في ذلك المساء من عام 2017 على العشاء طرح وزير الدفاع الإسرائيلي، آنذاك، أفيغدور ليبرمان عليّ السفر معا إلى موسكو للقاء وزير الخارجية الروسي لافروف. أظهرتُ انشغالا بالطعام وقلت: "أخشى أن يغتالوني"! وكانت أخبار اغتيالات المعارضين الروس تتردد في الإعلام العالمي، فرد باستنكار ودهشة: "يغتالونك وأنت معي"؟! لم أعلق؛ وانتقلنا إلى مواضيع أخرى. في مساء اليوم التالي زارني في الفندق وعلى العشاء أيضا، أعاد ليبرمان طرح موضوع لقاء لافروف بقوله: "يمكننا ترتيب لقائكما في دولة أخرى". بجدية هذه المرة قلت: "صرح لافروف في عام 2012، أنه لا يريد للأكثرية السُنية أن تصل للحكم في سورية، وأنا سُني، وليس لدي رغبة بالمطلق أن أعمل لدى نظام بشار الأسد. ولو أردت لكان لي ذلك قبل الثورة، فمنصب رئيس حكومة أسد قيمته أرخص عليّ من فاعليته"! فأجابني: "لم تُبقِ لي قولا". كمارفضت قبل عام مشورة شخصية خليجية بلقاء الروس للسبب ذاته!
ليس أسد الأب ولا الولد من أنشأ علاقة سورية بروسيا، إنما أنشأها الرئيس المنتخب شكري القوتلي مع السوفييت 1957 رداً على محاولة الانقلاب التي صرح خالد العظم أن السفارة الأمريكية في دمشق دبّرتها لربط سورية بحلف بغداد، وإن كنت أعتقد أن أمريكا دفعت سورية دفعا لتكون في "محور الشرّ" الذي لا مصلحة للسوريين مطلقا أن يحشروا وتكون نهايتهم فيه.
يورد المحللون السياسيون أسبابا عدة للتدخل الروسي الأخير في سورية، أهمها: رغبة بوتين بإعادة تأسيس روسيا على المسرح العالمي كلاعب دولي ينافس أمريكا، ويردع الغرب عن تغيير نظام شرق أوسطي آخر بنظام مماهٍ له، كما حدث في ليبيا؛ ورغبته بحماية الإرث السوفييتي القديم، موطئ القدم على المتوسط، لذلك تريد روسيا أن تكون حاضرة لتأمين مصالحها عندما يتقرر مصير سورية النهائي؛ والبعض اعتبرها تقود حربا مقدسة لحماية أتباع المسيحية العرب من مواطنيهم المسلمين!
وقفت روسيا ضد الثورة السورية واستخدمت الفيتو في مجلس الأمن؛ مع أن المحور الغربي لجأ أكثر من مرة إلى التدخل في الصراعات دون التفات إلى الفيتو، لكنّ أمريكا قررت الأخذ بقرارات مجلس الأمن بشأن سورية، وهذا ما أعطى بشار أسد ضمانات بالبقاء ورخصة دولية في القتل والتدمير فارتفع عدّاد القتل من عشرات يوميا نتيجة استخدام البنادق إلى مئات بعدما بدأ يستخدم القصف بأنواع الأسلحة المتوفرة لديه إلى أن وصل إلى القصف الكيماوي في آب 2013.
شنت روسيا أولى غاراتها الجوية في سوريا في 30 سبتمبر 2015، بعد 36 ساعة من اجتماع نادر بين الرئيسين باراك أوباما وفلاديمير بوتين.
نعتقد أن سبب ذلك شعور الولايات المتحدة بأن مصالحها بدأت تتخلخل باستفرادها بالعمل على الساحة السورية لنحو أربع سنوات، لذلك تركت مساحة كافية ليدخل الروس منها عسكريا إلى الأراضي السورية، وعدم تركهم مكتفين بالدور السياسي وليتكامل دور الدولتين معا في سورية للآن. انصاعت روسيا. وبوتين في لقاء متلفز قال متفاخرا: "أطلقنا أسلحة دقيقة التوجيه من بحر قزوين بمدى 1500 كم وضربنا جميع الأهداف، الوضع جيد لصناعاتنا العسكرية ومهارات أفراد جيشنا قوية"!
