أذكر أن الأستاذ سعيد فاضل ـ وهو شاب مصري شديد الحماس لثورة 25 يناير المجيدة، ومشارك قوي فيها ـ دعاني أثناء تأجج الثورة إلى أمسية أقامها زملاؤه في حركة 6 أبريل، في ميدان التحرير التاريخي، ضمن الفعاليات الثورية.
وأذكر أيضا أنني سعدت جدا بالدعوة، وحرصت على تلبيتها، خاصة عندما حدثني سعيد عن جرافيتي [رسومات أو أحرف يتم وضعها على مكان عام ظاهر مثل الجدران]، يعتزم زملاؤه في الحركة تنفيذه، تعبيرا عن ثوريتهم وأحلامهم لبلدهم، إلى جانب عرض مسرحي بسيط، على غرار ما يسميه الغربيون "مسرح الشارع" ..
في الموعد المحدد، ذهبت بصحبة الابريلي سعيد ـ كما يحلو لسعيد وصف نفسه بافتخار ـ إلى ميدان التحرير. وفي موقع الجرافيتي، هناك في أحد أركان الميدان الثائر، استقبله أصدقاؤه بترحاب وحماس. تعرفت على بعضهم، وراقني كثيرا ذلك الشلال المتدفق من ثورة الشباب، لولا وفرة من "لاوعي" تألمت لها كثيرا.
المهم، لاحظت أمام الجدارية فريقين من الشباب، انشغل أعضاء الفريق الأول في الرسم والتلوين، بينما الفريق الآخر يحمل لهم أجهزة كمبيوتر محمولة، على شاشتها يوجد نفس الرسم الذي انخرط الفريق الأول في نقله على الجدارية بنهم.
باستفساري عن الأمر، قيل لي أن رسومات الكمبيوتر المحمول والتي يتم نسخها على الجدار، هي لفنان موهوب اسمه كارلوس لاتروف(2)، عادة ما يتولى الرسم، بينما يقتصر وهو ما رأيته بنفسي دور الفنانين التشكيليين ـ هكذا يسمي شباب الرسامين أنفسهم ـ، على نسخها بصورة حرفية، لكن بأحجام تلاءم الجدار!
فور انتهاء الشباب من جداريتهم الثورية بألوانها الزاهية، رأيتهم يمطرونها بكاميرات الفيديو والمحمول وغيرها من مستحدثات العولمة، ثم بدأ العرض المسرحي، ولفتني كثيرا أنه مشحون بمرارة الشكوى من همجية دولة العسكر، أو بعبارة أدق من فساد مبارك وعصابته، وما أورثانا إياه من آلام، أقسم الشباب على محوها. الممثلون أفاضوا في وصف المشكلات والاحتياجات، وتغنوا بهما على نحو جميل وحماسي. لفتني أيضا أن "الدُف" كان يُستخدم بوفرة، إلى جانب "الدي جيه" أحيانا، خاصة في الأغنيات الثورية، وفي طليعتها أغاني "الألتراس" شديدة البهجة.
أذكر أيضا أن أحد الشباب سألني عن رأيي في العرض، فأخذت أحدثه بحماس بالغ عن ضرورة تخليد ثورتنا فنيا. بادرني الشاب قائلا: هذا عين ما نفعله، وها أنت ترى! فأجبته أن خلود العمل الفني مشروط بارتباطه بأفكار إنسانية سامية ومجردة، على نحو يتجاوز فيه المُبدع الارتباط المباشر والسهل باللحظة، على روعتها وجلالها. أخبرته أن ما رأيته في العرض ـ على عظمته وثوريته ـ محكوم حتما بالفناء، كونه مجرد شكوى وهجاء، ليس لأحداث فحسب وإنما أيضا لأسماء بعينها.
وكما هو متوقع، لم يستسغ سائلي آرائي، حتى أني أشفقت عليه من إحباط غطى وجهه، ربما لتجاوزي طراوة الانبهار والمدح إلى خشونة النقد الأنسني! خاصة وأنه بدا واضحا أن لقدرة لاتروف على التعبير عما يجيش في صدور الشباب من ثورية، صدى طيب في نفوسهم. وصفه أحدهم أمامي بأنه يرسم، وكأنه واحد منهم، يعيش بينهم. إلى هنا انتهت زيارتي إلى فعالية شباب 6 أبريل الثورية في التحرير.
والآن، وبعد أن انتهت فعاليات ثورة 25 يناير المجيدة، وبعد أن طمست يد المصلحة والخوف جدارية التحرير وغيرها ـ واللاتي هن قابلات أصلا للفناء بفعل تواضع خاماتهن ـ، وبعد أن أوشكت دولة العسكر على الزوال من الوجود، أراني أتساءل: هل كارلوس لاتروف ومسرح الشارع "الاثاري/اللاتنويري"..وغير ذلك من مظاهر إفلاسنا الفني، هل استهلاكية فنية كهذه هي حصاد زمن الفن الجميل؟!
أغلب الظن أن الأمر كذلك.."زمن الفن الجميل" محض أكذوبة كبرى من نسج بُناة الوهم، وتجرؤ وقح على المعرفة والفضيلة. إذ كيف لنبتة الفن أن تنبثق في بيئة مُلطخة بعار القهر؟!...كيف لورود الإبداع أن تتفتح في غيبة المعرفة والفضيلة ؟!
