“عادت الحياة لتضحك من جديد لبشار الأسد، إذ تحدث إليه ملك الأردن عبد الله الثاني لأول مرة منذ عشر سنوات بعد إعادة فتح الحدود مع سوريا، وكذلك الأمر بالنسبة لوزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة، عبد الله بن زايد، الذي زار العاصمة السورية دمشق مؤخراً ووافق على زيادة التعاون الاقتصادي مع نظام الأسد، أما رئيس الاستخبارات السعودية، خالد بن علي الحميدان، فقد التقى بنظيره السوري، حسام لوقا، في القاهرة، ضمن الجهود التي تبذلها القاهرة لإعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية، كما أخذت مصر تقوم بمبادراتها الودية بمفردها. فبعد مرور عشر سنوات على بدء سحق الأسد للثورة السلمية بعنف، يبدو أن الأمور بدأت تتغير لصالحه.
ولكن كيف يمكن للأسد أن يعود لحضن العالم وينعم ببركاته بعد تلك الحرب التي كانت من أفضل ما وثق في التاريخ، وبعد ارتكابه لجرائم موثقة ومؤكدة ضد الإنسانية وبعد استخدامه المثبت للسلاح الكيماوي في خرق واضح للاتفاقيات والعهود الدولية؟!
ثمة عوامل واضحة، أهمها الغطاء الدبلوماسي الذي أمنته روسيا والصين للأسد في مجلس الأمن الدولي، والدعم العسكري الهائل الذي قدمته له كل من روسيا وإيران، والذي من دونه كان من الممكن لجيش النظام أن ينهار بعدما تقلص فوصل إلى نصف تعداده في عام 2013. وبالرغم من أن التدخل الدولي في كل من أفغانستان والعراق وليبيا قد تم في ظل ظروف مختلفة، إلا أن فشل كل تلك التدخلات قد خدم نظام الأسد أيضاً. كما تم الاستشهاد بتلك السوابق للتخلي عن فكرة التدخل كخيار حتى قبل مطالبة المعارضة السورية بذلك.
وبناء على تلك الحالات، بوسع المرء أن يتفهم عدم اتخاذ الدول لأي موقف عسكري ضد الأسد وقتها، إلا أنه من الصعب شرح هذا التقارب الدبلوماسي الذي بدأ يتسلل رويداً رويداً، أو حتى تبريره!
وهنالك فترات خلال الحرب السورية التي امتدت لعقد من الزمان، بدا فيها النظام يبالغ في إظهار قوته، كما بدا أيضاً بأن الهجوم بالأسلحة الكيماوية الذي نفذه في شهر آب من عام 2013 وقتل فيه أكثر من 1400 مدني قد يغير المعادلة، إذ في الوقت الذي كان فيه العالم يراقب ما يجري، هنالك “خط أحمر” تم التصريح عنه، وكان لذلك الخرق للقواعد الدولية عواقب تجاوزت سوريا.
كان التوقع السائد حينذاك بأن ذلك سيجبر الأسد على التنحي في نهاية المطاف، إلا أن الأسد لم ينجح فقط في انتظار الأزمة حتى تهدأ، ليقوم برفض الالتزامات المفروضة عليه بموجب اتفاقية كيري-لافروف المبرمة عام 2016، والتي تحتم عليه بموجبها إنهاء برنامج الأسلحة الكيماوية في سوريا، بل أيضاً قام بتصعيد الحرب وواصل استخدامه للأسلحة الكيماوية.
تجلى نجاح النظام في إقناع الفاعلين الدوليين بأنه مهتم فقط بحكم البلاد، وبأن العنف الذي مارسه ضروري حتى ولو كان قاسياً وذلك للمحافظة على الدولة. فإذا كان بوسع النظام أن يقدم نفسه كجهة فاعلة عقلانية مستعدة للدخول في حوار استراتيجي، فهذا يعني أنه بوسعه الانتظار حتى تهدأ موجة الانتقادات السلبية له وتنتهي.
وبالطبع، لم ينجح ذلك إلا بفضل التفكير المبني على الرغائب وعلى النية لتصديق ما يحاول النظام إظهاره من قبل بعض الفاعلين الدوليين، فقد افترض هؤلاء بأن الأسد سيشارك ويتعامل مع غيره بصورة بناءة في مرحلة من المراحل دون أن تتم ممارسة أي ضغوطات خارجية وازنة عليه. وهكذا يصبح الخيار بين الأسد وانعدام الاستقرار، أو بين الأسد وتنظيم الدولة، وعليه لا يمكن للانتقال السياسي أن يتم إلا بتعاون الأسد.
منذ عام 2011، دفع النظام الأمم المتحدة للتركيز بصورة أساسية على الدبلوماسية، فاختار أهم المنصات وأكثرها متابعة لأنه لا يثق بكوادره كما أنه يقيد سفرهم، إذ طالما كانت السياسة الخارجية لسورية ذات جوانب متعددة.
وحتى يتم أخذه على محمل الجد على الصعيد الإقليمي، قام الأسد الأب والابن بتطوير أدوات مختلفة، حيث سعى حافظ الأسد لإقامة علاقات مع عناصر فاعلة لا تمثل دولاً في كل من فلسطين ولبنان وتركيا والعراق والأردن وتطويرها على مدار سنوات طويلة، وذلك حتى يتمكن من تفعيل تلك العناصر ليكسب نفوذاً على الصعيد الدبلوماسي. واستمر هذا النهج مع الأسد الابن، بشار، إذ تعتبر عمليات نقل الجهاديين إلى العراق في عام 2003 وما بعدها، والاغتيالات السياسية التي تمت في لبنان منذ عام 2005 وحتى اليوم خير أدلة موثقة على ذلك.
