى الجوية، اللواء حافظ سليمان الأسد. كان سويداني يمثّل طموح حزب البعث الحاكم في احتكار القضية الفلسطينية سياسياً وعقائدياً، ولهذا أقنع القيادة بالسماح لـ ‘فتح’ بحرّية التدريب على الأراضي السورية. في المقابل، كان الأسد يمثّل مطامحه الشخصية في السيطرة على مقاليد الأمور والتمهيد لاستلام السلطة، ولهذا فقد ذكّر عرفات بأنه صاحب القرار الأقوى، وأنه هو المرجعية العليا التي يتوجب على ‘فتح’ أن تعود إليها.
وتلك الحادثة الأولى سجّلت بدء تاريخ طويل من العداء بين عرفات وخصمه (العربيّ!) الأكثر شراسة، الأسد الأب؛ الذي أصرّ على تحويل جميع فصائل المقاومة الفلسطينية، و’فتح’ بصفة خاصة، إلى ورقة في جيبه ولصالح خططه التكتيكية والستراتيجية على حدّ سواء. أمّا الأوّل، عرفات، فقد ظلّ مصر ّاً على ضرورة بقاء البندقية الفلسطينية، والقرار الفلسطيني تالياً، في حال من الاستقلال التامّ عن مختلف الأنظمة العربية، وعن صراعاتها الداخلية أو الإقليمية. وهذا ما جعل الواقعة الثانية مجرّد تتمة منطقية للواقعة الأولى؛ حين قرّر الأسد، في 24 حزيران (يونيو) 1983، طرد عرفات من العاصمة السورية بوصفه ‘شخصاً غير مرغوب به’. ويروي ألان هارت، في كتابه ‘عرفات’، أنّ جورج حبش كان آخر الفلسطينيين الذين ودّعوا عرفات في مطار دمشق، وأنه احتضنه قائلاً: ‘يا الله يا أبو عمّار! إذا كنتَ أنت تغادر الشام هكذا، فكيف سأغادرها أنا؟ ربما في كفن’!
وريث ذلك النظام، الأسد الابن، هو الذي يتطوّع زكي لغسله اليوم، بل يمارس في الغسيل ما عفّ عنه مزيّفو خرافة ‘جهاد النكاح’ أنفسهم: ‘نحن مع محور دمشق ايران روسيا الدولة العظمى في وجه التغول الصهيوني المدعوم من ماكينة إعلام صهيونية ولوبي استطاع غسيل العقل الغربي واقناعه بأن هذا الوطن العربي من المحيط الى الخليج صحارى وكثبان من القبائل المتقاتلة على مكاسب دنيوية رخيصة لفكر انتج جهاد المناكحة’! وأيضاً، لكي يذكّرنا الفتحاوي بأنه فلسطيني، نقتبس المزيد من أقواله العصماء (مع الاحتفاظ بأخطائها اللغوية): ‘ذهبنا الى دمشق لحماية 15 مخيما للاجئيين فلسطين، ذهبنا الى دمشق لحماية مخيمات اللجوء التي حاولت القوى الاسلامية وقوى فلسطينية مشبوهة بزج الفلسطيني في سورية كحطب لمعركة الاخرين التي تخوضها القوى الغربية باموال عربية وسلاح غربي حيث تم خلط الاوراق وتحولت وجهة النضال والكفاح ضد الاخ وتركت اسرائيل تنام في عسلها’…
ولا يكتفي زكي بإغداق هذه المدائح على نظام الأسد، بل يتوجب أيضاً قدح الانتفاضات العربية جمعاء، بلا استثناء: ‘هذا ليس ربيعا هذا استكمال لمشروع فرق تسد الاستعماري فالغرب الاستعماري ومنذ اكتشاف النفط هذه اللعنة التي حلت بالامة العربية حيث ابتدات الدول العظمى انذاك بالتفكير بحماية منابع الطاقة، هذا ما دفع هذه القوى الاستعمارية بايجاد كيان في قلب المنطقة تقوم بدور الحارس الامين لكنوز النفط والطاقة وتعمل على تاجيج الخلافات الدينية والاثنية والقومية والعصبية وفي كل مرحلة من مراحل القضية يتم اشهار ورقة من هذه الاوراق بحسب الضخ الاعلامي الذي سيطرت عليه مبكرا المنظمات الصهيونية، هذا الكابوس ليس ربيعا انه معولا لهدم ما تبقى من قومية وعروبة’!
ويبقى اقتباس أخير، ضروري أخلاقياً، قبل ضروراته السياسية والتاريخية، حول الموقف من حسن نصر الله و’حزب الله’؛ نسوقه مع الاحتفاظ بالأخطاء اللغوية، هنا أيضاً. يسأله محاوره: ‘هل لاحظتم ان هذا القائد وحزبه يشكلون خطرا على الامة العربية لكونه كما يشاع قبضة ايرانية متقدمة؟’، فيجيب زكي: ‘على العكس تماما السيد نصرالله من الاقلاء المؤمنون بالامة العربية والاسلامية واداة قياسنا لاية قوة هو علاقته باسرائيل ان كان هاديء اضع يدي على قلبي وان كان مصدر قلق لاسرائيل فهو الى جانبي، فأي دولة تطمأن لها اسرائيل تدفعنا للقول لاحول ولا قوة الا بالله. بالنسبة لحزب الله فاننا نقول عاشت الايادي طالما كنتم تهددون اسرائيل’!
بيد أنّ زكي، ليس صوت نفسه، حتى إذا كان هو الناطق بهذه الشطحات الفاضحة؛ لأنه، ببساطة، صوت سيّده محمود عباس، الذي يندر أنه أفلح في إخفاء عواطفه تجاه آل الأسد، الابن بعد الأب؛ ويندر، أكثر، وعلى مستوى جوهري أعمق، أنه أفلح في تمثيل كرامة الشعب الفلسطيني على نحو مشرّف. والقبلات التي تبادلها زكي مع الأسد، سبق أن تبادلها سيّده مع الدكتاتور نفسه، مطلع العام 2007؛ في مسعى من عباس لطرح الزيارة بضاعة في اسواق التبادل الأمريكية ـ الإسرائيلية، أو المساومة عليها مع بعض الأطراف العربية مثل مصر والأردن والسعودية وقطر، ثمّ إعادة تسويق دور ما للرئاسة الفلسطينية في ما يخصّ الحوارات الأعرض نطاقاً مع طهران ودمشق.
وذات يوم، لكي نبقى في سيرة القبلات، كان يوري أفنيري ـ الكاتب الإسرائيلي المعروف، أحد أنزه يهود العالم القلائل الذين يدعمون الحقّ الفلسطيني بلا هوادة، وأوّل إسرائيلي يلتقي علانية مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ـ قد اختار تعبير ‘قبلة الموت’ في توصيف ما طبعه إيهود أولمرت، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، على خدّي عباس. أكثر من هذا، أضاف أفنيري: ‘منذ أن عانق يهوذا الإسخريوطي يسوع المسيح، لم تشهد أورشليم القدس قبلة مثل هذه’! لعلّ القبلات، أسوة بالدموع المدرارة التي ذُرفت حزناً على حاخام ‘شاس′، أحدث منتوجات السلطة الفلسطينية من بضائع؛ كاسدة، فاسدة، رخيصة…
---------------
القدس
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس