الغوطة الشرقية منطقة يسكنها اليوم نحو مليون شخص من أصل أكثر من مليونين قبل الثورة، تحولت خلال هذه الشهور الثلاث الأخير من بؤرة انطلاق للثورة المسلحة باتجاه العاصمة إلى منطقة محاصرة من كل الجهات بفضل الدعم الذي تلقاه النظام من قوى دولية متطرفة مثل روسيا وإيران، ومليشيات لبنانية وعراقية مرتبطة بالدولة الأخيرة. خلال ذلك كنت شاهدًا بنفسي على نقص فادح في السلاح وفي الذخيرة، وحتى في إمداد المقاتلين بالطعام. كثير من المقاتلين على الجبهات ينالون وجبتين في اليوم بالكاد، ولو لم يكونوا محليين، يدافعون عن بلداتهم وأهاليهم، ويعيشون مما يعيش ذووهم، لكان الوضع أسوأ بما لا يقاس.
تتعرض المدن والبلدات التي تجولت وعشت فيها خلال هذه الشهور إلى قصف يومي عشوائي، بالطيران والمدافع وراجمات الصورايخ، ويسقط كل يوم ضحايا مدنيون في أكثرهم. أقمت شهرًا في موقع للدفاع المدني كنت أرى فيه كل من يسقطون قتلى، كان بينهم من تحولوا إلى أشلاء لا تتميز، ومنهم أطفال، وبين الضحايا جنين في الشهر السادس أسقطته أمه المذعورة من القصف القريب من منزلها. لم يمرّ يوم خلال ذاك الشهر دون قتلى، اثنين أو ثلاثة عادة، لكن 9 في أحد الأيام و28 في يوم آخر منه… و11 في يوم ثالث. العدد يتصاعد هذه الفترة، وقلما يتدنى عن نصف دزينة في اليوم، وبينهم مرة أخرى مؤخرًا جنين ضئيل مكتمل الملامح، قيل إنه في الشهر السادس أيضًا، أسقطته أم مذعورة أخرى.
وغير المدنيين يسقط يوميًا العديد من المقاتلين الشبّان بسلاح قوة غاشمة متفوقة عسكريًا، وتحظى بدعم متفوق بدوره.
المنطقة كلها تعيش بلا كهرباء منذ 8 شهور. وهو ما اقتضى الاعتماد على مولّدات كهربائية كثيرة الأعطال ومستهلِكة بشدة لوقود يزداد ندرةً بفعل الحصار المحكم، وهو ما يحتّم الاستغناء عن التبريد وتخزين الطعام في صيف المنطقة اللاهب. اتصالات الهاتف الخليوي والأرضي مقطوعة بدورها. وفي الأسابيع الأخيرة يشحّ الطحين أيضًا. انقضى نحو أسبوعين لم نكد نحصل خلالها على خبز، ونتدبر أمرنا بالبرغل والرزّ، وغالبا بشراء طعام جاهز من مطاعم قليلة باقية.
من جهتي صرت أكتفي بوجبتين. لا بأس مؤقتًا، فقد ساعد ذلك على خفض وزني نحو 10 كيلوغرامات.
نتدبر أمر الاتصالات عبر أجهزة نت فضائي يجري تهريبها بصعوبة إلى المنطقة، وتستخدم لتوصيل المعلومات والأخبار إلى السوريين الآخرين، وإلى العالم. وهو ما ليس متاحًا إلا لنسبة ضئيلة من السكان. قبل أيام قليلة سقطت قذيفة في مكان قريب منا، فكان أن تعطل الاتصال بالانترنت لبعض الوقت. كان يمكن أن يحصل الأسوأ وتسقط القذيفة فوق سطحنا فتدمر جهود شهرين لتأمين الجهاز. أما الأسوأ بإطلاق فيحصل كل يوم لعدد متزايد من السكان. يُدفنون على عجل، يواكبهم العدد الأقل من مشيّعين متعجلين، خوفا من قذيفة جديدة تقع فوق الرؤوس. سبق لمثل ذلك أن وقع غير مرة. وفي حالة كنت شاهدًا عليها، دفن الشهيد بعد أقل من ساعة على سقوطه، ودون أن تُلقي زوجته وأطفاله النظرة الأخيرة عليه. كان جسده محطمًا وقد ضاعت أجزاء منه، وقرر كبار الأسرة ألا يكون هذا آخر مشهد يبقى في ذاكرة الزوجة والأولاد عن فقيدهم.
نحن، أنا وعدد من الأصدقاء والصديقات، لا نزال أحياء. في دمشق كنا مهدّدين بالاعتقال وبتعذيب شنيع قد لا ننجو منه. هنا نحن آمنون من ذلك، لكن ليس من قذيفة تقع فوق رؤوسنا في أي حين.