وبما أن النظام يرغب بأن يقبله الآخرون بوصفه قوة تتمتع بالشرعية وتعتبر مهمة وحاسمة بالنسبة لاستقرار المنطقة، لذا فقد تورط في مخططات هدفها زعزعة الاستقرار في تلك المنطقة، وقد آتت تلك المخططات أكلها حتى تكتمل المفارقة هنا. فقد نجح ذلك المخطط في لبنان، بل حتى الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت على استعداد للتغاضي عن أمر تسلل الجهاديين الذي يسهله النظام السوري إلى العراق حتى يقوموا باستهداف القوات الأميركية الموجودة هناك. ومن بين الدول المجاورة لسورية، وحدها إسرائيل، وكذلك تركيا ولكن بدرجة محدودة، كانتا قادرتين على الدفاع عن النفس في مواجهة تلك الأساليب.
وكما هي الحال في معظم الدول الاستبدادية، كان النظام على استعداد لتقبل أي معارضة داخلية طالما بقيت صغيرة ومقسمة وتعمل وفقاً لمعايير مقبولة بالنسبة له. لكنه عندما واجه حركة ثورية اتسمت بالإبداع، دون أن تخضع لقوى خارجية أو تتسلل إليها أي عناصر أجنبية، وتميزت تلك الحركة باهتمامها الصادق بالتغيير السياسي ودفاعها عن خيارها السلمي، أصبح النظام عدوانياً في تعامله مع المعارضة التي رأى في شعبيتها ومصداقيتها تهديداً له.
وهكذا، وبغض النظر عن وجود بديل للأسد، ومهما كانت رؤيته ديمقراطية، ومهما كانت النشاطات التي يمارسها مبنية على حسن النية، تعرضت أي شخصية أو كيان معارض للأسد إلى حملة منظمة هدفها القضاء عليها أو تشويه سمعتها على الأقل، وقد نجح ذلك مع منظمة الدفاع المدني في سوريا، والتي تضم مقدمي الاستجابة الأولية ضمن ما يعرف بمنظمة الخوذ البيضاء. كان الهدف من كل ذلك خلق حالة من التشوش وترك انطباع لدى الجمهور حول عدم وجود رجل رشيد بين هؤلاء، ومن ثم زرع الخوف في نفوس الدبلوماسيين والسياسيين وغيرهم كونهم سيعتبرون أنفسهم يضحون بالاستقرار مقابل صعود بديل أسوأ من الموجود.
تعرضت سورية والجارتان تركيا ولبنان لأعمال إرهابية غامضة كان الهدف منها ترويع الجمهور في الداخل والخارج. ففي عدد من الهجمات الإرهابية التي تمت بمدينة الريحانية التركية، كان لمن أدينوا فيها صلات وثيقة بالنظام السوري.
أما في لبنان، فكان الأمر أسهل بالنسبة لنظام الأسد حيث كان يستعين بعلاقاته المشبوهة لترويع تلك الدولة التي سبق له أن احتلها وبقي فيها حتى عام 2005. ففي شهر آب من العام 2012، ألقي القبض على وزير الإعلام اللبناني السابق ميشال سماحة بسبب ضلوعه في مؤامرة تهدف إلى زرع أكثر من 20 قنبلة في أثناء زيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي لشمال لبنان. وكان الهدف من ذلك تصوير ما سيحدث على أنه اعتداء إسلامي على المسيحيين، حيث نقل عن سماحة قوله: “هذا ما يريده بشارة”.
كان العقل المدبر لتلك الخطة التي تهدف لإثارة النعرات الطائفية ولتوريط لبنان في حرب أهلية هو علي مملوك، المنسق الأكبر بين العديد من فروع المخابرات في سوريا والمستشار الأمني الخاص لبشار. ولو كتب لخطته النجاح، لكان من المرجح أن تثير حالة من الكراهية ضد اللاجئين السوريين في لبنان. وبالإضافة لكل ذلك، ثمة رسالة واضحة موجهة للحكومة والشعب اللبناني من خلال تلك العملية وهي: “ستسقطون إن سقطت سوريا”.
إلا أن مقتل المئات من مقاتلي حزب الله في سوريا خلق حالة من الاستياء في لبنان، حيث رسم حزب الله لنفسه صورة المقاوم لإسرائيل، بيد أن كثيرا من عناصره ومؤيديه لم يدركوا الهدف من قيام عناصره بقتل الناس والموت في سبيل الأسد. إلا أن الأسد لم يجد نفسه مضطراً لتخفيف وطأة الضغوطات الداخلية في لبنان التي يتعرض لها حزب الله، والتي تفاقمت بسبب ظهور حالة سخط شعبية بسبب وجود أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان.
وأسهم تدفق اللاجئين إلى دول الاتحاد الأوروبي في صعود شعبوية اليمين في أوروبا، ولهذا أعلن الرئيس التركي: “سنفتح الأبواب لنرسل 3.6 ملايين لاجئ” إلى أوروبا، وذلك عندما تعرض لانتقادات بسبب سيطرته على مناطق في الشمال السوري. وهكذا، وعبر زيادة الفوضى استطاع النظام أن يقدم نفسه على أنه الخيار الافتراضي للاستقرار.
