وبذلك تكون الأغنية صالحة لمأساتنا العربية، فلا أحد اليوم يبكي على اليمن ولا غزة أو العراق والسودان، ولا أحد يبكي على موريتانيا ولا على أفغانستان والصومال، ولن يبكي أيضاً أحد على كل الجرعات الأليمة التي يبتلع ريقها الناس صبحاً ومساء، وهم يشاهدون كارثة تلو الكارثة ودماً ينزف كالأنهر الصغيرة في حروب أهلية ونصف نظامية.
ربما لا يبدو الموت غير متوقع لإنسان يعيش حالة إرهاب وحرب وتفجيرات مستمرة، كأفغانستان والصومال وباكستان وغيرها من البلدان المتفجرة ببؤر الإرهاب، ولكن الإنسان يمتلئ ذعراً ورعباً عندما تحل الكارثة المميتة عليه فجأة ودون توقع، فيصبح أمام مشهد يومي مريع للغاية، ومشاهد بائسة وبشعة للأجساد البشرية وهي ممتدة في الخلاء، وكأنها قطع أقمشة مزرية في انتظار شاحنة القمامة.
بيوت ودمار وجوع وعطش ومصابون في كل مكان من العاصمة، بعد أن دمر الزلزال كل البنى التحتية وترك حلقة الاتصالات مقطوعة، مما عقد عملية الإنقاذ والتواصل والإغاثة العاجلة.
في مثل هذه الظروف الإنسانية الصعبة، نتساءل أمام ضمائرنا ماذا تفعل الإنسانية لنفسها عندما تدخل محنة بيئية؟ فنموذج هايتي ليس إلا نموذجاً واحداً ينتظرنا في الأعوام القادمة، مثلما تركت لنا أجراس التسونامي والعواصف المتتالية في دول كبرى كالولايات المتحدة، حيث دمر إعصار كاترينا الولاية تدميراً ضخماً لم تنهض بعده كاملة حتى الآن.
في ظل هذا الدروس الإنسانية، نلمس باستمرار الحس اليقظ أحياناً عند الدول والشخصيات والزعماء والمنظمات المدنية، المجتمعية أو الرسمية، المحلية أو الإقليمية والدولية، فكلها تستنفر طاقاتها وتتحرك بأسرع ما يمكن، لكي تنتشل قدر المستطاع من الأرواح المهددة بالموت، والتي تقف على مسافة قريبة منه.
ففي كل ساعة تأخير يموت شخص لا يسعفه الرمق ولا يسعفه جسده المريض الواهن، ولا يسعفه الوضع الكارثي الذي يعيشه، لهذا يصاب السكان المحليون في تلك اللحظة بذعر مضاعف وتشل الدهشة قواهم وقدراتهم، ويكتشفون أنهم يودون تقديم المساعدة والعون للضحايا، ولكن خبرتهم وإمكانيتهم تحول دون تقديم أكثر من حمل طفل صغير أو امرأة عجوز، أو إزالة ركام بسيط من الخشب.
غير أن من في إمكانهم إزالة تلك القطع الإسمنتية الضخمة، وتقديم المواد الغذائية والأدوية والاحتياجات الضرورية والعلاج والخيام، هي وحدها الدول والمنظمات الدولية، فهي التي تمتلك الطائرات والفرق والبواخر والمعامل الميدانية والمستشفيات المتحركة، وكلها كانت أمامنا في هذه اللحظة من لحظات هاييتي المرعبة.
أن يفقد ثلث السكان في بلد مساكنهم وثروتهم القومية، وأن تفوق أرقام الموتى الخمسين ألف إنسان، وهناك رقم مضاعف لم يتم بعد تأكيده، ففي مثل هذه اللحظة تصاب القدرات الإنسانية بالشلل في تقدير حجم الخسائر.
في هذا المشهد التراجيدي يفتح لنا الساسة معاركهم الجانبية، فتبدأ الصحافة الأميركية والمحافظون وغيرهم في توجيه اللوم للرئيس الأميركي، لتكتب الصحافة بكل وضوح، إن كارثة هاييتي هي امتحان لباراك أوباما، ففي الماضي كان من المنتقدين لسياسة بوش في كيفية تعاملها مع إعصار كاترينا، فهل نرى شيئاً شبيهاً بذلك؟
وركزت الصحافة الأميركية على حادثة وصول الفرقة الصينية لهاييتي قبل الأميركية بساعات، رغم فرق المسافة والإمكانيات. في هذه اللحظة يتشابه الساسة والجماعات المرتزقة المهووسون بالنهب والسلب، فيضيفون لجريمتهم جرماً إنسانياً آخر. فما بين ابتزاز رجل السياسة ورجل النهب، هناك مجرد مسافة أخلاقية وقيمية. وفي لحظة هاييتي المرعبة علينا أن نركب قارباً إنسانياً واحداً عند الكارثة، وعلى الجميع أن ينقذوا شعباً ووطناً من كارثته.