منذ بداية القرن الماضي كان ولا يزال الشاغل الأساسي للروس أن يكون لديهم جيش قوي يشبه الجيش الأمريكي ويضاهيه إدارة وتقنيات حديثة، لذلك وفّرت أوكرانيا وسوريا لبوتين فرصة عظيمة لعرض بعض أحدث معداته وأكثرها تقدما. ففي أوكرانيا، أغلقت طائرات التجسس المتطورة ومعدات الحرب الإلكترونية الاتصالات تماماً على القوات الأوكرانية، بينما تم إرسال مركبات استخباراتية روسية متطورة إلى سوريا للاستفادة من اتصالات الفصائل في تعزيز هجوم ميليشيا أسد عليها، وكانت سوريا أيضا فرصة لتدريب الجيش الروسي على استخدام الطائرات الحديثة (إس يو 34) في بيئات مختلفة! وبذلك استعاد بوتين ثقة الشعب الروسي بجيشه، نحو 70% من الروس أيدوا حربه في سورية! بعد مظاهرات سابقة هددت حكمه بسبب انتكاسات كان الجيش الروسي قد تكبدها إثر حوادث عسكرية كثيرة طالت طائرات وغواصات، وسوء أداء مُنيَ به في جورجيا الدولة الصغيرة 2008. كما أن نجاح تجارب أسلحتها على الشعب السوري أعاد روسيا إلى سوق السلاح!
مع أن روسيا خصصت 81 مليار دولار للدفاع عام 2015، وهي أكبر ميزانية للجيش منذ نهاية الحرب الباردة، معتبرة أن تدخلها في سوريا سبب للإبقاء على زيادة الإنفاق. إلا أن الالتزامات الخارجية هذه والتضخم المرتفع وانخفاض عائدات النفط بسبب انخفاض سعره لسبع سنين متتالية أدت لزيادة الضغط على نظام مرهق بالفعل؛ وروسيا وإن كانت تلعب دور إمبراطورية لكنها ليست كذلك؛ ولندع الأرقام تحدثنا: الناتج المحلي الإجمالي لروسيا أكبر بقليل من الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا التي لا تمتلك موارد باطنية كما روسيا، وعدد سكانها ثلث سكان روسيا. أيضا الميزانية العسكرية لروسيا أقل من عُشر الميزانية الأمريكية، وهي خُمس ميزانية الصين، وأقل من ميزانية اليابان!
روسيا وإيران
دفعت الأزمة السورية التعاون الروسي الإيراني إلى تطورات جديدة. ولديهما نقاط كثيرة تجمعهما، فكلاهما يسعى لتوسيع قوته على حساب المنطقة؛ فبوتين يروّج نفسه قائدا عالميا ومحاربا مقدّسا يحارب الإرهاب في سوريا، ومثله يفعل خامنئي وإن كان لسبب آخر، نبي الشيعة وقائد حروب الثأر! وكلا البلدين يدّعيان أنهما قوى "علمانية" في مواجهة محتملة مع الإسلاميين السُنة: فالاثنان يخشيان عودة طالبان إلى أفغانستان، ويخشيان ثورات سنية في أطراف بلادهما، شرق القوقاز بالنسبة لروسيا، وإيران مهددة بثورات في مناطق حدودية عدة؛ والاثنان يعتبران بقاء الأسد بقاءً لسلطتهما: فإيران تعتبر خسارة سورية ستصيب حلفها بالانهيار، فيما يعتبر بوتين أن دعم أسد هو دعم لقبضته ذاتها على السلطة في روسيا، وكلا البلدين يعتبران نفسيهما قوى عظمى!؟ بوتين وإن تميزت سياسته في الشرق الأوسط بالبراغماتية الساخرة، التقارب مع الخليج وتركيا، لكن واضح أنه يفضل المحور الشيعي لأنه يرى في إيران "قوة معادية للغرب" لذلك لم يعتبر حزب الله الشيعي إرهابيا، فيما صنف الإخوان المسلمين منظمة إرهابية! أما اقتصاديا، فترى مؤسسات الصناعات العسكرية الروسية أن إيران سوق رابحة. وأيضا كان الطرفان ناقشا، قبل بضع سنوات، فكرة انضمام طهران إلى الاتحاد الجمركي الذي تقوده موسكو، لهدف موازنة الاتحاد الأوروبي.