كما لم تستطع اللجنة التفاوضية التي عقدت جولتها السادسة من المحادثات منذ فترة قريبة أن تتوصل إلى اتفاق حول المبادئ الدستورية، وهكذا بدلاً من أن يكون ذلك بمنزلة منبر للنظام ليقوم بالتفاوض من خلاله، أصبحت عملية جنيف بكل عناصرها بمنزلة مسرح ومناسبة يقوم من خلالها مسؤولو النظام بالتسوق في أوروبا. ولذلك حتى أشد الناس صبراً وحلماً بين المبعوثين الأمميين الخاصين إلى سورية، أي جير بيدرسون، وصف ذلك الاجتماع بأنه: “خيبة أمل كبيرة”.
لم يقدم النظام حتى الآن أي مبرر أو سبب للفرضية التي ترى بأن الدبلوماسية وحدها قادرة على تغيير سلوكه، كما لم يبد أي بادرة تدل على استعداده لتقديم تنازلات في سبيل تحقيق سلام دائم. إذ كان بوسعه أن يصدر عفواً عاماً وأن يحترم ذلك، ولكن لا وجود لأي مثال على نجاح أي مصالحة في أي محافظة من محافظات سورية.
عمدت استراتيجية الاتفاقيات المحلية لوقف إطلاق النار التي تبنتها الأمم المتحدة في عهد المبعوث الدولي الخاص إلى سورية وقتها، ستيفان ديمستورا، إلى تسليم معظم مناطق سوريا للنظام دون ضمان التزامه بأي شرط بشكل دائم، وذلك بحسب ما ورد في تقرير مجلس الأطلسي. وهكذا أخذ النظام في المناطق التي استرجعها يحقق بدقة بملفات أي مواطن يشك بأن له نشاط سياسي، وكذلك يبحث في ملفات أفراد أسرته وعائلته أيضاً، أما من اعتقل من هؤلاء فقد اختفوا وغيبوا قسرياً.
إن تلك التصرفات بحد ذاتها تدق ناقوس الخطر، لأن أي دبلوماسية تكيّف نفسها مع تعنت الأسد ما هي إلا رخصة له ليمارس مزيدا من انتهاكات حقوق الإنسان، ولن يكون هنالك أي مبرر لوجود أي فسحة أمل إذا نظرنا إلى العناصر الفاعلة التي تتهافت على التقارب معه وتقود الدفة نحو ذلك، حيث سنكتشف بأن تلك الدول لا يقلقها أمر حقوق الإنسان بتاتاً.
وفي الوقت الذي يحاول فيه سياسيون لبنانيون منذ عام 2017 تطبيع العلاقات مع الأسد لتسهيل عودة اللاجئين، يبدي النظام سعادة غامرة لتخلصه من مواطنين مزعجين في نظره، وكأن النظام يقول صراحة: ما الذي يجعلكم تظنون أننا سنستقبلهم؟ إذ تؤكد السلطات اللبنانية بأن 20% فقط من اللاجئين في لبنان الذين تم تسجيلهم على أنهم يرغبون بالعودة إلى سورية قد منحوا الإذن بالعودة من قبل النظام.
وهنالك سبب منطقي آخر للتقارب وهو أن تلك الدول تأمل عبر خلق موجة من التطبيع أن تستفيد من احتمال تدفق الأموال من الدول الغربية بهدف إعادة إعمار سورية. ولكن لم يتضح حتى الآن من هي الدول المستعدة للاستثمار في سورية، وذلك لأن أوروبا ما تزال حتى اليوم ملتزمة بعدم تمويل عملية إعادة الإعمار إلا بعد ظهور بوادر ومؤشرات لانتقال سياسي جدي وحقيقي. وبخلاف الدول الغربية، لا تبدي الصين عظيم الاهتمام بتلك الشروط، ولكنها في الوقت الذي قامت فيه ببعض التحركات المبدئية تجاه هذا النوع من الاستثمار، لم يرجح أحد أن تتخذ تلك الخطوات أي شكل جدي أو حقيقي. إذ بوجود الفساد الذي اشتهر به نظام الأسد، فإنه حتى الصين تبدو غير واثقة من قدرتها على الاستفادة من تلك الاستثمارات.
أما بالنسبة لكل الحديث عن التقارب، فإنه لم تقم أي حكومة حتى الآن باستثمار أموالها في المناطق التي تتحدث عنها كثيراً.
قد يأمل أي ديكتاتور عندما يكون في محنة أن يأتيه دعم من قبل من سيخسرون في حال سقوطه أو من سيكسبون في حال بقائه. ولهذا دعمت إيران الأسد، لأنها يمكن أن تخسر نفوذها إقليمياً، أما روسيا فدعمته لأن سورية تمثل فرصة لها لتستعيد وضعها وأمجادها كقوة عظمى. والآن، بعدما استطاع الأسد أن يقف على قدميه مجدداً، أخذت قوى الوضع الراهن تعود هي أيضاً إلى حظيرته، ولهذا نجد الإمارات وغيرها من الأنظمة الاستبدادية معجبة أشد الإعجاب به، لأنه أضاف فصلاً جديداً لكتاب: (دليل البقاء للحكام المستبدين) عنوانه: “كيف تفلت من كل شيء حرفياً”.