إننا شركاء لنحو مليون من البشر في انفلات مصيرنا بالكامل من بين أيدينا، وانفتاح هاوية الاحتمالات الأسوأ. في كل مرة أبلغ فيها عتبة المسكن عائدًا من الخارج أشعر بالنجاة من الموت بقذيفة أو شظية. لكن يبقى واردًا أن يأتي الموت من النافذة أو الباب.
اليوم، الجمعة 28 حزيران، سقطت ثلاث قذائف بين الثانية عشرة والثانية عشرة والنصف ظهرًا في مكان قريب منا، موعد قريب من صلاة الجمعة لدى المسلمين المؤمنين. كان من أكثر ما لفت نظري في أيامي الأولى هنا أن الأذان لصلاة الجمعة رُفع في أحد المساجد في نحو التاسعة والنصف صباحًا، أي قبل الموعد المعتاد بثلاث ساعات، وتلته مساجد أخرى بفارق نحو نصف ساعة بين الواحد والتالي. حين استعلمت عن الأمر تلقيت الشرح المدهش التالي: إن الغرض من ذلك تجنب اجتماع أكبر قدر من المصلين في مساجد المدينة في موعد محدد، وعدم توفير فرصة للنظام كي يوقع العدد الأكبر من الضحايا. سبق أن فعل. وفي المدينة التي كنت أقيم فيها خمسة مساجد مدمرة.
مؤلم أكثر أن أكثر من ثلثي الأطفال هنا لا يلتحقون بالمدارس، خوفًا عليهم من قبل أهاليهم أو لعدم توفّر مدارس قريبة، وأن المدارس العاملة القليلة تعمل في أقبية تحت الأرض تجنّبًا للقصف، لكنها بهذا تُجنّب الأطفال اللعب والجري في الهواء الطلق.
تحت الأرض المشافي كلها أيضًا.
يخوض الناس هنا كفاحهم باستماتة لإدراكهم أن مذبحة رهيبة تنتظرهم إذا نجح النظام في السيطرة على المنطقة مجددًا. من لن يُقتل فورًا سيُعتقل ويلقى تعذيبًا متطرفًا في وحشيته. خيارات السكان تنحصر بين الموت وهم يقاومون العدوان الفاشي لنظام مجرم وبين الموت على يد هذا النظام نفسه بأبشع الصور إن توقفت مقاومتهم. تختلج نفوس الناس، وتختلج نفسي من الأعماق، أمام فكرة أن يحكمنا هذا النظام نفسه مرة أخرى.
خلال هذا الوقت الطويل من عمر الثورة السورية، التي مرت بطور سلمي دام أكثر من نصف عام، كانت محصلة سياسات القوى النافذة في العالم ترك السوريين يُقتلون بمعدل متصاعد، وطمأنة النظام إلى أنه يستطيع أن يفعل كل شيء بحصانة تامة. يذكّر الأمر بتصرف الديمقراطيات الغربية حيال هتلر قبيل الحرب العالمية الثانية. الوضع الحالي نتيجة مباشرة لامتناع تلك القوى النافذة عن دعم الثائرين السوريين، ليس دون أن تتوقف القوى الداعمة له عن تزويده بالسلاح والمال والرجال، بل وبينما هي تصعّد دعمها وتتدخل علنًا ومباشرة. وأخيرًا، وبعد أن بات العالم كله يعرف أن نظام السلالة الأسدية استخدم أسلحة كيميائية، وهو ما كنت وثّقته بنفسي قبل شهرين، ووثّقه أصدقاء آخرون استنادًا إلى خبرة شخصية حيّة، وبعد أن كان ضمن أن استخدامه لسلاح الطيران والصواريخ بعيدة المدى ضد المدن والأحياء السكينة لن يواجَه بغير أصوات تزداد خفوتًا، بعد هذا كله قررت قوى غربية دعم الثائرين السوريين بأسلحة هدفها لا يتخطى إعادة التوازن الذي كانت سهّلت انقلابه لمصلحة النظام. استعادة التوازن تعني إطالة أمد الصراع السوري من أجل أن يخسر طرفاه معًا، على نحو له سوابق معلومة في تاريخ الديمقراطيات الغربية، في حين أن المطلوب هو ما يضمن إسقاط النظام أو على الأقل إجبار حلفائه على التراجع عن دعم حربه الإجرامية المفتوحة.