روسيا لا تحل المشكلات السياسية لكنها تخدرها مؤقتا
تدخلت روسيا عسكريا في سورية على طريقتها في الشيشان، متبعة سياسة الأرض المحروقة، مترافقة مع نشاط دبلوماسي روسي مكثف قابله انكماش فجائي في الدور الأمريكي! يبدو أن لعبة أوباما مع أسد انتهت وحصل على ما أراد منه، بقيت عمليات تنظيف فوضى المعارضة العسكرية والسياسية، ومن أجدر من روسيا الحكم الدكتاتوري الذي لا يحاسبه أحد من أن يقوم بذلك!؟ تدخلت روسيا مع حزمة تعهدات اتضح أنها لذرّ الرماد في عيون الملايين ممن ستتدمر مدنهم ويفقدون أحباءهم! أولها إيصال المساعدات الإغاثية العاجلة للمناطق المنكوبة، وتاليها كتابة دستور جديد لسورية وقيادة عملية انتقال سياسية تؤدي إلى إيقاف الحرب وإحلال الاستقرار. لكنها تنصلت من مسؤولياتها ودمرت حلب أهم مدن الشرق، وفي ليلة هجومها على معرة النعمان قصفت المدينة بـأربعمئة صاروخ خلال تسع ساعات لم يتوقع أهلها أنهم سيخرجون منها أحياء! وفرّغت المنطقة من سكانها على وقع تصريحات سياسييهم وإعلامهم بأنهم "يطاردون مقاتلين راديكاليين وقطاع طرق مجرمين"! كلام خارج السياسة، فهل يعقل أن تضم دولة صغيرة أم كبيرة اثني عشر مليون مجرم وإرهابي؟!
إن سياسة الاحتمال الواحد التي تنتهجها روسيا في سورية "لن نسمح للأكثرية السُنية بحكم سورية" لن تستطيع تحمّل نتائجها، فواضح أنها لم تسمح لا للسُنة ولا لأقلية أخرى، بمن فيهم العلويون، بتقديم بديل عن عائلة أسد التي تحكم سورية برعاية من الأجانب! وأبقت بشار أسد رغم أنهم يعاملونه بخزي وإهانة له ولمنصبه! أما أسد فإن نجا مؤقتا على حساب دماء ملايين السوريين وخراب دولتهم لكنه لم يفز، وإن ساعدته روسيا في القضاء على المعارضة العسكرية والسياسية، وتصرفت عكس تعهداته ولم تسمح بأي فرصة لتحقيق العدالة الانتقالية التي هي العامل الرئيسي لحل دائم في أي صراع، وأظهرته منتصرا وغير مقيد بأي التزامات، محلية أو دولية، لكنه نصر مؤقت لمبدأ الغلبة، حتى لو رافقه اعتراف من السوريين بالأمر الواقع، فالاعتراف بالأمر الواقع لا يعني القبول به. بل الاعتراف بالأمر الواقع مقدمة لتغييره.
كما أنه من الوهم أن تعتقد روسيا أنها قادرة على تقرير الوضع النهائي لسوريا، فالأميركي بما ينطوي عليه من وحدة القوتين العسكرية والاقتصادية لن يسمح بذلك، ودوره لا بد آت.