أجل، لقد تعلم الآخرون هذا الدرس، إذ تجلى تأثير ثقافة الإفلات من العقاب في أكثر محاولات الاغتيال جرأة ووقاحة والتي نفذت بحق معارضين وخصوم، كان أشنعها عملية اغتيال جمال خاشقجي على يد قتلة سعوديين في قنصلية المملكة بمدينة إسطنبول.
وبالنسبة للدول الديمقراطية التي يهمها أن يقوم النظام العالمي على أساس القوانين والقواعد الدولية، فيجب أن تقدم قصة سورية على أنها حكاية الهدف منها هو التحذير، وذلك لأن السعي للمساءلة بالنسبة للجرائم ضد الإنسانية مع الاستشهاد بمسؤولية الحماية في هذا السياق يجب ألا يتحول لأمر مثالي أو اختياري.
إذ ليس من الواقعية أو البراغماتية في شيء أن نتوقع التغيير من نظام لم تسجل له أي سابقة في الاستجابة للدوافع أو في تقديم أي تنازلات، بل إنه مجرد تفكير مبني على أوهام وأمانٍ، وهذا ما مكن ذلك النظام من الإفلات من العقاب.
لم تعد لعبة الانتظار التي يمارسها الأسد مجرد استراتيجية دفاعية، فهو يمضي الوقت بيديه الملطختين بالدماء اللتين يعرضهما أمام الكل حتى يرى الجميع ما اقترفت يداه، في الوقت الذي يتساءل فيه غيره من الحكام المستبدين عما بوسعهم أن يفعلوه حتى يفلتوا من العقاب مثله، فيأتي الجواب أن ذلك يتم في حال هددوا العالم بمستقبل أشد عنفاً وأقل استقراراً”.
-----------------------
فورين بوليسي - عن موقع “تلفزيون سوريا”
ولكن كيف يمكن للأسد أن يعود لحضن العالم وينعم ببركاته بعد تلك الحرب التي كانت من أفضل ما وثق في التاريخ، وبعد ارتكابه لجرائم موثقة ومؤكدة ضد الإنسانية وبعد استخدامه المثبت للسلاح الكيماوي في خرق واضح للاتفاقيات والعهود الدولية؟!
ثمة عوامل واضحة، أهمها الغطاء الدبلوماسي الذي أمنته روسيا والصين للأسد في مجلس الأمن الدولي، والدعم العسكري الهائل الذي قدمته له كل من روسيا وإيران، والذي من دونه كان من الممكن لجيش النظام أن ينهار بعدما تقلص فوصل إلى نصف تعداده في عام 2013. وبالرغم من أن التدخل الدولي في كل من أفغانستان والعراق وليبيا قد تم في ظل ظروف مختلفة، إلا أن فشل كل تلك التدخلات قد خدم نظام الأسد أيضاً. كما تم الاستشهاد بتلك السوابق للتخلي عن فكرة التدخل كخيار حتى قبل مطالبة المعارضة السورية بذلك.
وبناء على تلك الحالات، بوسع المرء أن يتفهم عدم اتخاذ الدول لأي موقف عسكري ضد الأسد وقتها، إلا أنه من الصعب شرح هذا التقارب الدبلوماسي الذي بدأ يتسلل رويداً رويداً، أو حتى تبريره!
الولد سر أبيه
في كتابي: (الحكمة الكامنة في لعبة الانتظار في سورية) الذي صدر عام 2013، توقعت أن يتصرف بشار الأسد كما فعل أبوه عند مواجهته لأي أزمة، أي أن يرفض أي مطالبة دولية للقيام بتغيير وأن ينتظر من الآخرين أن يغيروا هم أولوياتهم عوضاً عن ذلك، لأن ذلك بحسب تجربة الأسد، الأب والابن، مسألة حتمية. والحالات الوحيدة التي شذت عن هذا النسق حدثت عندما تعرض النظام لأزمة وجودية، كما حدث في عام 1990، عندما خسر النظام نصيره الذي رعاه، أي الاتحاد السوفييتي، أو كما حدث في عام 1998، عندما لوحت تركيا بالتدخل العسكري بعدما ضاقت ذرعاً بسبب ما يقدمه النظام من ملاذ آمن ودعم لحزب العمال الكردستاني أو ب ك ك pkk.وهنالك فترات خلال الحرب السورية التي امتدت لعقد من الزمان، بدا فيها النظام يبالغ في إظهار قوته، كما بدا أيضاً بأن الهجوم بالأسلحة الكيماوية الذي نفذه في شهر آب من عام 2013 وقتل فيه أكثر من 1400 مدني قد يغير المعادلة، إذ في الوقت الذي كان فيه العالم يراقب ما يجري، هنالك “خط أحمر” تم التصريح عنه، وكان لذلك الخرق للقواعد الدولية عواقب تجاوزت سوريا.
كان التوقع السائد حينذاك بأن ذلك سيجبر الأسد على التنحي في نهاية المطاف، إلا أن الأسد لم ينجح فقط في انتظار الأزمة حتى تهدأ، ليقوم برفض الالتزامات المفروضة عليه بموجب اتفاقية كيري-لافروف المبرمة عام 2016، والتي تحتم عليه بموجبها إنهاء برنامج الأسلحة الكيماوية في سوريا، بل أيضاً قام بتصعيد الحرب وواصل استخدامه للأسلحة الكيماوية.