وإذا ما نجحت فرق الإنقاذ الأميركية في نقل بعض دبلوماسييها للعلاج في قاعدة غوانتانامو الكوبية القريبة، فان المجتمع الدولي والأمم المتحدة تستنجد العالم بحاجتها العاجلة لمائة مليون دولار، لإنقاذ الوضع الطارئ على ميزانيتها المستنزفة بكوارث ومصائب العالم المتنوعة.
ويبدو أن الأمين العام حظه عاثر مع العام 2010، والذي يحمل في طياته ما هو أصعب، فهناك مليار جائع مهددون بالموت هم أكثر انتظاراً للقمة العيش والعلاج في قاربنا الإنساني. وما يحتاجه المجتمع الدولي لإنقاذ جياع العالم، وليس جياع هاييتي فقط، مبلغ قدره ستة مليارات دولار، فيما الدول المانحة لم تدفع إلا مليارين، ومعنى ذلك أن الآخرين أمامهم خيار الموت جوعاً بطريقة بطيئة.
وأنا مشدود لتفاصيل الكارثة، والقراءة عنها وحولها، شعرت بحقيقة إنسانية لفيلم 2010 عن فلسفة المجتمع الإنساني عند لحظة الكارثة، كيف علينا أن نتصرف ونتعالى على قضايا السياسة والخلافات، ونلتفت إلى حال الإنسانية وهي تناشدنا لإنقاذها من البيئة المدمرة؟ وحدهم بشر كهؤلاء جديرون بالاحترام رغم محنتهم، فقد قال ليفساي أحد مواطني هاييتي وشاهد عيان:
سمعت عقب الزلزال أصوات عويل في أنحاء المدينة، وفي وقت لاحق أصوات غناء وصلوات، كانت أصوات جميلة وسط المأساة البشعة. فهل هي الطاقة الإنسانية الروحية في مواجهة الألم عبر الغناء والصلوات؟
وعندما يصلي أهل هاييتي السود، فإنهم يغنون التراتيل كزمن بعيد من أزمنة العبودية، فتصبح المدينة المنكوبة الرازحة في الظلام الحالك، مدينة الغناء والألم.. وما نحتاجه في قاربنا الإنساني هو أن نضمد جراحنا معاً، ونغني معاً حينما يواجهنا معاً عبث التدمير.
----------------
كاتب بحريني
baderabdulmalek@yahoo.com
البيان - دبي
ربما لا يبدو الموت غير متوقع لإنسان يعيش حالة إرهاب وحرب وتفجيرات مستمرة، كأفغانستان والصومال وباكستان وغيرها من البلدان المتفجرة ببؤر الإرهاب، ولكن الإنسان يمتلئ ذعراً ورعباً عندما تحل الكارثة المميتة عليه فجأة ودون توقع، فيصبح أمام مشهد يومي مريع للغاية، ومشاهد بائسة وبشعة للأجساد البشرية وهي ممتدة في الخلاء، وكأنها قطع أقمشة مزرية في انتظار شاحنة القمامة.
بيوت ودمار وجوع وعطش ومصابون في كل مكان من العاصمة، بعد أن دمر الزلزال كل البنى التحتية وترك حلقة الاتصالات مقطوعة، مما عقد عملية الإنقاذ والتواصل والإغاثة العاجلة.
في مثل هذه الظروف الإنسانية الصعبة، نتساءل أمام ضمائرنا ماذا تفعل الإنسانية لنفسها عندما تدخل محنة بيئية؟ فنموذج هايتي ليس إلا نموذجاً واحداً ينتظرنا في الأعوام القادمة، مثلما تركت لنا أجراس التسونامي والعواصف المتتالية في دول كبرى كالولايات المتحدة، حيث دمر إعصار كاترينا الولاية تدميراً ضخماً لم تنهض بعده كاملة حتى الآن.
في ظل هذا الدروس الإنسانية، نلمس باستمرار الحس اليقظ أحياناً عند الدول والشخصيات والزعماء والمنظمات المدنية، المجتمعية أو الرسمية، المحلية أو الإقليمية والدولية، فكلها تستنفر طاقاتها وتتحرك بأسرع ما يمكن، لكي تنتشل قدر المستطاع من الأرواح المهددة بالموت، والتي تقف على مسافة قريبة منه.