وأخيرا ودائما، الحل باعتماد السوريين على أنفسهم، وهم رغم ما تعرضوا له قادرون على صنع جبهتهم المعارضة التي تمثلهم حقا، والتي ستفرض نفسها على اللاعبين الدوليين عاجلاً أم آجلاً؛ إن حجم التضحيات التي قدموها، نحو مليوني شهيد وسبعة عشر مليون لاجئ، لا يسمح لأية قوة أن تفرض عليهم منطق الغلبة طويلا. صحيح أنه لا شيء لدى السوريين يغري أو يخيف القوى العظمى لتحسن حالنا، وصحيح أن أي قوة عسكرية كبرى تستطيع أن تحتل سورية بسهولة، لكن المؤكد أنها لن تستطيع تحمل كلفة الإقامة فيها. فسورية دولة فقيرة الموارد الطبيعية، واعتمادها الحقيقي على مهارات سكانها، والروس وإن هم قوة عسكرية تدميرية، لكنهم قوة اقتصادية ضعيفة لا تتحمل كلفة إعادة بناء سورية ولا تحسين الوضع البائس فيها، فلا وقود ولا كهرباء مع أن الروس قدرة نفطية كبيرة وقوة صناعية مهمة!
يبدو أن الروس بدؤوا يتساءلون عن كيفية الحفاظ على مكتسبات تدخلهم، بعدما تبين أن غرقهم في المستنقع السوري بات وشيكا مع حتمية انهيار بقايا سلطة بشار أسد، مما سيضطرهم أن يصبحوا سلطة انتداب على بلاد لن تسدد ولو جزءا من فاتورته. إنهم حقيقة في سباق مع الزمن. ويدعم رأينا هذا خروج لافروف الأسبوع الماضي يهدد "بانهيار ما أسماه الدولة السورية"! فهل فهم الروس أن لا أمل لهم بعيدا عن السياسة وأن عليهم البحث عن سلطة بديلة تتمكن بمساعدتهم من خلق عملية انتقال سياسي تحقق نوعا من الشرعية والعدالة بدون عائلة أسد؟ سلطة يَأمن لها رجال الأعمال والنخب السورية ويستطيعون المشاركة بها، وتمكنهم من جذب السوريين للعمل معا في الحكم والإدارة والبناء، فهذه وحدها القادرة على إعطاء ضمانة بالإعمار والاستقرار. أم أنها مجرد رسالة يرسلونها لرعاة عائلة أسد من الأجانب يستعجلونهم الإنقاذ؟!
* حدثني أحد الجنرالات العسكريين الإسرائيليين ساخرا: "الروس يبيعون السلاح للأسد والأسد يقدمه لحزب الله اللبناني ونحن نقوم بقصفه وتدميره. هل لديك تفسير لهذه المسخرة"! إنها الفوضى الخلاقة أيها السادة!
------------
اورينت نت
ليس أسد الأب ولا الولد من أنشأ علاقة سورية بروسيا، إنما أنشأها الرئيس المنتخب شكري القوتلي مع السوفييت 1957 رداً على محاولة الانقلاب التي صرح خالد العظم أن السفارة الأمريكية في دمشق دبّرتها لربط سورية بحلف بغداد، وإن كنت أعتقد أن أمريكا دفعت سورية دفعا لتكون في "محور الشرّ" الذي لا مصلحة للسوريين مطلقا أن يحشروا وتكون نهايتهم فيه.
يورد المحللون السياسيون أسبابا عدة للتدخل الروسي الأخير في سورية، أهمها: رغبة بوتين بإعادة تأسيس روسيا على المسرح العالمي كلاعب دولي ينافس أمريكا، ويردع الغرب عن تغيير نظام شرق أوسطي آخر بنظام مماهٍ له، كما حدث في ليبيا؛ ورغبته بحماية الإرث السوفييتي القديم، موطئ القدم على المتوسط، لذلك تريد روسيا أن تكون حاضرة لتأمين مصالحها عندما يتقرر مصير سورية النهائي؛ والبعض اعتبرها تقود حربا مقدسة لحماية أتباع المسيحية العرب من مواطنيهم المسلمين!
