على سبيل المثال الصارخ، بالغ التعبير أيضاً، كان النائب في الدوما سيميون بغداساروف قد ذهب إلى هذا التأويل الأقصى للعلاقة بين روسيا وسوريا: «سوريا أرضنا، أرضنا المقدسة. الحضارة أتت إلينا من هناك تحديداً. لو لم توجد سوريا، ما كانت روسيا ستوجد. لا الإغريق ولا الله أعلم أيّ شعب أتى إلى روسيا من أنطاكيا». فكيف تكون الحال في طرائق الكرملين لحشد الالتفاف الشعبي الأعرض، صادقاً كان أم زائفاً أو مزيفاً، حول أوكرانيا؛ بما تعنيه الأخيرة من محمولات رمزية دينية وعرقية ولغوية وتاريخية وجغرافية، وبما تمثّله ضمن تراث العبور الروسي الكبير من القرم إلى ساحات مواجهات شتى، شرقاً وغرباً، أفضت وتفضي إلى قطبية كونية جديدة، وإلى حرب باردة طبقاً لمعطيات العقد الثاني من القرن الـ21.
وأولئك الذين يتعمدون إغفال الربط بين أوكرانيا وسوريا داخل شطرنج بوتين الراهن، بذريعة أنّ «السلام» الروسي – الأمريكي في سوريا يصلح نموذجاً لتبريد أكثر وليس لتسخين أشدّ؛ يتغافلون، في الآن ذاته، عن حقائق دامغة، ثقيلة الوزن والجدوى والمغزى، في حاجة بوتين الشعبوي إلى مادّة شعبوية دائمة تغذّي العطش الشعبوي الروسي إلى أحياء أمجاد الماضي، التي فيها تستوي أحلام القياصرة مع المنجزات السوفييتية؛ في ميادين السياسة الخارجية بادئ ذي بدء، ثمّ لاحقاً في ميادين تكنولوجيا السلاح والفضاء والقتال السيبرانية. وليس تفكيك (فكيف بتخريب أو تعطيل أو حتى إبطال!) العمارات الجيو – سياسية ما بعد سقوط جدار برلين وتحلّل المعسكر الشرقي تباعاً؛ سوى عتبة أولى، كبرى بالطبع وحاسمة، على طريق جرّ الولايات المتحدة والحلف الأطلسي و»الغرب» عموماً إلى طاولة تنازلات، غير جديرة عملياً بصفة المفاوضات.
وعلى رقعة الشطرنج التي يديرها بوتين، وبصفة أوضح وأدعى إلى استدراج المواجهة أو التوريط منذ الحرب في جورجيا سنة 2008، ثمة هذه النقلة في وجه البيت الأبيض والأطلسي معاً: إمّا أن تتقدموا، بعد ضمّ القرم تحديداً، نحو أوكرانيا بما يمكن أن يتخذ سريعاً صفة فييتنامية؛ وإمّا أن تلجأوا إلى الخيار الآخر شبه الوحيد، أي العقوبات الاقتصادية. التاريخ يقول إنّ نماذج العقوبات التي فُرضت على العراق وإيران وروسيا، في الأمثلة الأحدث، أوجعت بهذا القدر الشديد أو ذاك الواهي، لكنْ هيهات أنها قلبت سياسات كبرى رأساً على عقب، أو بدّلت نظاماً بنظام. وتلك، كما هو معروف، نقلة واجهها رئيسان أمريكيان من قبل، باراك أوباما ودونالد ترامب، ويواجهها الثالث جو بايدن اليوم؛ من دون أن تلاقيها واشنطن بأيّ خيارات رادعة غير تلك التي تتوعد بالمزيد من العقوبات.
وعلى رقعة الشطرنج إياها، وسواء اعتزم بوتين تصعيد بيدق بشار الأسد في سوريا أو تحريك رخّ انفصال دنباس في أوكرانيا، لا يلوح أنّ البيت الأبيض يقلّب أي خيار فييتنامي، خاصة بعد اكتفاء الأطلسي بالمساندة اللفظية ووضع عضوية أوكرانيا في الحلف على رفّ المهملات؛ الأمر الذي يعني أنّ مناخات الشدّ والجذب الراهنة بين الأطراف لن تتخذ وجهة الـ»كش ملك»، والبعض يذهب إلى درجة التفكّه الأبسط على المبدأ التالي: ألا يكفي أنهما يتبارزان كلامياً، في ساحات التهديد والوعيد و… حروب الطواحين!
------------
القدس العربي
عيون المقالات
حلقة برباغندا إيران انتهت مدة صلاحيتها
26/11/2024
- د. منى فياض
الفرصة التي صنعناها في بروكسل
26/11/2024
- موفق نيربية
(هواجس إيران في سوريا: زحمة موفدين…)
24/11/2024
- محمد قواص
مستقبل لبنان بعهدة شيعته!
23/11/2024
- فارس خشان
هل تخشى إيران من الأسد أم عليه؟
23/11/2024
- ضياء عودة
المهمة الفاشلة لهوكستين
23/11/2024
- حازم الأمين
نظام الأسد وحرب النأي بالنفس عن الحرب
21/11/2024
- بكر صدقي
الأسد الحائر أمام الخيارات المُرّة
17/11/2024
- مالك داغستاني
العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب
17/11/2024
- العميد الركن مصطفى الشيخ
إنّه سلام ما بعده سلام!
17/11/2024
- سمير التقي
تعيينات ترامب تزلزل إيران ورسالة خامنئي للأسد تتعلق بالحرب التي لم تأتِ بعد
17/11/2024
- عقيل حسين
هذا التوجس التركي من اجتياح إسرائيلي لدمشق
16/11/2024
- عبد الجبار عكيدي
السوريات في الحياة الأوروبية والتجارب السياسية
15/11/2024
- ملك توما
هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟
13/11/2024
- أمين قمورية
بشـار الأسـد بين علي عبدالله صـالـح وحسـن نصر الله
13/11/2024
- فراس علاوي
“وقف الحروب” اختبارٌ لترامب “المختلف”
13/11/2024
- عبد الوهاب بدرخان
( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )
13/11/2024
- عبد الباسط سيدا*
قنبلة “بهتشلي”.. ماذا يحدث مع الأكراد في تركيا؟
13/11/2024
- كمال أوزتورك
طرابلس "المضطهدة" بين زمنين
13/11/2024
- د.محيي الدين اللاذقاني
حين تمتحن سورية تلك النبوءات كلّّها
12/11/2024
- ايمن الشوفي
|
شطرنج بوتين: بيدق «سوريا الأنطاكية» ورخّ «أوكرانيا الفييتنامية»
|
|
|