ففي كل ساعة تأخير يموت شخص لا يسعفه الرمق ولا يسعفه جسده المريض الواهن، ولا يسعفه الوضع الكارثي الذي يعيشه، لهذا يصاب السكان المحليون في تلك اللحظة بذعر مضاعف وتشل الدهشة قواهم وقدراتهم، ويكتشفون أنهم يودون تقديم المساعدة والعون للضحايا، ولكن خبرتهم وإمكانيتهم تحول دون تقديم أكثر من حمل طفل صغير أو امرأة عجوز، أو إزالة ركام بسيط من الخشب.
غير أن من في إمكانهم إزالة تلك القطع الإسمنتية الضخمة، وتقديم المواد الغذائية والأدوية والاحتياجات الضرورية والعلاج والخيام، هي وحدها الدول والمنظمات الدولية، فهي التي تمتلك الطائرات والفرق والبواخر والمعامل الميدانية والمستشفيات المتحركة، وكلها كانت أمامنا في هذه اللحظة من لحظات هاييتي المرعبة.
أن يفقد ثلث السكان في بلد مساكنهم وثروتهم القومية، وأن تفوق أرقام الموتى الخمسين ألف إنسان، وهناك رقم مضاعف لم يتم بعد تأكيده، ففي مثل هذه اللحظة تصاب القدرات الإنسانية بالشلل في تقدير حجم الخسائر.
في هذا المشهد التراجيدي يفتح لنا الساسة معاركهم الجانبية، فتبدأ الصحافة الأميركية والمحافظون وغيرهم في توجيه اللوم للرئيس الأميركي، لتكتب الصحافة بكل وضوح، إن كارثة هاييتي هي امتحان لباراك أوباما، ففي الماضي كان من المنتقدين لسياسة بوش في كيفية تعاملها مع إعصار كاترينا، فهل نرى شيئاً شبيهاً بذلك؟
وركزت الصحافة الأميركية على حادثة وصول الفرقة الصينية لهاييتي قبل الأميركية بساعات، رغم فرق المسافة والإمكانيات. في هذه اللحظة يتشابه الساسة والجماعات المرتزقة المهووسون بالنهب والسلب، فيضيفون لجريمتهم جرماً إنسانياً آخر. فما بين ابتزاز رجل السياسة ورجل النهب، هناك مجرد مسافة أخلاقية وقيمية. وفي لحظة هاييتي المرعبة علينا أن نركب قارباً إنسانياً واحداً عند الكارثة، وعلى الجميع أن ينقذوا شعباً ووطناً من كارثته.
وإذا ما نجحت فرق الإنقاذ الأميركية في نقل بعض دبلوماسييها للعلاج في قاعدة غوانتانامو الكوبية القريبة، فان المجتمع الدولي والأمم المتحدة تستنجد العالم بحاجتها العاجلة لمائة مليون دولار، لإنقاذ الوضع الطارئ على ميزانيتها المستنزفة بكوارث ومصائب العالم المتنوعة.
ويبدو أن الأمين العام حظه عاثر مع العام 2010، والذي يحمل في طياته ما هو أصعب، فهناك مليار جائع مهددون بالموت هم أكثر انتظاراً للقمة العيش والعلاج في قاربنا الإنساني. وما يحتاجه المجتمع الدولي لإنقاذ جياع العالم، وليس جياع هاييتي فقط، مبلغ قدره ستة مليارات دولار، فيما الدول المانحة لم تدفع إلا مليارين، ومعنى ذلك أن الآخرين أمامهم خيار الموت جوعاً بطريقة بطيئة.
وأنا مشدود لتفاصيل الكارثة، والقراءة عنها وحولها، شعرت بحقيقة إنسانية لفيلم 2010 عن فلسفة المجتمع الإنساني عند لحظة الكارثة، كيف علينا أن نتصرف ونتعالى على قضايا السياسة والخلافات، ونلتفت إلى حال الإنسانية وهي تناشدنا لإنقاذها من البيئة المدمرة؟ وحدهم بشر كهؤلاء جديرون بالاحترام رغم محنتهم، فقد قال ليفساي أحد مواطني هاييتي وشاهد عيان:
سمعت عقب الزلزال أصوات عويل في أنحاء المدينة، وفي وقت لاحق أصوات غناء وصلوات، كانت أصوات جميلة وسط المأساة البشعة. فهل هي الطاقة الإنسانية الروحية في مواجهة الألم عبر الغناء والصلوات؟
وعندما يصلي أهل هاييتي السود، فإنهم يغنون التراتيل كزمن بعيد من أزمنة العبودية، فتصبح المدينة المنكوبة الرازحة في الظلام الحالك، مدينة الغناء والألم.. وما نحتاجه في قاربنا الإنساني هو أن نضمد جراحنا معاً، ونغني معاً حينما يواجهنا معاً عبث التدمير.
----------------
كاتب بحريني
baderabdulmalek@yahoo.com
البيان - دبي