وقفت روسيا ضد الثورة السورية واستخدمت الفيتو في مجلس الأمن؛ مع أن المحور الغربي لجأ أكثر من مرة إلى التدخل في الصراعات دون التفات إلى الفيتو، لكنّ أمريكا قررت الأخذ بقرارات مجلس الأمن بشأن سورية، وهذا ما أعطى بشار أسد ضمانات بالبقاء ورخصة دولية في القتل والتدمير فارتفع عدّاد القتل من عشرات يوميا نتيجة استخدام البنادق إلى مئات بعدما بدأ يستخدم القصف بأنواع الأسلحة المتوفرة لديه إلى أن وصل إلى القصف الكيماوي في آب 2013.
شنت روسيا أولى غاراتها الجوية في سوريا في 30 سبتمبر 2015، بعد 36 ساعة من اجتماع نادر بين الرئيسين باراك أوباما وفلاديمير بوتين.
نعتقد أن سبب ذلك شعور الولايات المتحدة بأن مصالحها بدأت تتخلخل باستفرادها بالعمل على الساحة السورية لنحو أربع سنوات، لذلك تركت مساحة كافية ليدخل الروس منها عسكريا إلى الأراضي السورية، وعدم تركهم مكتفين بالدور السياسي وليتكامل دور الدولتين معا في سورية للآن. انصاعت روسيا. وبوتين في لقاء متلفز قال متفاخرا: "أطلقنا أسلحة دقيقة التوجيه من بحر قزوين بمدى 1500 كم وضربنا جميع الأهداف، الوضع جيد لصناعاتنا العسكرية ومهارات أفراد جيشنا قوية"!
منذ بداية القرن الماضي كان ولا يزال الشاغل الأساسي للروس أن يكون لديهم جيش قوي يشبه الجيش الأمريكي ويضاهيه إدارة وتقنيات حديثة، لذلك وفّرت أوكرانيا وسوريا لبوتين فرصة عظيمة لعرض بعض أحدث معداته وأكثرها تقدما. ففي أوكرانيا، أغلقت طائرات التجسس المتطورة ومعدات الحرب الإلكترونية الاتصالات تماماً على القوات الأوكرانية، بينما تم إرسال مركبات استخباراتية روسية متطورة إلى سوريا للاستفادة من اتصالات الفصائل في تعزيز هجوم ميليشيا أسد عليها، وكانت سوريا أيضا فرصة لتدريب الجيش الروسي على استخدام الطائرات الحديثة (إس يو 34) في بيئات مختلفة! وبذلك استعاد بوتين ثقة الشعب الروسي بجيشه، نحو 70% من الروس أيدوا حربه في سورية! بعد مظاهرات سابقة هددت حكمه بسبب انتكاسات كان الجيش الروسي قد تكبدها إثر حوادث عسكرية كثيرة طالت طائرات وغواصات، وسوء أداء مُنيَ به في جورجيا الدولة الصغيرة 2008. كما أن نجاح تجارب أسلحتها على الشعب السوري أعاد روسيا إلى سوق السلاح!
مع أن روسيا خصصت 81 مليار دولار للدفاع عام 2015، وهي أكبر ميزانية للجيش منذ نهاية الحرب الباردة، معتبرة أن تدخلها في سوريا سبب للإبقاء على زيادة الإنفاق. إلا أن الالتزامات الخارجية هذه والتضخم المرتفع وانخفاض عائدات النفط بسبب انخفاض سعره لسبع سنين متتالية أدت لزيادة الضغط على نظام مرهق بالفعل؛ وروسيا وإن كانت تلعب دور إمبراطورية لكنها ليست كذلك؛ ولندع الأرقام تحدثنا: الناتج المحلي الإجمالي لروسيا أكبر بقليل من الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا التي لا تمتلك موارد باطنية كما روسيا، وعدد سكانها ثلث سكان روسيا. أيضا الميزانية العسكرية لروسيا أقل من عُشر الميزانية الأمريكية، وهي خُمس ميزانية الصين، وأقل من ميزانية اليابان!