لعبة الانتظار التي يتقنها الأسد
لا يمكننا أن نشرح مدى فعالية لعبة الانتظار التي يتقنها الأسد إلا بصورة جزئية وعبر التصور الذي زرعه مناصروه عنه بأنه يمثل “أهون الشرور” في سوريا، إذ يمكن تبني هذه الفكرة فقط خلال المرحلة الممتدة منذ عام 2013 وحتى هزيمة تنظيم الدولة، ذلك التنظيم الذي جعلت فظائعه المروعة البعض ينسى ما يمارسه النظام بما أنه كان يستخدم الأساليب ذاتها في التعذيب والقتل، ولكن بصورة ممنهجة أكثر وعلى نطاق أوسع بكثير.تجلى نجاح النظام في إقناع الفاعلين الدوليين بأنه مهتم فقط بحكم البلاد، وبأن العنف الذي مارسه ضروري حتى ولو كان قاسياً وذلك للمحافظة على الدولة. فإذا كان بوسع النظام أن يقدم نفسه كجهة فاعلة عقلانية مستعدة للدخول في حوار استراتيجي، فهذا يعني أنه بوسعه الانتظار حتى تهدأ موجة الانتقادات السلبية له وتنتهي.
وبالطبع، لم ينجح ذلك إلا بفضل التفكير المبني على الرغائب وعلى النية لتصديق ما يحاول النظام إظهاره من قبل بعض الفاعلين الدوليين، فقد افترض هؤلاء بأن الأسد سيشارك ويتعامل مع غيره بصورة بناءة في مرحلة من المراحل دون أن تتم ممارسة أي ضغوطات خارجية وازنة عليه. وهكذا يصبح الخيار بين الأسد وانعدام الاستقرار، أو بين الأسد وتنظيم الدولة، وعليه لا يمكن للانتقال السياسي أن يتم إلا بتعاون الأسد.
منذ عام 2011، دفع النظام الأمم المتحدة للتركيز بصورة أساسية على الدبلوماسية، فاختار أهم المنصات وأكثرها متابعة لأنه لا يثق بكوادره كما أنه يقيد سفرهم، إذ طالما كانت السياسة الخارجية لسورية ذات جوانب متعددة.
وحتى يتم أخذه على محمل الجد على الصعيد الإقليمي، قام الأسد الأب والابن بتطوير أدوات مختلفة، حيث سعى حافظ الأسد لإقامة علاقات مع عناصر فاعلة لا تمثل دولاً في كل من فلسطين ولبنان وتركيا والعراق والأردن وتطويرها على مدار سنوات طويلة، وذلك حتى يتمكن من تفعيل تلك العناصر ليكسب نفوذاً على الصعيد الدبلوماسي. واستمر هذا النهج مع الأسد الابن، بشار، إذ تعتبر عمليات نقل الجهاديين إلى العراق في عام 2003 وما بعدها، والاغتيالات السياسية التي تمت في لبنان منذ عام 2005 وحتى اليوم خير أدلة موثقة على ذلك.
وبما أن النظام يرغب بأن يقبله الآخرون بوصفه قوة تتمتع بالشرعية وتعتبر مهمة وحاسمة بالنسبة لاستقرار المنطقة، لذا فقد تورط في مخططات هدفها زعزعة الاستقرار في تلك المنطقة، وقد آتت تلك المخططات أكلها حتى تكتمل المفارقة هنا. فقد نجح ذلك المخطط في لبنان، بل حتى الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت على استعداد للتغاضي عن أمر تسلل الجهاديين الذي يسهله النظام السوري إلى العراق حتى يقوموا باستهداف القوات الأميركية الموجودة هناك. ومن بين الدول المجاورة لسورية، وحدها إسرائيل، وكذلك تركيا ولكن بدرجة محدودة، كانتا قادرتين على الدفاع عن النفس في مواجهة تلك الأساليب.
وكما هي الحال في معظم الدول الاستبدادية، كان النظام على استعداد لتقبل أي معارضة داخلية طالما بقيت صغيرة ومقسمة وتعمل وفقاً لمعايير مقبولة بالنسبة له. لكنه عندما واجه حركة ثورية اتسمت بالإبداع، دون أن تخضع لقوى خارجية أو تتسلل إليها أي عناصر أجنبية، وتميزت تلك الحركة باهتمامها الصادق بالتغيير السياسي ودفاعها عن خيارها السلمي، أصبح النظام عدوانياً في تعامله مع المعارضة التي رأى في شعبيتها ومصداقيتها تهديداً له.
اغتيالات وتشويه سمعة بحق من يعارض
في عام 2011 و2012، اغتال نظام الأسد شخصيات كاريزماتية تمثل المقاومة القائمة على مبدأ اللاعنف، مثل إبراهيم قاشوش وغياث مطر، في الوقت الذي تغاضى فيه عمداً عن أمر الجهاديين، الذين استفادوا من هذه المهلة ليوسعوا من نفوذهم.وهكذا، وبغض النظر عن وجود بديل للأسد، ومهما كانت رؤيته ديمقراطية، ومهما كانت النشاطات التي يمارسها مبنية على حسن النية، تعرضت أي شخصية أو كيان معارض للأسد إلى حملة منظمة هدفها القضاء عليها أو تشويه سمعتها على الأقل، وقد نجح ذلك مع منظمة الدفاع المدني في سوريا، والتي تضم مقدمي الاستجابة الأولية ضمن ما يعرف بمنظمة الخوذ البيضاء. كان الهدف من كل ذلك خلق حالة من التشوش وترك انطباع لدى الجمهور حول عدم وجود رجل رشيد بين هؤلاء، ومن ثم زرع الخوف في نفوس الدبلوماسيين والسياسيين وغيرهم كونهم سيعتبرون أنفسهم يضحون بالاستقرار مقابل صعود بديل أسوأ من الموجود.
