الشعر مرآة الثقافة السائدة بشكل قد يصعب على أشكال الإبداع الأخري تجسيده. سمعت تلك الكلمات (الصائبة) من فم عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد فى المرة اليتيمة التى حضرت فيها ندوة العقاد (التى ذهبت لها بصحبة الشاعر العوضي الوكيل أحد أقرب خلصاء وتلامذة العقاد لقلبه) ... كان ذلك قبل أسابيع من وفاة العقاد (ولد عباس العقاد فى أسوان يوم 28 يونيه 1889 وتوفي فى منزله بضاحية مصر الجديدة بالقاهرة يوم 12 مارس 1964) ... فى تلك الجلسة روعني ما قاله العقاد عن الشعر العربي (الذى كنت ولا أزال محبا له وحافظا لآلاف من قصائده). يومها حفر العقاد فى ذهني وذاكرتي رأيان توصلت لهما عبر رحلة قراءة عارمة ومطولة وحاشدة : الأول ؛ أن الشعر مرآة الثقافة والحياة السائدة ؛ والثاني ؛ أن الشعر العربي فى الكثير من نماذجه القديمة والحديثة يعكس مواضيعا (بل وحياة) ضيقة مقارنة (مثلا) بالشعر الإنجليزي ... ورغم أن ولعي بالشعر العربي (خلال السنوات منذ وفاة العقاد) لم يتناقص ؛ فإن خبرة السنين والقراءة جعلتني أري كم كان العقاد محقا ومصيبا فى قوليه هذين ... وخلال السنوات العشر الماضية أتيح لي أن أتابع ما يسمي بالشعر العامي فى الجزيرة العربية المسمي عند البعض بالشعر النبطي. وإذا بي لا أتذكر العقاد فحسب ؛ بل وأكاد أراه فى كل مرة وكأنه يقف وراء أؤلئك الذين يلقون الشعر النبطي بقامته السامقة وهو يضحك ويقول لي : ألم أقل لكم إن أي شعر هو أوضح إنعكاس لثقافة وبيئة وحياة قائليه ؟!! ... وقد إستمعت خلال سني العقد الأخير لمئات قصائد الشعر النبطي فوجدت موضوع معظمها الأساس هو الفخر. فالشاعر صاحب القصيدة يقول لنا وللدنيا أنه وعشيرته هم الأشجع والأروع والأقوي والأجرأ والأكرم والأعلم والأفطن والأبدع والأشعر ... وقد توجد (أحيانا) مواضيع أخري جانبية ؛ ولكن يبقي المحور هو الفخر والتعالي وتفخيم وتعظيم الذات والعشيرة ؛ وهى مواضيع جد ضيقة مقارنة بمواضيع شعراء الإنسانية العظام ( أمثال : شكسبير وبوشكين وبودلير ورامبو وبايرون وشيللي وكيتس ووردذوورث وغوته وشيللر وهايني وريلكة وإيلوار وغارسيا لوركا وبابلو نيرودا وعشرات غيرهم). منذ أيام دعت جهة ما فى دبي شاعرا من شعراء الشعر النبطي السعوديين للمشاركة فى مسابقة للشعر النبطي. ويبدو أن أحد شعراء الشعر النبطي الإماراتيين مس أو عرض بشيء سعودي ؛ وإذا بالشاعر السعودي ينبري له وبرتجل قصيدة مطولة مما يسمي بالشعر النبطي جاءت عامرة وطافحة بالسب والتجريح والتحقير للإمارات وبنيها والفخر والتعالي بالسعودية. وذخرت القصيدة بما يسميه المصريون فى عاميتهم (المفهومة للكل على خلاف العاميات العربية الأخري) بأقذع الردح والمعايرة والقذف ... إذ عمرت القصيدة بأشياء مثل إتهام الإماراتيين يتنظيم الدعارة وحياة الليل وغسيل الأموال وما لذ وطاب من سخام الكلام !!! وجاري ذلك الردح مدح للذات السعودية كان (كعادة الفخر العربي) متجاوزا حدود العقل والمعقول ... ورغم أن الجهة المنظمة لهذا المهرجان الأدبي (!!!) قطعت الكهرباء عن ميكروفون الشاعر (!!!) السعودي ؛ إلا أنه أكمل إرتجاله لمعلقة الردح مفتخرا بالسعودية ومجرحا للإمارات معتمدا على صوته الجهوري . كنت طيلة متابعتي لهذه المهزلة أكاد أري عباس العقاد يقول لي : ألم أقل لكم أن الشعر مرآة أية ثقافة وأية بيئة وأية حياة ؟! ... وأظن أنني كنت كمن يهمس لكائن أثيري لا يراه أحد سواي : صدقت يا أستاذ الأساتذة ... صدقت وأصبت .
----------------------------------
الصورة : برنامج مباشر في تلفزيون ابوظبي عن أشهر مسابقة للشعر النبطي
----------------------------------
الصورة : برنامج مباشر في تلفزيون ابوظبي عن أشهر مسابقة للشعر النبطي