روسيا وإيران
دفعت الأزمة السورية التعاون الروسي الإيراني إلى تطورات جديدة. ولديهما نقاط كثيرة تجمعهما، فكلاهما يسعى لتوسيع قوته على حساب المنطقة؛ فبوتين يروّج نفسه قائدا عالميا ومحاربا مقدّسا يحارب الإرهاب في سوريا، ومثله يفعل خامنئي وإن كان لسبب آخر، نبي الشيعة وقائد حروب الثأر! وكلا البلدين يدّعيان أنهما قوى "علمانية" في مواجهة محتملة مع الإسلاميين السُنة: فالاثنان يخشيان عودة طالبان إلى أفغانستان، ويخشيان ثورات سنية في أطراف بلادهما، شرق القوقاز بالنسبة لروسيا، وإيران مهددة بثورات في مناطق حدودية عدة؛ والاثنان يعتبران بقاء الأسد بقاءً لسلطتهما: فإيران تعتبر خسارة سورية ستصيب حلفها بالانهيار، فيما يعتبر بوتين أن دعم أسد هو دعم لقبضته ذاتها على السلطة في روسيا، وكلا البلدين يعتبران نفسيهما قوى عظمى!؟ بوتين وإن تميزت سياسته في الشرق الأوسط بالبراغماتية الساخرة، التقارب مع الخليج وتركيا، لكن واضح أنه يفضل المحور الشيعي لأنه يرى في إيران "قوة معادية للغرب" لذلك لم يعتبر حزب الله الشيعي إرهابيا، فيما صنف الإخوان المسلمين منظمة إرهابية! أما اقتصاديا، فترى مؤسسات الصناعات العسكرية الروسية أن إيران سوق رابحة. وأيضا كان الطرفان ناقشا، قبل بضع سنوات، فكرة انضمام طهران إلى الاتحاد الجمركي الذي تقوده موسكو، لهدف موازنة الاتحاد الأوروبي.
روسيا لا تحل المشكلات السياسية لكنها تخدرها مؤقتا
تدخلت روسيا عسكريا في سورية على طريقتها في الشيشان، متبعة سياسة الأرض المحروقة، مترافقة مع نشاط دبلوماسي روسي مكثف قابله انكماش فجائي في الدور الأمريكي! يبدو أن لعبة أوباما مع أسد انتهت وحصل على ما أراد منه، بقيت عمليات تنظيف فوضى المعارضة العسكرية والسياسية، ومن أجدر من روسيا الحكم الدكتاتوري الذي لا يحاسبه أحد من أن يقوم بذلك!؟ تدخلت روسيا مع حزمة تعهدات اتضح أنها لذرّ الرماد في عيون الملايين ممن ستتدمر مدنهم ويفقدون أحباءهم! أولها إيصال المساعدات الإغاثية العاجلة للمناطق المنكوبة، وتاليها كتابة دستور جديد لسورية وقيادة عملية انتقال سياسية تؤدي إلى إيقاف الحرب وإحلال الاستقرار. لكنها تنصلت من مسؤولياتها ودمرت حلب أهم مدن الشرق، وفي ليلة هجومها على معرة النعمان قصفت المدينة بـأربعمئة صاروخ خلال تسع ساعات لم يتوقع أهلها أنهم سيخرجون منها أحياء! وفرّغت المنطقة من سكانها على وقع تصريحات سياسييهم وإعلامهم بأنهم "يطاردون مقاتلين راديكاليين وقطاع طرق مجرمين"! كلام خارج السياسة، فهل يعقل أن تضم دولة صغيرة أم كبيرة اثني عشر مليون مجرم وإرهابي؟!