تعرضت سورية والجارتان تركيا ولبنان لأعمال إرهابية غامضة كان الهدف منها ترويع الجمهور في الداخل والخارج. ففي عدد من الهجمات الإرهابية التي تمت بمدينة الريحانية التركية، كان لمن أدينوا فيها صلات وثيقة بالنظام السوري.
أما في لبنان، فكان الأمر أسهل بالنسبة لنظام الأسد حيث كان يستعين بعلاقاته المشبوهة لترويع تلك الدولة التي سبق له أن احتلها وبقي فيها حتى عام 2005. ففي شهر آب من العام 2012، ألقي القبض على وزير الإعلام اللبناني السابق ميشال سماحة بسبب ضلوعه في مؤامرة تهدف إلى زرع أكثر من 20 قنبلة في أثناء زيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي لشمال لبنان. وكان الهدف من ذلك تصوير ما سيحدث على أنه اعتداء إسلامي على المسيحيين، حيث نقل عن سماحة قوله: “هذا ما يريده بشارة”.
كان العقل المدبر لتلك الخطة التي تهدف لإثارة النعرات الطائفية ولتوريط لبنان في حرب أهلية هو علي مملوك، المنسق الأكبر بين العديد من فروع المخابرات في سوريا والمستشار الأمني الخاص لبشار. ولو كتب لخطته النجاح، لكان من المرجح أن تثير حالة من الكراهية ضد اللاجئين السوريين في لبنان. وبالإضافة لكل ذلك، ثمة رسالة واضحة موجهة للحكومة والشعب اللبناني من خلال تلك العملية وهي: “ستسقطون إن سقطت سوريا”.
تورط حزب الله ولا مبالاة الأسد
في تلك الأثناء كان النظام يعول على الجنود اللبنانيين، خاصة أولئك الذين يخدمون لدى حزب الله. إذ أصبح الجيش العربي السوري يعيش حالة فوضى بحلول عام 2013، حيث لم يعد فيه أي انضباط أو نظام أو جنود. أما بالنسبة للعنف الصريح، فقد كان لدى النظام قوات الشبيحة وقوات النمر الخاصة، ولكن فيما يخص الخبرة على أرض المعركة، فإن النظام يستعين بجنود حزب الله المدربين بشكل جيد والذين يتبعون تسلسلاً هرمياً منظماً.إلا أن مقتل المئات من مقاتلي حزب الله في سوريا خلق حالة من الاستياء في لبنان، حيث رسم حزب الله لنفسه صورة المقاوم لإسرائيل، بيد أن كثيرا من عناصره ومؤيديه لم يدركوا الهدف من قيام عناصره بقتل الناس والموت في سبيل الأسد. إلا أن الأسد لم يجد نفسه مضطراً لتخفيف وطأة الضغوطات الداخلية في لبنان التي يتعرض لها حزب الله، والتي تفاقمت بسبب ظهور حالة سخط شعبية بسبب وجود أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان.
التضييق على اللاجئين سببه الأسد أولاً وأخيراً
هنالك الملايين من السوريين الذين هربوا إلى تركيا والأردن ولبنان، وبالرغم من أنهم يعيشون هناك في ظل ظروف تعيسة، إلا أن قلة قليلة منهم عادت بالفعل إلى سوريا. والأسد يدرك مدى ثقل ذلك العبء الذي تتحمله دول الجوار، ولهذا حاول أن يستخدم ذلك كورقة ضغط، حيث استخدم حملاته العسكرية على إدلب السورية التي يعيش فيها ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين نازح، وذلك للضغط على تركيا، حيث أدت المشاعر المعادية للاجئين في الداخل والمطالبات التي وجهت للحكومة لتقوم بحل هذه المشكلة إلى قيام حملة تضييق ملموسة على اللاجئين بعدما خسر حزب أردوغان الحاكم في الانتخابات المحلية عام 2019، كما عمقت تلك الضغوطات من الشقاق بين أنقرة والاتحاد الأوروبي.وأسهم تدفق اللاجئين إلى دول الاتحاد الأوروبي في صعود شعبوية اليمين في أوروبا، ولهذا أعلن الرئيس التركي: “سنفتح الأبواب لنرسل 3.6 ملايين لاجئ” إلى أوروبا، وذلك عندما تعرض لانتقادات بسبب سيطرته على مناطق في الشمال السوري. وهكذا، وعبر زيادة الفوضى استطاع النظام أن يقدم نفسه على أنه الخيار الافتراضي للاستقرار.