ليست هذه السياسة قصيرة النظر فقط، ولن تفضي إلى غير إطالة أمد الصراع فقط، وإنما هي لا إنسانية إلى أقصى حد أيضًا. ليس هناك شرّيران متساويان في سورية على ما تصور وسائل إعلام غربية كثيرة بكل أسف، وعكس ما تقوله تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وإن لم يكن الصراع السوري صراعًا بين شياطين وملائكة. هناك نظام طغيان فاشي قتل نحو 100 ألف من محكوميه الثائرين، وهناك طيف متمرّد عليه متنوع، أسهم طولُ أمد الصراع وقسوته في تشدّد مجموعات منه، وفي إضعاف مقاومة المجتمع السوري للتشدد. كلما تُرك السوريون لمصيرهم كان محتملًا أن يشتدّ ساعد هذه المجموعات المتطرفة ويضعف منطق الاعتدال والعقلانية بين السوريين. ومن خبرة شخصية ميدانية، فإن هذا ما يحصل فعلًا. حين كان يسقط شهداء جدد، أطفال بخاصة، كانت تتّجه نحوي نظرات متفحصة لائمة في هيئة الدفاع المدني، يتساءل أصحابها عن قيمة الكلام الهادئ «العقلاني» الذي أقوله عادة وعن جدواه.
هنا شيء واحد صحيح اليوم من وجهة نظر المصلحة السورية العامة ومن وجهة نظر إنسانية، هي مساعدة السوريين على التخلص من حكم السلالة الأسدية التي تتصرف كأنها مالكة للبلد، وكأن السوريين أقنان عندها. سيكون كل شيء صعبًا في سورية ما بعد الأسدية، لكن من شأن التخلص من المجرم العام أن يحرض تفاعلات أكثر اعتدالًا في المجتمع السوري، ويتيح للسوريين الوقوف في وجه الأكثر تشددًا بينهم. أسوأ من ذلك بما لا يقاس إطالة أمد الصراع، وكلفته البشرية والمادية. أسوأ أيضا التفرج على السوريين وهم يُقتلون بسلاح روسيا، وبأيدي قتلة محليين ولبنانيين وإيرانيين وغيرهم. أسوأ كذلك فرض تسوية لا تعاقب المجرمين، ولا تعالج جديًا أية مشكلة سورية.
يُسمع من سياسيين أميركيين وغربيين أحيانًا أنه لا حل عسكريًا للصراع السوري. لكن أين هو الحل السياسي؟ ومتى قال بشار الأسد بعد نحو 28 شهرًا من الثورة و100 ألف قتيل إنه مستعد فعلًا لمفاوضات جادة مع المعارضة، ولتقاسم السلطة؟ متى توقف يومًا واحدًا عن القتل منذ نحو 850 يومًا؟ الصحيح أنه لا حل سياسيًا إلا بإجبار السفاح على التنحي، الآن وفورًا، ومعه قادة القتل في نظامه. وإذ يعطي هذا الثائرين السوريين شيئًا مهمًا، هو ما طالبوا به منذ البداية بوسائل سلمية، فإنه يدفع إلى تقوية مواقع المعتدلين في صفوفهم، ويفتح الباب لعزل المتطرفين، ولتسوية سورية عادلة، تحتاجها المنطقة ويحتاجها العالم، ويحتاجها السوريون قبل الجميع.
الأصدقاء الأعزاء..
ما كنا لنخاطبكم لولا أن القضية السورية واحدة من كبريات قضايا العالم وأخطرها في العقود الأخيرة. لقد تسببت في اقتلاع نحو ثلث السكان إلى مناطق داخل البلد وخارجه، وهناك مئات ألوف الجرحى والمعوقين، وما قد يصل إلى ربع مليون معتقل يتعرضون لتعذيب فظيع، وتتعرض المعتقلات والأطفال للاغتصاب، على ما وثّقت تقارير أمنستي إنترناشنال وهيومان رايتس ووتش، وهيئات سورية من الأكثر موثوقية، وارتكبت القوات الأسدية مجازر جماعية وثّقت بعضها تقارير للأمم المتحدة. وكل هذا كي يبقى حاكم ورث السلطة دون حق ودون جدارة عن أب استولى على السلطة بالقوة، وحكم البلاد بالدم.
إننا نتطلع إليكم اليوم كقادة للرأي العام في بلدانكم كي تضغطوا على حكوماتكم من أجل اتخاذ موقف صلب ضد القاتل، ومساند لتغيير نظام السلالة الأسدية. هذا هو الشيء الإنساني والتقدمي الوحيد. ليس هناك ما هو أكثر رجعية وفاشية في عالم اليوم من نظام يقتل شعبه ويجلب القتلة من بلدان ومنظمات حليفة له، ويُثير حربًا طائفية، إن كان لا يصعب تفجيرها فربما يكون وقفها مستحيلًا قبل طحن مئات ألوف البشر.
نتطلع إلى دعمكم اليوم، غدًا قد يكون تأخر الوقت.