إن سياسة الاحتمال الواحد التي تنتهجها روسيا في سورية "لن نسمح للأكثرية السُنية بحكم سورية" لن تستطيع تحمّل نتائجها، فواضح أنها لم تسمح لا للسُنة ولا لأقلية أخرى، بمن فيهم العلويون، بتقديم بديل عن عائلة أسد التي تحكم سورية برعاية من الأجانب! وأبقت بشار أسد رغم أنهم يعاملونه بخزي وإهانة له ولمنصبه! أما أسد فإن نجا مؤقتا على حساب دماء ملايين السوريين وخراب دولتهم لكنه لم يفز، وإن ساعدته روسيا في القضاء على المعارضة العسكرية والسياسية، وتصرفت عكس تعهداته ولم تسمح بأي فرصة لتحقيق العدالة الانتقالية التي هي العامل الرئيسي لحل دائم في أي صراع، وأظهرته منتصرا وغير مقيد بأي التزامات، محلية أو دولية، لكنه نصر مؤقت لمبدأ الغلبة، حتى لو رافقه اعتراف من السوريين بالأمر الواقع، فالاعتراف بالأمر الواقع لا يعني القبول به. بل الاعتراف بالأمر الواقع مقدمة لتغييره.
كما أنه من الوهم أن تعتقد روسيا أنها قادرة على تقرير الوضع النهائي لسوريا، فالأميركي بما ينطوي عليه من وحدة القوتين العسكرية والاقتصادية لن يسمح بذلك، ودوره لا بد آت.
وأخيرا ودائما، الحل باعتماد السوريين على أنفسهم، وهم رغم ما تعرضوا له قادرون على صنع جبهتهم المعارضة التي تمثلهم حقا، والتي ستفرض نفسها على اللاعبين الدوليين عاجلاً أم آجلاً؛ إن حجم التضحيات التي قدموها، نحو مليوني شهيد وسبعة عشر مليون لاجئ، لا يسمح لأية قوة أن تفرض عليهم منطق الغلبة طويلا. صحيح أنه لا شيء لدى السوريين يغري أو يخيف القوى العظمى لتحسن حالنا، وصحيح أن أي قوة عسكرية كبرى تستطيع أن تحتل سورية بسهولة، لكن المؤكد أنها لن تستطيع تحمل كلفة الإقامة فيها. فسورية دولة فقيرة الموارد الطبيعية، واعتمادها الحقيقي على مهارات سكانها، والروس وإن هم قوة عسكرية تدميرية، لكنهم قوة اقتصادية ضعيفة لا تتحمل كلفة إعادة بناء سورية ولا تحسين الوضع البائس فيها، فلا وقود ولا كهرباء مع أن الروس قدرة نفطية كبيرة وقوة صناعية مهمة!
يبدو أن الروس بدؤوا يتساءلون عن كيفية الحفاظ على مكتسبات تدخلهم، بعدما تبين أن غرقهم في المستنقع السوري بات وشيكا مع حتمية انهيار بقايا سلطة بشار أسد، مما سيضطرهم أن يصبحوا سلطة انتداب على بلاد لن تسدد ولو جزءا من فاتورته. إنهم حقيقة في سباق مع الزمن. ويدعم رأينا هذا خروج لافروف الأسبوع الماضي يهدد "بانهيار ما أسماه الدولة السورية"! فهل فهم الروس أن لا أمل لهم بعيدا عن السياسة وأن عليهم البحث عن سلطة بديلة تتمكن بمساعدتهم من خلق عملية انتقال سياسي تحقق نوعا من الشرعية والعدالة بدون عائلة أسد؟ سلطة يَأمن لها رجال الأعمال والنخب السورية ويستطيعون المشاركة بها، وتمكنهم من جذب السوريين للعمل معا في الحكم والإدارة والبناء، فهذه وحدها القادرة على إعطاء ضمانة بالإعمار والاستقرار. أم أنها مجرد رسالة يرسلونها لرعاة عائلة أسد من الأجانب يستعجلونهم الإنقاذ؟!
* حدثني أحد الجنرالات العسكريين الإسرائيليين ساخرا: "الروس يبيعون السلاح للأسد والأسد يقدمه لحزب الله اللبناني ونحن نقوم بقصفه وتدميره. هل لديك تفسير لهذه المسخرة"! إنها الفوضى الخلاقة أيها السادة!
------------
اورينت نت