عملية سلام مخيبة للآمال
بقي النظام يشارك على مدار سنوات في عملية السلام بجنيف التي ترعاها الأمم المتحدة، حيث عقدت سلسلة من المؤتمرات التي بدأت في عام 2012 وكان الهدف منها وقف العنف في سوريا والتوصل إلى حل للنزاع. يتمثل هدف الأمم المتحدة هنا بتحقيق عملية انتقال سياسي، بحسب ما تم الاتفاق عليه في مجلس الأمن الدولي، بيد أن ديدن النظام هو الابتعاد عن تلك النتيجة وتحاشيها، ولهذا لم تتمخض أي من جولات المفاوضات عن أي تقدم ملموس بالنسبة للشعب السوري.كما لم تستطع اللجنة التفاوضية التي عقدت جولتها السادسة من المحادثات منذ فترة قريبة أن تتوصل إلى اتفاق حول المبادئ الدستورية، وهكذا بدلاً من أن يكون ذلك بمنزلة منبر للنظام ليقوم بالتفاوض من خلاله، أصبحت عملية جنيف بكل عناصرها بمنزلة مسرح ومناسبة يقوم من خلالها مسؤولو النظام بالتسوق في أوروبا. ولذلك حتى أشد الناس صبراً وحلماً بين المبعوثين الأمميين الخاصين إلى سورية، أي جير بيدرسون، وصف ذلك الاجتماع بأنه: “خيبة أمل كبيرة”.
دور المجتمع الدولي في إفلات الأسد
إن تقارب الدول العربية بشكله الزاحف والمتسلل تجاه الأسد يكشف أيضاً حدود النهج المتهاون والمضلل الذي رسمته الولايات المتحدة لنفسها، إذ منذ البداية، تخبطت المبادرات الدبلوماسية وتعثرت في ظل غياب تهديد حقيقي بالقوة. وهكذا زادت رغبة النظام واستعداده للمشاركة في تلك التمثيلية طالما بقي حراً طليقاً قادراً على مواصلة قمعه بصورته العنيفة. وبالمقابل، كانت المرة الوحيدة التي قدم بها النظام بعض التنازلات في شهر أيلول من عام 2013، عندما تعرض لتهديد بالتدخل لفترة محدودة (غير أن الغارات الجوية التي شنتها إدارة ترامب في عام 2017 و2018 لم ترعب الأسد ولم تشكل أي تهديد على حكمه).لم يقدم النظام حتى الآن أي مبرر أو سبب للفرضية التي ترى بأن الدبلوماسية وحدها قادرة على تغيير سلوكه، كما لم يبد أي بادرة تدل على استعداده لتقديم تنازلات في سبيل تحقيق سلام دائم. إذ كان بوسعه أن يصدر عفواً عاماً وأن يحترم ذلك، ولكن لا وجود لأي مثال على نجاح أي مصالحة في أي محافظة من محافظات سورية.
عمدت استراتيجية الاتفاقيات المحلية لوقف إطلاق النار التي تبنتها الأمم المتحدة في عهد المبعوث الدولي الخاص إلى سورية وقتها، ستيفان ديمستورا، إلى تسليم معظم مناطق سوريا للنظام دون ضمان التزامه بأي شرط بشكل دائم، وذلك بحسب ما ورد في تقرير مجلس الأطلسي. وهكذا أخذ النظام في المناطق التي استرجعها يحقق بدقة بملفات أي مواطن يشك بأن له نشاط سياسي، وكذلك يبحث في ملفات أفراد أسرته وعائلته أيضاً، أما من اعتقل من هؤلاء فقد اختفوا وغيبوا قسرياً.
تعاون رسمي لا حقيقي
إن قضية أكثر من 100 ألف مختفٍ قسرياً قضية ملحة، وطريقة النظام في معالجة هذه المسألة الحساسة مهمة للغاية، إذ عندما أصر أهالي المختفين قسرياً على حقهم بمعرفة مكان أحبائهم، ضغطت روسيا على النظام ليفصح عن مصير هؤلاء، فأتى رد النظام عبر إصدار بضع مئات من شهادات الوفاة دون أي اكتراث أو مبالاة، غالبيتها ذكر فيها سبب طبيعي للوفاة، وهذه السمة تميز النهج الذي يتبناه النظام، أي أنه يتعاون بشكل رسمي لا حقيقي.المساعدات كسلاح بيد النظام
يكشف استخدام النظام للمساعدات كسلاح عن نهجه في التعامل مع المجتمع الدولي، إذ خلال فترات الحصار الذي فرض على حلب الشرقية حتى عام 2016، وعلى الغوطة حتى عام 2018، لم يكلف النظام نفسه حتى بالرد على مطالبات الأمم المتحدة لتأمين المساعدات الإغاثية، حيث سمح لعدد محدود من القوافل بالدخول، مع مصادرة سلع بشكل عشوائي من تلك الشاحنات. كما قام بقصف المدنيين وهم ينتظرون توزيع المساعدات الأممية، وفي إحدى الحالات تعرضت قافلة كاملة للتدمير.إن تلك التصرفات بحد ذاتها تدق ناقوس الخطر، لأن أي دبلوماسية تكيّف نفسها مع تعنت الأسد ما هي إلا رخصة له ليمارس مزيدا من انتهاكات حقوق الإنسان، ولن يكون هنالك أي مبرر لوجود أي فسحة أمل إذا نظرنا إلى العناصر الفاعلة التي تتهافت على التقارب معه وتقود الدفة نحو ذلك، حيث سنكتشف بأن تلك الدول لا يقلقها أمر حقوق الإنسان بتاتاً.