تحضرني هنا كلمات أدلى بها الفنان الراحل أحمد رمزي للتلفزيون المصري، وكان قد جاوز الثمانين من عمره، حين أخذ يحكي للمذيعة في مرارة عن زمن الفن الجميل وما صاحبه من ترويع لأهل الرأي والإبداع، وبخاصة إجبار بعض شهيرات الفن المصري على احتراف البغاء، وتصفية بعضهن أيضا، خدمة لمصر والعروبة!
ثمة شبكة شيطانية على ما يبدو، نسج حكام دولة العسكر خيوطها ببراعة، أوقعت الكثير من المفكرين ومشاهير الفن! وإلا ففيما هذا الصمت المدوي والتعامي عن هذه المخازي وغيرها، بل والاستماتة على طمس الوجه المظلم للزمن الجميل.
نجيب سرور مثلا، ذلك الفنان الأكاديمي الثائر(3)، كان ممن أخطأته شباك العسكر. من هنا تواطأ "أعداء الحياة" من غير العسكر على إذلاله وسحق آدميته!
دلوني بالله عليكم..ماذا يبقى لزمن الفن الجميل عندما نعرف من شهادة اعتماد خورشيد أن الزوج ـ أحمد خورشيد(4) ـ الذي اغتصبت زوجته جهارا وهي حامل وأجبر على أن يطلقها، ناهيك عن إجباره على أن يشهد على عقد زواجها من صلاح نصر، لم يتركه الهمج إلا بعد أن استدعوه من بيروت، وكان قد فر إليها بعاره، وسلموه عربون فيلم "الشيماء"، وأمروه بأن يظل في مصر، إعداما لمروءته.
ماذا يبقى لزمن الفن الجميل عندما نعرف أن القوادة (س.ق) ـ والتي لطالما اعتمد عليها الهمج في تجنيد حرائر مصر ـ هي مؤلفة لكتب إسلامية(منها: كتاب مساجد ودول)، وروايات تحول بعضها لأفلام سينمائية(منها: فيلم رابعة العدوية)؟!
ماذا يبقى لزمن الفن الجميل عندما تخبرنا اعتماد خورشيد في شهادتها على انحرافات صفوت الشريف، عما لقيه المبدع المصري صالح مرسي من كرم صفوت الشريف، لقاء تراجعه عن فكرة تأليف كتاب عن قصة اعتماد مع نصر وعن شهادتها في محكمة الثورة، وعما كان ينتويه من تحويل هذه القصة إلى مسلسل تليفزيوني.
اعتماد تخبرنا، بتشريح مؤلم، كيف أن الوزير صفوت الشريف ـ وقتها ـ أغدق على صالح مرسي من كرمه لطاعته، وأسند إليه كتابة أعمال مهمة من أشهر قصص الجاسوسية واختصه بكتابة سيناريوهات من ملفات المخابرات المصرية.
ماذا يبقى من الزمن الجميل وقد ترتب على هذا تعدد روائع صالح مرسي!
الحرية المسئولة هي التربة الحقيقية لانبثاق نبتة الفن
ــــــــــــــ
1. أحمد رمزي[1930-2012]: فنان مصري شهير، عاصر حكم دولة العسكر في مصر منذ قيامها في 23 يوليو 1952 وحتى سقوطها في 25 يناير 2011. رمزي وهو أحد أبرز أيقونات زمن الفن الجميل أوصى كريمته بعدم الترحيب بالتواجد الإعلامي أو تواجد زملائه الفنانين عند دفنه. (بوابة جريدة الأهرام الالكترونية، بتاريخ 29/9/2012)
2. كارلوس لاتروف: برازيلي من العرب اللبنانيين، ولد في 30 نوفمبر 1968، يعيش في البرازيل. لاتروف رسام كاريكاتير سياسي، ويعمل لحسابه الخاص. تهتم أعماله بمجموعة واسعة من الموضوعات، بما في ذلك مناهضة العولمة ومناهضة الرأسمالية ومناهضة الولايات المتحدة والتدخل العسكري. اشتهر برسوم له تصور الصراع العربي الإسرائيلي. وصف نفسه بالمثير للجدل.
3. راجع: "شهادة نجيب سرور في حق الآخر المصري"، منشورة على الانترنت.
4. في كتابها المعنون شاهدة على انحرافات صفوت الشريف، تعرفنا اعتماد بزوجها أحمد خورشيد بقولها: "كان زوجي أول مدير تصوير في مصر يحصل على الجائزة الأولى من أمريكا وحتى الآن وبسبب صفوت الشريف لم يكرم في بلده. فقد صور شيء من الخوف والشيماء كأول خبير ألوان والسوق السوداء الذي يُدرس حتى الآن في مناهج معهد السينما بالجيزة، وعمل أيضا بالتدريس، وفيلم صراع في الوادي أخذ جائزة التصوير وصراع في المينا والبوسطجي. وفي فيلم صراع في المينا تفوق تصوير الفيلم على الإخراج بشهادة الناقد الفني عثمان العنتبلي في جريدة الأهرام". اعتماد تضيف: "كان عام 1962 عاما سعيدا حيث حقق الأستوديو أرباحا طائلة وأصبحت قصة نجاحي معروفة لكل العاملين بالسينما"..