أسباب منطقية لتلميع صورة الأسد
هنالك سبب منطقي أكثر لإذابة الجليد معه وهو أن تلك الدول التي تسعى لكسب وده، لا سيما دول الجوار، تريد أن تخلق حجة ترغم من خلالها اللاجئين على العودة إلى بلدهم. وعبر قيامها بذلك، تظهر تلك الدول مدى استخفافها واستهانتها بسلامة اللاجئين، كونها تفترض بأن النظام مستعد لاستقبالهم في حضن الوطن.وفي الوقت الذي يحاول فيه سياسيون لبنانيون منذ عام 2017 تطبيع العلاقات مع الأسد لتسهيل عودة اللاجئين، يبدي النظام سعادة غامرة لتخلصه من مواطنين مزعجين في نظره، وكأن النظام يقول صراحة: ما الذي يجعلكم تظنون أننا سنستقبلهم؟ إذ تؤكد السلطات اللبنانية بأن 20% فقط من اللاجئين في لبنان الذين تم تسجيلهم على أنهم يرغبون بالعودة إلى سورية قد منحوا الإذن بالعودة من قبل النظام.
وهنالك سبب منطقي آخر للتقارب وهو أن تلك الدول تأمل عبر خلق موجة من التطبيع أن تستفيد من احتمال تدفق الأموال من الدول الغربية بهدف إعادة إعمار سورية. ولكن لم يتضح حتى الآن من هي الدول المستعدة للاستثمار في سورية، وذلك لأن أوروبا ما تزال حتى اليوم ملتزمة بعدم تمويل عملية إعادة الإعمار إلا بعد ظهور بوادر ومؤشرات لانتقال سياسي جدي وحقيقي. وبخلاف الدول الغربية، لا تبدي الصين عظيم الاهتمام بتلك الشروط، ولكنها في الوقت الذي قامت فيه ببعض التحركات المبدئية تجاه هذا النوع من الاستثمار، لم يرجح أحد أن تتخذ تلك الخطوات أي شكل جدي أو حقيقي. إذ بوجود الفساد الذي اشتهر به نظام الأسد، فإنه حتى الصين تبدو غير واثقة من قدرتها على الاستفادة من تلك الاستثمارات.
أما بالنسبة لكل الحديث عن التقارب، فإنه لم تقم أي حكومة حتى الآن باستثمار أموالها في المناطق التي تتحدث عنها كثيراً.
ديكتاتورية زميلة..
ثم إن كل الدول التي تحاول أن تصلح العلاقات مع الأسد تحكمها أنظمة استبدادية، وهذا ما يجعلها تتعاطف بشكل طبيعي مع ديكتاتورية زميلة في مواجهة مع ثورة شعبية. لكن ولأنها دول استبدادية، لذا فهي الأقدر على فهم شخصية النظام، وهنا تكمن المفارقة، لأن هذا ما يجعلها ترفض إقامة أي استثمارات فعلية في سورية.قد يأمل أي ديكتاتور عندما يكون في محنة أن يأتيه دعم من قبل من سيخسرون في حال سقوطه أو من سيكسبون في حال بقائه. ولهذا دعمت إيران الأسد، لأنها يمكن أن تخسر نفوذها إقليمياً، أما روسيا فدعمته لأن سورية تمثل فرصة لها لتستعيد وضعها وأمجادها كقوة عظمى. والآن، بعدما استطاع الأسد أن يقف على قدميه مجدداً، أخذت قوى الوضع الراهن تعود هي أيضاً إلى حظيرته، ولهذا نجد الإمارات وغيرها من الأنظمة الاستبدادية معجبة أشد الإعجاب به، لأنه أضاف فصلاً جديداً لكتاب: (دليل البقاء للحكام المستبدين) عنوانه: “كيف تفلت من كل شيء حرفياً”.
أجل، لقد تعلم الآخرون هذا الدرس، إذ تجلى تأثير ثقافة الإفلات من العقاب في أكثر محاولات الاغتيال جرأة ووقاحة والتي نفذت بحق معارضين وخصوم، كان أشنعها عملية اغتيال جمال خاشقجي على يد قتلة سعوديين في قنصلية المملكة بمدينة إسطنبول.
وبالنسبة للدول الديمقراطية التي يهمها أن يقوم النظام العالمي على أساس القوانين والقواعد الدولية، فيجب أن تقدم قصة سورية على أنها حكاية الهدف منها هو التحذير، وذلك لأن السعي للمساءلة بالنسبة للجرائم ضد الإنسانية مع الاستشهاد بمسؤولية الحماية في هذا السياق يجب ألا يتحول لأمر مثالي أو اختياري.
إذ ليس من الواقعية أو البراغماتية في شيء أن نتوقع التغيير من نظام لم تسجل له أي سابقة في الاستجابة للدوافع أو في تقديم أي تنازلات، بل إنه مجرد تفكير مبني على أوهام وأمانٍ، وهذا ما مكن ذلك النظام من الإفلات من العقاب.
لم تعد لعبة الانتظار التي يمارسها الأسد مجرد استراتيجية دفاعية، فهو يمضي الوقت بيديه الملطختين بالدماء اللتين يعرضهما أمام الكل حتى يرى الجميع ما اقترفت يداه، في الوقت الذي يتساءل فيه غيره من الحكام المستبدين عما بوسعهم أن يفعلوه حتى يفلتوا من العقاب مثله، فيأتي الجواب أن ذلك يتم في حال هددوا العالم بمستقبل أشد عنفاً وأقل استقراراً”.
-----------------------
فورين بوليسي - عن موقع “تلفزيون سوريا”